إن
الورقة التي أتقدم بها، تستند إلى آراء مفكر بلاغي حديث، تستخلص من عرضه
ما نحسبه يقدم فهما جديدا للبلاغة العربية لم يألفه الدارسون، ولم يلتفتوا
إليه في إجراءاتهم التطبيقية..1-تقديم:
كثيرا ما اعتقدنا بأن البلاغة العربية إنما هي مباحث تكميلية تضاف إلى الصنيع الأدبي تحليةً وتزيينا، وأنها غير معنية بالفكرة إيضاحا وتجلية، وأنها من المحسنات التي يدفع بها الأديب إلى ساحة كتابته لتكون زينة، وبهرجة، وتبرُّجا، غير أننا حين ننقب في المنطلقات الأولى للبلاغة العربية تتجلى لنا مسافات أخرى من الصراع الذي كانت البلاغة أحد أدواته الماضية الفاعلة من جهة، وكان هو وقودها المفعِّل لها من جهة أخرى. وأنها ما قامت في ألسنة القوم بلاغة وفصاحة واقتدارا لغويا، إلا لقهر الآخر وإفحامه، وأنها كانت في فم البليغ سحرا يجعل الباطل حقا والحق باطلا، وأنها كانت في لسان الحاكم مسوغا لفتك، وقتل، وتشريد، وأنها كانت في ذائقة الدعاة سموما تنفث في ريق، وعلقما يُداف في عسل.. وأنها حملت في أثوابها تلك كل مظاهر الغلبة والقهر والإفحام.
إن البلاغة حين يُزاح عنها نقاب الجماليات، ويُكشف فيها عن ألوان الهيئات التي تصاحب السياسي، والداعية الديني، والمتجبر الحاكم، والخطيب الذي يبرر أفعال سيده.. تتحول سريعا إلى شيء يقتضي منا ضرورة إعادة النظر، وضرورة إعادة التقييم، وضرورة إعادة التفكير في طرق الاستفادة..
إن الورقة التي أتقدم بها، تستند إلى آراء مفكر بلاغي حديث، تستخلص من عرضه ما تحسبه يقدم فهما جديدا للبلاغة العربية لم يألفه الدارسون، ولم يلتفتوا إليه في إجراءاتهم التطبيقية..
1-البلاغة ظاهرة إسلامية:
قد يكون من الملفت حقا أن ننتبه أولا إلى حقيقة تاريخية تتصل بنشأة البلاغة العربية، فلا نعود بها إلى الفترة الجاهلية لنرى في النماذج المختارة من الشعر والنثر دلائل حسنة على الصنيع البلاغي في فنون القول، فذلك أمر طبيعي على ألسنة من جبلوا على الكلام الفصيح البليغ. غير أن الهم لم يكن منصرفا في يوم من الأيام إلى البلاغة باعتبارها نشاطا يقع داخل الكلام لتزيينه وتجميله والخروج به في أبهى الحلل. وإنما كانت الفلذات البغية تتأتى للمتكلم بحسب المقامات التي يحياها بين أقرانه وذويه، فهي من كلامه بمثابة الصلب الذي يقيمه لا الزائد الذي يطرأ عليه. غير أننا مع "مصطفى ناصف" نلحظ أمرا آخر يتصل برغبة القول، وحمل الآخر على الاقتناع، وتغيير وجهته، استنادا إلى الصراع القائم بين المتحدث والسامع. وكأن فكرة الاختلاف وتعدُّد الرؤى، والمدافعة من أجل تثبيت الرأي، هي المفعِّل الأساس في قيام النشاط البلاغي. لذلك ربما:« تكون ظاهرة البلاغة ظاهرة إسلامية لا جاهلية، لأن الإسلام كان حركة صراع بين المعتقدات. والصراع بين المعتقدات هو منبت فكرة البلاغة. وليس من اليسير العثور عليه في العصر الجاهلي »([1]) وربما أثبت الشعر الجاهلي صحة هذا الرأي من خلال خلوه من مظاهر التدين وعلامات الشعائر والطقوس الدينية، وانصرافه إلى اليومي الذي يشغل الناس في حلهم وترحالهم. فلم نجد في دواوين الشعر الجاهلي قصيدة تتحدث عن مفاضلة بين معبود وآخر، أو أخرى يحاول صاحبها التأثير في غيره لنشر اعتقاد أو فكرة.
بيد أننا حين نلج ساحة العالم الإسلامي في قرنه الأول،نجد أنفسنا وجها لوجه أمام تحديات جديدة تقف في وجه الدين الجديد، إما تحاوره من داخله وإما تنابزه من خارجه، وقد كان الوطء أشد من الحركات الداخلية التي ترى في نفسها الفهم الصحيح للدين الجديد، وتخطِّئ غيرها في الجزئيات والنصوص. فإذا أدرنا نشأة البلاغة العربية على الصراع، وما يصاحبه من قول وجدل، فإن الساحة الإسلامية تقدم ذلك الفضاء الخصب لنمو أسباب القول الفصيح، وانتشاء أدوات البلاغة، واتخذها في نهاية المطاف وسائل للسيطرة التوجيه. لأن:« كلمة الصراع تنطوي على تجاذب وتنافر وما بينهما من حركة، ويعبر عن هذه الحركة عادة بلفظ مثل الإقناع والجدل، والحجاج. ومن ثم نستطيع أن نذهب إلى أن البلاغة مرادفة لبعض مظاهر الصراع العقائدي في اللغة.» ([2]) ما دام الاستعمال هو الذي يلون اللغة ويصبغها بصبغته الظاهرة. فإذا علمنا أن ما يصطرع في الساحة الإسلامية، جدلٌ قولي قد يرفده السيف في لحظات التأزم القصوى، أدركنا ما للبلاغة والاقتدار القولي من مفعول في المتخاصمين الذين يطرحون آراءهم طرحا قد لا يتَّسم في كثير من الأوقات بالروية والهدوء، وإنما يرفعونه في أحايين كثيرة على شبا السيوف والرماح.
