التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي




هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟


الغرب " يكتب ليقرأ"، إنه الإطار الذي أسند إليه "دريدا" تصوّره لمفاهيم الكتابة، في محاولة جاهدة لدفع "التّمركز الصّوتي" الذي كان عناية بالكلام على حساب الكتابة. الأمر الذي حدا بالفكر الغربي المعاصر إلى إعادة تعريف الكتابة، بالشّكل الذي يتّسع فيعطيها الأولوية المزعومة التي كانت لها، كما يشير إلى ذلك "دريدا". ويرى "تودوروف" للكتابة معنيان، ينحصر الأول في كوّنه النّظام المنقوش للّغة المدّونة. أمّا في معناها العام، فهي: »كلّ نظام مكاني ودلالي مرئي (1) «يحيل على معنى يستشفّه القارئ من هيئة النّظام، أو من أبعاده المختلفة. وهو الشرط الذي يحوّل العالم وعناصره المرئية إلى كتابة من نوع خاص، حتى وإن غاب عنها شرط النّظام، أو الإرادة المنظّمة.

لقد أشار "الجاحظ" ( ت 255). في البيان والتّبيين - إلى "هيئة" سمّاها "النّصبة"، والتي يقول عنها أنّها: » الحال الناطقة بغير اللّفظ، والمشيرة بعير اليد، وذلك ظاهر في خلق السّماوات والأرض، في كلّ صامت وناطق« (2). فالنّصبة إذن هيئة دالة على نفسها من غير وسيلة، ودلالتها مبنية على نظرة تأملية. وهي الدّلالة الخامسة عند "الجاحظ" بعد اللفظ، والإشارة، والعقد، والخط. فإذا كانت إشارة "دي سوسير" تقيم الكتابة في حدود المرئي، المدرك المباشر، على أنّه يندرج ضمن إطار العلامة بخصائصها المادّية في الزّمان والمكان، فإنّ ما نجده عند الجاحظ، يتجاوز الكتابة إلى نوع من التأمل/ القراءة. فالكون في حدّ ذاته كتابة ناطقة، ومشيرة، وصامتة. لذلك يحقّ لنا أن نقول نحن العرب المسلمين أنّنا "نقرأ لنكتب" وقراءتنا تكون لمكتوب أزلي لا ينضب، تساعدنا الكتابة ( الخط) على تقييد بعض من الإنجازات القرائية وحسب.

لقد فطن بعض المستشرقين - في أواخر القرن التاسع عشر - إلى شئ من الخصوصية التّمييزية بين العقلية السّامية، والعقلية الآرية الغربية، حين جعلوا للأولى ميزة التّجزئية الغيبية، وللثانية ميزة التركيبية العلمية(3). وكأنّ الأولى تباشر عالما قائما بذاته، تامّ التّشكيل، يتحرّك وفق قوانينه وسننه المودعة فيه، من قِبَل إرادة متعالية قاهرة، مبدعة، تقرأه العقلية السّامية من خلال التّعرف على عناصره المشكّلة، والتماس القدرة التي تربطها، وفق نظام علوي يتجاوز حدود البشري. يكون في جماله، وتناسقه، وتمامه، ودقّة نظامه عنوانا على جلالة الخالق، ودلالة عليه. لذلك كانت القراءة - عندنا- سابقه لكل مكتوب، مادامت تلامس الهيئة المكتملة للوجود.أمّا الثانية فينحصر همّها في إعادّة التركيب. لأنّ العالم الذي تقف إزاءه،، لا وجود له، إلاّ من خلال التركيبات الذّاتية ( الفردية) الذي يقيمها العقل ( العلم) بحسب الرّؤى المتاحة. وهو تركيب لا ينتهي أبدا إلى صورة قارّة ثابتة، لأنّه كلّما أنجز كيفية وصورة، بدت له كيفيات وصور أخرى أكثر ملائمة وعلمية. فالكتابة - هنا- تشكيل للعالم وبناء له، بل خلق لهيئاته وأشكاله. لذلك كانت دوما - سابقة على القراءة، والتي هي -أخيرا- اكتشاف للعالم من خلال الحرف (الخط).

وتتأسس العقلية الغربية - التركيبية العلمية - على ثابتين اثنين يجسّدان حقيقة الرّؤية التي زعمنا من خلالها أنّ العالم توجده الكتابة، وأنّ اكتشافه مرتبط بقراءتها وهما:

اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة..

الإيمان بقدرة العقل ( العلم) على تفسيرها، وكشف أسرارها.

يؤسّس