وكلما قام الصراع على ثلاثية الإقناع، والجدل، والحجاج.. كلما اعتمد على أفانين القول، يُخرج بها مادته إخراجا يمكِّنه من إذعان الآخر، والسيطرة عليه. فليس من باب الجدل، ولا من مطالب الحجاج إحقاق حق،أو إبطال باطل، وإنما مطلبه الأول والأخير حمل الآخر على اعتقاد جديد،أيًّا كان ذلك الاعتقاد، وأيًّا كانت مادته، ومن ثم َّإفحام الخصم وإسكاته وتبكيته. والملاحظ أخيرا أن الأدب الجاهلي: شعرا أو نثرا، لم يحمل شيئا من هذا الصراع، ولم يفصح عن أي آلية من آلياته في دواوينه ومتونه. ولذلك لم يجد العربي الأول حاجة إلى تشقيق القول في المسائل البلاغية التي لم يعرفها إلا أنماطا في القول يستعين بها عند ضرورات التعبير وحسب.
لقد نبه القرآن الكريم إلى حقيقة الجدل حينما أشار إلى الصراع الذي كان يدور دوما بين الأنبياء والرسل وأقوامهم ممن يرفضون الدين، فيقفون في وجه الدعوة وقفة المجادل المصارع . ويسعون إلى استمالة البقية الباقية من ذويهم إلى صحة مذهبهم، وسلامة اعتقادهم. ويستعملون لذلك ما أوتوا من طاقات القول في الجدل والإقناع. والقرآن الكريم: « أوضح دليل على هذا الزعم. وهو يشير إلى أن من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا.. هذا ما يسمى بالاستمالة وأشار إلى القول (الباطل) الذي يغري بالاستماع إليه، والحق البريء من الزينة. »([3]) وكأن القدرة على تشقيق القول قد تتخطى في أحايين كثيرة حدود المتعارف عليه من القيم، كالحقيقة، والصدق، والباطل، فتزيفها تزييفا يُظهرها على غير طبيعتها. ذلك هو مفعول "السحر" المنوط بأسباب القول، المتصل بأفانين البلاغة، الذي يبلد الحس، فيستدرج السامع إلى بغية المتكلم، فينقاد له انقيادا. كل ذلك والمتحدث يجانب الحق، وينتصر للباطل،ويتنكر للعقل. ورب باطل وجد في ألسنة البلغاء شُعَبا للتفنن في الإخراج والبهرجة فأكسب ذويه سلطة ونفوذا، ورب حق لم يصاف في مخرجيه إلا عيا وحصرا وضيق صدر، فلم يُخلف في سامعيه إلا تولِّيا وصدودا.
2-البلاغة:صدق وكذب:
ما من شك إذا أننا أمام صورة جديدة لفهم البلاغة العربية، وأننا حين ندرجها في إطار الصراع الديني والسياسي والمذهبي، نكشف عن وجه مغيب من وجوهها لم تطله الدراسات التي لا ترى فيها سوى زينة قولية تقف عند حدود الجماليات ولا تتخطاها إلى أبعاد أخرى تتصل بالقيم التي يركن إليها الإنسان في تعامله مع ذاته والآخرين. إنه الوجه الخفي الذي يُطل علينا من وراء تكييف القيم وتدليسها، وإخراجها في أثواب ليست لها بالضرورة. وجه يكشف القناع عن المفعول السحري للبلاغة في تصديه للمخالف المناهض الذي تداريه وتلتف حول مداركه وأحاسيسه لتصب مادتها في روعه فيستكين لها.
إن البلاغة في ثوب الصراع، تتأرجح بين الصدق والكذب، بين الحق والباطل، وتضع طاقتها القولية، وعدتها الإبلاغية،في خدمة كل طرف بحسب القائلين بها. وهي في هذا الموقف تخلص إخلاصا ملحوظا لما أسميناه ب"المقام والمقال" لأن المناسبة بينهما مناسبة نفعية لا تشترط أبدا قيمة، وإنما ما يعود على صاحب المقال من المقام من فائدة. ولا تتجلى قيمة "المناسبة" إلا من خلال قيمة "الفائدة" العائدة على المتكلم، ولن يكون:« تاريخ البلاغة بمعزل عن نوعين من اللغة: أحدهما صادق أو حقيقي. والثاني خلاب ومستحب. قد يجتمع هذان النمطان في قول واحد، وقد يفترقان. ولكن التمييز بينهما ضروري. فربما يكون للحق ميزات ظاهرة، وربما يجتمع للباطل أوجه استحسان باهرة.»([4]) ذلك هو منطق البلاغة البراغماتي، الذي لا يحفل كثيرا بالصدق والحق، وإنما ينتصر دوما إلى "الظهور والبيان" و"الحجة والإذعان" ولو أننا تتبعنا التعريفات التي ساقها أهل البلاغة لوجدنا فيها هذا الوجه الخفي يطل علينا كلما تجاوزنا حدود الجماليات والزخرف التي تعودنا الوقوف إزاءها فيما يشبه الدهشة والانبهار. ولو عدنا إلى أشهر التعريفات التي يرددها الدارسون، والتي تلخص البلاغة في:"إيجاد اللغة التي تناسب الموقف" واستبعدنا الشطر الجمالي الذي توحي به العبارة، وقفنا وجها لوجه أمام حقيقة عارية للبلاغة، لا ترى في اللغة إلا ذلك الاستعمال الذي يروض الموقف فيخرجه في الهيئة التي يريدها المتكلم، فينقلب الواقع بين يديه إلى حقيقة أخرى غير تلك التي يعرفها العامة من الناس. إنه حال الخطباء في التجمعات السياسية والمذهبية، أو حينما يسألون فيجيبون بما يرد عنهم السائلين حيرى مفحمين.
3-البلاغة: حمد وذم:
إذا كانت الصفة الأولى للبلاغة العربية تتأرجح بين الصدق والكذب في تعيينها العام، فإن صفة البليغ التي تلحق المتكلم تحمل هي الأخرى تأرجحا بين الحمد والذم. ذلك أننا حين نصف شخصا بالبليغ قد لا نفعل ذلك حمدا ومدحا، وإنما نلجأ لهذه الصفة تعبيرا عن قيمة غير أخلاقية تستعمل قدرتها القولية في غير محلها، فتخرج لنا الكذب صدقا والصق كذبا، وتدفع المستمع إلى اعتقاد مشين. لأننا إذا تأملنا: « لفظ البلاغة من الناحية التاريخية كان دالا في بعض الأحيان على ما يمكن أن نسميه باسم جمال الشبهات. وكان وصف المرء بأنه بليغ يمكن أن يقصد منه وجهان. أحدهما أقرب إلى الحمد والثاني أقرب إلى الذم والاحتراس.» ([5]) فقد أخرج ابن حبان في صحيحه قال :«أخبرنا أبو يعلى، حدثنا خليفة بن خياط، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين قال، قال رسول الله r ثَمََّ أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان »([6]) والحديث من باب التحذير الواقع في مستقبل الأيام. وكأن الآتي سينفتح أمام طائفة من الناس تستعمل "علمها اللساني" في الجدل بغية إخراج الناس عن جادتهم. وسيكونون خطرا على الناس في استنادهم إلى طاقاتهم اللغوية وأدائهم البليغ من أجل تزييف الحقائق والتدليس على الحق. ومن ثم يحذر الرسول r أصحابه وسائر المسلمين من هذه الطائفة التي ستكون لها صولات وجولات في حاضر المسلمين وفي مستقبلهم.
لقد أدرك علماء العربية منذ القدم هذا الشرط الخفي في البلاغة وإن سارعوا إلى تمجيدها، ودفع الناس إليها حمدا وتعليما، غير أنهم ذكَّروا بما يعروها من دخن. فهذا صاحب "الإمتاع والمؤانسة" يقول عن البلاغة:« هي الجامعة لثمرات العقل، لأنها تحقُّ الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف، وأغراض تأتلف، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر، وإباءٍ وإذعان، وطاعةٍ وعصيان، وعدلٍ وعدول، وكفر وإيمان، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل.» ([7])إنها في مبتدى الأمر وسيلة من وسائل إحقاق الحق، وإبطال الباطل وفق ما يجب أن يكون الأمر عليه. غير أنها ذات حد ثان، ينصرف إلى قلب الموازين وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق، جريا وراء أحوال الدنيا من خير وشر، وإباء وإذعان، وطاعة وعصيان، وعدل وعدول، وكفر وإيمان.. وكأنها تتأرجح دوما بين النقيضين، تخدم هذا وذاك بنفس الطاقات الكامنة فيها، فتصير الشر خيرا وتزينه في أعين الناس،وتلين الأبي الشديد، فترخي زمامه، وتدلي طوله،فينقاد مذعنا، وتفت في عضد الطاعات لتجعلها عصيانا وتمردا، وتميل بالعدل قليلا قليلا حتى يتسمى عدولا، وتنحرف بالإيمان شكا وارتيابا ليؤول إلى كفران وإلحاد.
إن أبا حيان ليدرك جيدا أن القضية التي يعرضها الساعة، لن يقبلها أناس لم يجدوا فيها سوى زخرف القول وفتنته، لذلك يسارع إلى تحديدها على نحو لا يدع مجالا للشك. إن البلاغة في حد العقل نشاط خيِّر يرقى على كل التهم، غير أنها في حد العمل وسيلة يركبها كل راكب، ويستعملها كل مستعمل لغايات تختلف باختلاف الأهواء والنيات. وإذا نحن تأملنا قول الشاعر:
كثيرا ما اعتقدنا بأن البلاغة العربية إنما هي مباحث تكميلية تضاف إلى الصنيع الأدبي تحليةً وتزيينا، وأنها غير معنية بالفكرة إيضاحا وتجلية، وأنها من المحسنات التي يدفع بها الأديب إلى ساحة كتابته لتكون زينة، وبهرجة، وتبرُّجا، غير أننا حين ننقب في المنطلقات الأولى للبلاغة العربية تتجلى لنا مسافات أخرى من الصراع الذي كانت البلاغة أحد أدواته الماضية الفاعلة من جهة، وكان هو وقودها المفعِّل لها من جهة أخرى. وأنها ما قامت في ألسنة القوم بلاغة وفصاحة واقتدارا لغويا، إلا لقهر الآخر وإفحامه، وأنها كانت في فم البليغ سحرا يجعل الباطل حقا والحق باطلا، وأنها كانت في لسان الحاكم مسوغا لفتك، وقتل، وتشريد، وأنها كانت في ذائقة الدعاة سموما تنفث في ريق، وعلقما يُداف في عسل.. وأنها حملت في أثوابها تلك كل مظاهر الغلبة والقهر والإفحام.
إن البلاغة حين يُزاح عنها نقاب الجماليات، ويُكشف فيها عن ألوان الهيئات التي تصاحب السياسي، والداعية الديني، والمتجبر الحاكم، والخطيب الذي يبرر أفعال سيده.. تتحول سريعا إلى شيء يقتضي منا ضرورة إعادة النظر، وضرورة إعادة التقييم، وضرورة إعادة التفكير في طرق الاستفادة..
إن الورقة التي أتقدم بها، تستند إلى آراء مفكر بلاغي حديث، تستخلص من عرضه ما تحسبه يقدم فهما جديدا للبلاغة العربية لم يألفه الدارسون، ولم يلتفتوا إليه في إجراءاتهم التطبيقية..
1-البلاغة ظاهرة إسلامية:
قد يكون من الملفت حقا أن ننتبه أولا إلى حقيقة تاريخية تتصل بنشأة البلاغة العربية، فلا نعود بها إلى الفترة الجاهلية لنرى في النماذج المختارة من الشعر والنثر دلائل حسنة على الصنيع البلاغي في فنون القول، فذلك أمر طبيعي على ألسنة من جبلوا على الكلام الفصيح البليغ. غير أن الهم لم يكن منصرفا في يوم من الأيام إلى البلاغة باعتبارها نشاطا يقع داخل الكلام لتزيينه وتجميله والخروج به في أبهى الحلل. وإنما كانت الفلذات البغية تتأتى للمتكلم بحسب المقامات التي يحياها بين أقرانه وذويه، فهي من كلامه بمثابة الصلب الذي يقيمه لا الزائد الذي يطرأ عليه. غير أننا مع "مصطفى ناصف" نلحظ أمرا آخر يتصل برغبة القول، وحمل الآخر على الاقتناع، وتغيير وجهته، استنادا إلى الصراع القائم بين المتحدث والسامع. وكأن فكرة الاختلاف وتعدُّد الرؤى، والمدافعة من أجل تثبيت الرأي، هي المفعِّل الأساس في قيام النشاط البلاغي. لذلك ربما:« تكون ظاهرة البلاغة ظاهرة إسلامية لا جاهلية، لأن الإسلام كان حركة صراع بين المعتقدات. والصراع بين المعتقدات هو منبت فكرة البلاغة. وليس من اليسير العثور عليه في العصر الجاهلي »([1]) وربما أثبت الشعر الجاهلي صحة هذا الرأي من خلال خلوه من مظاهر التدين وعلامات الشعائر والطقوس الدينية، وانصرافه إلى اليومي الذي يشغل الناس في حلهم وترحالهم. فلم نجد في دواوين الشعر الجاهلي قصيدة تتحدث عن مفاضلة بين معبود وآخر، أو أخرى يحاول صاحبها التأثير في غيره لنشر اعتقاد أو فكرة.
بيد أننا حين نلج ساحة العالم الإسلامي في قرنه الأول،نجد أنفسنا وجها لوجه أمام تحديات جديدة تقف في وجه الدين الجديد، إما تحاوره من داخله وإما تنابزه من خارجه، وقد كان الوطء أشد من الحركات الداخلية التي ترى في نفسها الفهم الصحيح للدين الجديد، وتخطِّئ غيرها في الجزئيات والنصوص. فإذا أدرنا نشأة البلاغة العربية على الصراع، وما يصاحبه من قول وجدل، فإن الساحة الإسلامية تقدم ذلك الفضاء الخصب لنمو أسباب القول الفصيح، وانتشاء أدوات البلاغة، واتخذها في نهاية المطاف وسائل للسيطرة التوجيه. لأن:« كلمة الصراع تنطوي على تجاذب وتنافر وما بينهما من حركة، ويعبر عن هذه الحركة عادة بلفظ مثل الإقناع والجدل، والحجاج. ومن ثم نستطيع أن نذهب إلى أن البلاغة مرادفة لبعض مظاهر الصراع العقائدي في اللغة.» ([2]) ما دام الاستعمال هو الذي يلون اللغة ويصبغها بصبغته الظاهرة. فإذا علمنا أن ما يصطرع في الساحة الإسلامية، جدلٌ قولي قد يرفده السيف في لحظات التأزم القصوى، أدركنا ما للبلاغة والاقتدار القولي من مفعول في المتخاصمين الذين يطرحون آراءهم طرحا قد لا يتَّسم في كثير من الأوقات بالروية والهدوء، وإنما يرفعونه في أحايين كثيرة على شبا السيوف والرماح.
وكلما قام الصراع على ثلاثية الإقناع، والجدل، والحجاج.. كلما اعتمد على أفانين القول، يُخرج بها مادته إخراجا يمكِّنه من إذعان الآخر، والسيطرة عليه. فليس من باب الجدل، ولا من مطالب الحجاج إحقاق حق،أو إبطال باطل، وإنما مطلبه الأول والأخير حمل الآخر على اعتقاد جديد،أيًّا كان ذلك الاعتقاد، وأيًّا كانت مادته، ومن ثم َّإفحام الخصم وإسكاته وتبكيته. والملاحظ أخيرا أن الأدب الجاهلي: شعرا أو نثرا، لم يحمل شيئا من هذا الصراع، ولم يفصح عن أي آلية من آلياته في دواوينه ومتونه. ولذلك لم يجد العربي الأول حاجة إلى تشقيق القول في المسائل البلاغية التي لم يعرفها إلا أنماطا في القول يستعين بها عند ضرورات التعبير وحسب.
لقد نبه القرآن الكريم إلى حقيقة الجدل حينما أشار إلى الصراع الذي كان يدور دوما بين الأنبياء والرسل وأقوامهم ممن يرفضون الدين، فيقفون في وجه الدعوة وقفة المجادل المصارع . ويسعون إلى استمالة البقية الباقية من ذويهم إلى صحة مذهبهم، وسلامة اعتقادهم. ويستعملون لذلك ما أوتوا من طاقات القول في الجدل والإقناع. والقرآن الكريم: « أوضح دليل على هذا الزعم. وهو يشير إلى أن من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا.. هذا ما يسمى بالاستمالة وأشار إلى القول (الباطل) الذي يغري بالاستماع إليه، والحق البريء من الزينة. »([3]) وكأن القدرة على تشقيق القول قد تتخطى في أحايين كثيرة حدود المتعارف عليه من القيم، كالحقيقة، والصدق، والباطل، فتزيفها تزييفا يُظهرها على غير طبيعتها. ذلك هو مفعول "السحر" المنوط بأسباب القول، المتصل بأفانين البلاغة، الذي يبلد الحس، فيستدرج السامع إلى بغية المتكلم، فينقاد له انقيادا. كل ذلك والمتحدث يجانب الحق، وينتصر للباطل،ويتنكر للعقل. ورب باطل وجد في ألسنة البلغاء شُعَبا للتفنن في الإخراج والبهرجة فأكسب ذويه سلطة ونفوذا، ورب حق لم يصاف في مخرجيه إلا عيا وحصرا وضيق صدر، فلم يُخلف في سامعيه إلا تولِّيا وصدودا.
2-البلاغة:صدق وكذب:
ما من شك إذا أننا أمام صورة جديدة لفهم البلاغة العربية، وأننا حين ندرجها في إطار الصراع الديني والسياسي والمذهبي، نكشف عن وجه مغيب من وجوهها لم تطله الدراسات التي لا ترى فيها سوى زينة قولية تقف عند حدود الجماليات ولا تتخطاها إلى أبعاد أخرى تتصل بالقيم التي يركن إليها الإنسان في تعامله مع ذاته والآخرين. إنه الوجه الخفي الذي يُطل علينا من وراء تكييف القيم وتدليسها، وإخراجها في أثواب ليست لها بالضرورة. وجه يكشف القناع عن المفعول السحري للبلاغة في تصديه للمخالف المناهض الذي تداريه وتلتف حول مداركه وأحاسيسه لتصب مادتها في روعه فيستكين لها.
إن البلاغة في ثوب الصراع، تتأرجح بين الصدق والكذب، بين الحق والباطل، وتضع طاقتها القولية، وعدتها الإبلاغية،في خدمة كل طرف بحسب القائلين بها. وهي في هذا الموقف تخلص إخلاصا ملحوظا لما أسميناه ب"المقام والمقال" لأن المناسبة بينهما مناسبة نفعية لا تشترط أبدا قيمة، وإنما ما يعود على صاحب المقال من المقام من فائدة. ولا تتجلى قيمة "المناسبة" إلا من خلال قيمة "الفائدة" العائدة على المتكلم، ولن يكون:« تاريخ البلاغة بمعزل عن نوعين من اللغة: أحدهما صادق أو حقيقي. والثاني خلاب ومستحب. قد يجتمع هذان النمطان في قول واحد، وقد يفترقان. ولكن التمييز بينهما ضروري. فربما يكون للحق ميزات ظاهرة، وربما يجتمع للباطل أوجه استحسان باهرة.»([4]) ذلك هو منطق البلاغة البراغماتي، الذي لا يحفل كثيرا بالصدق والحق، وإنما ينتصر دوما إلى "الظهور والبيان" و"الحجة والإذعان" ولو أننا تتبعنا التعريفات التي ساقها أهل البلاغة لوجدنا فيها هذا الوجه الخفي يطل علينا كلما تجاوزنا حدود الجماليات والزخرف التي تعودنا الوقوف إزاءها فيما يشبه الدهشة والانبهار. ولو عدنا إلى أشهر التعريفات التي يرددها الدارسون، والتي تلخص البلاغة في:"إيجاد اللغة التي تناسب الموقف" واستبعدنا الشطر الجمالي الذي توحي به العبارة، وقفنا وجها لوجه أمام حقيقة عارية للبلاغة، لا ترى في اللغة إلا ذلك الاستعمال الذي يروض الموقف فيخرجه في الهيئة التي يريدها المتكلم، فينقلب الواقع بين يديه إلى حقيقة أخرى غير تلك التي يعرفها العامة من الناس. إنه حال الخطباء في التجمعات السياسية والمذهبية، أو حينما يسألون فيجيبون بما يرد عنهم السائلين حيرى مفحمين.
3-البلاغة: حمد وذم:
إذا كانت الصفة الأولى للبلاغة العربية تتأرجح بين الصدق والكذب في تعيينها العام، فإن صفة البليغ التي تلحق المتكلم تحمل هي الأخرى تأرجحا بين الحمد والذم. ذلك أننا حين نصف شخصا بالبليغ قد لا نفعل ذلك حمدا ومدحا، وإنما نلجأ لهذه الصفة تعبيرا عن قيمة غير أخلاقية تستعمل قدرتها القولية في غير محلها، فتخرج لنا الكذب صدقا والصق كذبا، وتدفع المستمع إلى اعتقاد مشين. لأننا إذا تأملنا: « لفظ البلاغة من الناحية التاريخية كان دالا في بعض الأحيان على ما يمكن أن نسميه باسم جمال الشبهات. وكان وصف المرء بأنه بليغ يمكن أن يقصد منه وجهان. أحدهما أقرب إلى الحمد والثاني أقرب إلى الذم والاحتراس.» ([5]) فقد أخرج ابن حبان في صحيحه قال :«أخبرنا أبو يعلى، حدثنا خليفة بن خياط، حدثنا خالد بن الحارث، حدثنا حسين المعلم عن عبد الله بن بريدة عن عمران بن حصين قال، قال رسول الله r ثَمََّ أخوف ما أخاف عليكم جدال المنافق عليم اللسان »([6]) والحديث من باب التحذير الواقع في مستقبل الأيام. وكأن الآتي سينفتح أمام طائفة من الناس تستعمل "علمها اللساني" في الجدل بغية إخراج الناس عن جادتهم. وسيكونون خطرا على الناس في استنادهم إلى طاقاتهم اللغوية وأدائهم البليغ من أجل تزييف الحقائق والتدليس على الحق. ومن ثم يحذر الرسول r أصحابه وسائر المسلمين من هذه الطائفة التي ستكون لها صولات وجولات في حاضر المسلمين وفي مستقبلهم.
لقد أدرك علماء العربية منذ القدم هذا الشرط الخفي في البلاغة وإن سارعوا إلى تمجيدها، ودفع الناس إليها حمدا وتعليما، غير أنهم ذكَّروا بما يعروها من دخن. فهذا صاحب "الإمتاع والمؤانسة" يقول عن البلاغة:« هي الجامعة لثمرات العقل، لأنها تحقُّ الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه؛ ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تختلف، وأغراض تأتلف، وأمورٍ لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر، وإباءٍ وإذعان، وطاعةٍ وعصيان، وعدلٍ وعدول، وكفر وإيمان، والحاجة تدعو إلى صانع البلاغة وواضع الحكمة وصاحب البيان والخطابة؛ وهذا هو حد العقل والآخر حد العمل.» ([7])إنها في مبتدى الأمر وسيلة من وسائل إحقاق الحق، وإبطال الباطل وفق ما يجب أن يكون الأمر عليه. غير أنها ذات حد ثان، ينصرف إلى قلب الموازين وتحويل الحق إلى باطل والباطل إلى حق، جريا وراء أحوال الدنيا من خير وشر، وإباء وإذعان، وطاعة وعصيان، وعدل وعدول، وكفر وإيمان.. وكأنها تتأرجح دوما بين النقيضين، تخدم هذا وذاك بنفس الطاقات الكامنة فيها، فتصير الشر خيرا وتزينه في أعين الناس،وتلين الأبي الشديد، فترخي زمامه، وتدلي طوله،فينقاد مذعنا، وتفت في عضد الطاعات لتجعلها عصيانا وتمردا، وتميل بالعدل قليلا قليلا حتى يتسمى عدولا، وتنحرف بالإيمان شكا وارتيابا ليؤول إلى كفران وإلحاد.
إن أبا حيان ليدرك جيدا أن القضية التي يعرضها الساعة، لن يقبلها أناس لم يجدوا فيها سوى زخرف القول وفتنته، لذلك يسارع إلى تحديدها على نحو لا يدع مجالا للشك. إن البلاغة في حد العقل نشاط خيِّر يرقى على كل التهم، غير أنها في حد العمل وسيلة يركبها كل راكب، ويستعملها كل مستعمل لغايات تختلف باختلاف الأهواء والنيات. وإذا نحن تأملنا قول الشاعر:
ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو
لَ بطُول الإسهاب والإكثار
إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع
نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ
ألفينا إدراك
البلاغة في معنى الإيجاز يقف عند حدي دخول القضية والصدور عنها تلطفا،وكأن
الشأن كله ليس في إصابة الحق والحقيقة بقدر ما يكون الشأن كله في كيفية
التخلص من الموقف لصالح المتحدث. فليس من ديدن البلاغة الاكتراث للمسائل
الأخلاقية: من حق وصدق وعدل.. وإنما اكتراثها لكيفيات الورود والصدور من
القضايا التي يتلبسها الموقف.
4-البلاغة، جدل وقهر:
لطالما اعتقدنا أن الجدل في أي مستوى من مستوياته، إنما يشير إلى حرية الرأي. وأنه الوسيلة التي تكفل لكثير من الناس بسط أفكارهم وعرضها على مشرحة النقد، والخروج بها صافية بعد تهذيبها من الشوائب، وإخصابها بما يستجد عليها من أفكار، وما يتولد من الدائرة الجدلية فيضاف إليها مُجددا أنساقها، مُقويا حجتها. لذلك قد يبدو الجدل في ظاهر الأمر مظهرا من مظاهر حرية العقل:« لكنه في الحقيقة غير ذلك. فهو في الاصطلاح القرآني مرادف لما نسميه باسم تحكم الأفكار السابقة قبل الدخول في الموضوع أي: التبييت. ومرادف لتبرير المواقف والبحث عن الغلبة.» ([8]) لأن المجادل صاحب فكرة استحوذت عليه فصارت معتقدا ينافح عنه ويدعو له، ومن ثمَّ فالجدل بالنسبة إليه وسيلة للهيمنة على الآخر واستدراجه لفكرته، والتسلط عليه من خلال الحجج التي يسوقها بين يدي فكرته. وأن التبييت إضمار لخطط تعرف أهدافَها ومراميها فتتوسل لها كافة الوسائل التي يتيحها الجدل، ومنها البلاغة والقدرة على إخراج الكلام في أفانين تزلزل قواعد القيم، وتشكك في ثوابت المعتقدات.
أما إذا عدنا إلى أصل الكلمة وضعًا، ألفينا فيها الدلالة على الحبل الشديد المجدول الذي تقاد به الناقة، وكأنه علامة على ذلك الشدِّ المستمر للطرف الآخر، وجرِّه إلى مراد المتكلم، شدا قويا عنيفا، مادام المصطلح لم يتخلّ عن دلالة الشدَّة، والاستعلاء، والمخاصمة. فالجدل هو: « اللَّدَدُ في الخُصومة والقدرةُ عليها وقد جادله مجادلة وجِدالاً، ورجل جَدِل ومِجْدَل ومِجْدال شديد الجَدَل. ويقال جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلاً أَي غلبته ورجل جَدِل إِذا كان أَقوى في الخِصام وجادَله أَي خاصمه مُجادلة وجِدالاً. والاسم الجَدَل وهو شدَّة الخصومة وفي الحديث: ما أُوتَي الجَدَل قومٌ إِلاَّ ضَلُّوا. الجَدَل مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة المناظرة والمخاصمة»([9]) وكأننا في الجدل أمام طرفين متخاصمين ابتداء، لا يقوم اللقاء بينهما على المسالمة والمهادنة، وإنما يقوم على اللَّدد والخصومة. ومن ثمَّ فالعلاقة التي يقيمها الجدل لا تبنى على حرية الرأي ورجاحة العقل، وإنما قيمها على القهر والغلبة يفسر كثيرا من المواقف التي يذم فيها الجدل، يسلب من كل فضيلة، لأنه سيقوم على مرتكزين: القدرة على الإقناع، والقدرة على الإلحاح والمشاكسة. ومنها كان الضلال الذي أشار إليه الرسول
5-البلاغة، لغة المعارضة:
إذا كنا قد خلصنا إلى أن الجدل أسلوب من أساليب القهر والتسلط، وأنه يتوسل البلاغة لجر الآخر إلى اعتقاد جديد، جرا قد يتسم في كثير من الأحيان بالعنف والشدة،وأن الجدل والحجاج من أساليب البلاغة، فذلك يجعل منها: « ظاهرة إسلامية اضطر إليها فريق من المعارضين. وارتبط فن البلاغة بفن المعارضة، واضطر إليها أصحاب الأحزاب السياسية والفرق الدينية فيما بعد.»([10]) ولم تكن المعارضة التي عرفتها الساحة الإسلامية في قرونها الأولى، معارضة سلمية تتوخى الحوار والجدل، وإنما كانت في كثير من الأوقات معارضة مسلحة، تحشد سوادها بالخطب والمناظرات، وتسعى إلى كسب البلغاء إلى قضيتها لينافحوا عنها في المساجد والأسواق وتجمعات الجند. وكذلك فعل الخوارج والشيعة من جانب،وكذلك صنع بنوا أمية ومن والاهم من جهة أخرى.
إن المتصفح لكتب الأدب والتاريخ، وما خطته أيدي الفرق والمذاهب ليكتشف حقيقة البلاغة العربية حينما تلبست قضايا السياسة والدين والأهواء، واستعملت طاقتها في إخراج كل ذلك في أثواب الحق كما يفعل الساحر حين يسحر أعين الناس ويسترهبهم ويبدي لهم الأشياء على غير حقيقتها. وقد بيَّن :« الإسلام منذ لحظاته الأولى ما يكتنف بلاغة القول من خطر أحيانا. وحينما قال الرسول r( إن من البيان لسحرا) جمع بين عدة اعتبارات: بين محبة القول والرغبة في الاستماع إليه من ناحية، والتعوذ من البيان الساحر إذا ما ملك عقل الإنسان ونفسه.»([11]) ومكمن الخطر في السحر البلاغي يتجلى في الإذعان، تلك الحال الشبيهة بالانقياد المستسلم الذي يتخلى فيه صاحبه عن كل مقوماته العقلية، وأحاسيسه القلبية، فيكون تابعا، راضخا، مهزوما أبد الدهر، مقلدا، يفتقر إلى أدنى فكرة خاصة. إنها طبيعة المسحور الذي يستولي عليه السحر فيسلبه العقل والقلب معا. وحينما نقل السحر إلى القول والبيان صار: « يُقصد به إغراء الكلام والقدرة غير العادية على أن يصرفك إليه دون أن يكون لذلك سبب واضح أو حجة مقنعة. ومن هنا يطلق لفظ السحر على كل ما يخلبك إليه دون أن تعرف سببا للخلابة.»([12])
4-البلاغة، جدل وقهر:
لطالما اعتقدنا أن الجدل في أي مستوى من مستوياته، إنما يشير إلى حرية الرأي. وأنه الوسيلة التي تكفل لكثير من الناس بسط أفكارهم وعرضها على مشرحة النقد، والخروج بها صافية بعد تهذيبها من الشوائب، وإخصابها بما يستجد عليها من أفكار، وما يتولد من الدائرة الجدلية فيضاف إليها مُجددا أنساقها، مُقويا حجتها. لذلك قد يبدو الجدل في ظاهر الأمر مظهرا من مظاهر حرية العقل:« لكنه في الحقيقة غير ذلك. فهو في الاصطلاح القرآني مرادف لما نسميه باسم تحكم الأفكار السابقة قبل الدخول في الموضوع أي: التبييت. ومرادف لتبرير المواقف والبحث عن الغلبة.» ([8]) لأن المجادل صاحب فكرة استحوذت عليه فصارت معتقدا ينافح عنه ويدعو له، ومن ثمَّ فالجدل بالنسبة إليه وسيلة للهيمنة على الآخر واستدراجه لفكرته، والتسلط عليه من خلال الحجج التي يسوقها بين يدي فكرته. وأن التبييت إضمار لخطط تعرف أهدافَها ومراميها فتتوسل لها كافة الوسائل التي يتيحها الجدل، ومنها البلاغة والقدرة على إخراج الكلام في أفانين تزلزل قواعد القيم، وتشكك في ثوابت المعتقدات.
أما إذا عدنا إلى أصل الكلمة وضعًا، ألفينا فيها الدلالة على الحبل الشديد المجدول الذي تقاد به الناقة، وكأنه علامة على ذلك الشدِّ المستمر للطرف الآخر، وجرِّه إلى مراد المتكلم، شدا قويا عنيفا، مادام المصطلح لم يتخلّ عن دلالة الشدَّة، والاستعلاء، والمخاصمة. فالجدل هو: « اللَّدَدُ في الخُصومة والقدرةُ عليها وقد جادله مجادلة وجِدالاً، ورجل جَدِل ومِجْدَل ومِجْدال شديد الجَدَل. ويقال جادَلْت الرجل فجَدَلته جَدْلاً أَي غلبته ورجل جَدِل إِذا كان أَقوى في الخِصام وجادَله أَي خاصمه مُجادلة وجِدالاً. والاسم الجَدَل وهو شدَّة الخصومة وفي الحديث: ما أُوتَي الجَدَل قومٌ إِلاَّ ضَلُّوا. الجَدَل مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة المناظرة والمخاصمة»([9]) وكأننا في الجدل أمام طرفين متخاصمين ابتداء، لا يقوم اللقاء بينهما على المسالمة والمهادنة، وإنما يقوم على اللَّدد والخصومة. ومن ثمَّ فالعلاقة التي يقيمها الجدل لا تبنى على حرية الرأي ورجاحة العقل، وإنما قيمها على القهر والغلبة يفسر كثيرا من المواقف التي يذم فيها الجدل، يسلب من كل فضيلة، لأنه سيقوم على مرتكزين: القدرة على الإقناع، والقدرة على الإلحاح والمشاكسة. ومنها كان الضلال الذي أشار إليه الرسول
5-البلاغة، لغة المعارضة:
إذا كنا قد خلصنا إلى أن الجدل أسلوب من أساليب القهر والتسلط، وأنه يتوسل البلاغة لجر الآخر إلى اعتقاد جديد، جرا قد يتسم في كثير من الأحيان بالعنف والشدة،وأن الجدل والحجاج من أساليب البلاغة، فذلك يجعل منها: « ظاهرة إسلامية اضطر إليها فريق من المعارضين. وارتبط فن البلاغة بفن المعارضة، واضطر إليها أصحاب الأحزاب السياسية والفرق الدينية فيما بعد.»([10]) ولم تكن المعارضة التي عرفتها الساحة الإسلامية في قرونها الأولى، معارضة سلمية تتوخى الحوار والجدل، وإنما كانت في كثير من الأوقات معارضة مسلحة، تحشد سوادها بالخطب والمناظرات، وتسعى إلى كسب البلغاء إلى قضيتها لينافحوا عنها في المساجد والأسواق وتجمعات الجند. وكذلك فعل الخوارج والشيعة من جانب،وكذلك صنع بنوا أمية ومن والاهم من جهة أخرى.
إن المتصفح لكتب الأدب والتاريخ، وما خطته أيدي الفرق والمذاهب ليكتشف حقيقة البلاغة العربية حينما تلبست قضايا السياسة والدين والأهواء، واستعملت طاقتها في إخراج كل ذلك في أثواب الحق كما يفعل الساحر حين يسحر أعين الناس ويسترهبهم ويبدي لهم الأشياء على غير حقيقتها. وقد بيَّن :« الإسلام منذ لحظاته الأولى ما يكتنف بلاغة القول من خطر أحيانا. وحينما قال الرسول r( إن من البيان لسحرا) جمع بين عدة اعتبارات: بين محبة القول والرغبة في الاستماع إليه من ناحية، والتعوذ من البيان الساحر إذا ما ملك عقل الإنسان ونفسه.»([11]) ومكمن الخطر في السحر البلاغي يتجلى في الإذعان، تلك الحال الشبيهة بالانقياد المستسلم الذي يتخلى فيه صاحبه عن كل مقوماته العقلية، وأحاسيسه القلبية، فيكون تابعا، راضخا، مهزوما أبد الدهر، مقلدا، يفتقر إلى أدنى فكرة خاصة. إنها طبيعة المسحور الذي يستولي عليه السحر فيسلبه العقل والقلب معا. وحينما نقل السحر إلى القول والبيان صار: « يُقصد به إغراء الكلام والقدرة غير العادية على أن يصرفك إليه دون أن يكون لذلك سبب واضح أو حجة مقنعة. ومن هنا يطلق لفظ السحر على كل ما يخلبك إليه دون أن تعرف سببا للخلابة.»([12])
هوامش.
- مصطفى ناصف.[1]
- نفس، ص:[2]
- نفس،ص:[3]
- نفس، ص:[4]
- نفس، ص:[5]
- ابن حبان. صحيح ابن حبان.ج:1ص:281.(تح)شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة.ط2. بيروت 1414/1993.[6]
- أبو حيان التوحيدي. الإمتاع والمؤانسة. ج1.ص:31. موقع الوراق. [7]
- مصطفى ناصف. نفس، ص:[8]
- ابن منظور. لسان العرب.ج:11. ص:103. ط:1. دار صادر بيروت.[9]
- مصطفى ناصف. نفس، ص:[10]
- نفس، ص:[11]
- نفس، ص:[12]
- مصطفى ناصف.[1]
- نفس، ص:[2]
- نفس،ص:[3]
- نفس، ص:[4]
- نفس، ص:[5]
- ابن حبان. صحيح ابن حبان.ج:1ص:281.(تح)شعيب الأرنؤوط. مؤسسة الرسالة.ط2. بيروت 1414/1993.[6]
- أبو حيان التوحيدي. الإمتاع والمؤانسة. ج1.ص:31. موقع الوراق. [7]
- مصطفى ناصف. نفس، ص:[8]
- ابن منظور. لسان العرب.ج:11. ص:103. ط:1. دار صادر بيروت.[9]
- مصطفى ناصف. نفس، ص:[10]
- نفس، ص:[11]
- نفس، ص:[12]
تعليقات
إرسال تعليق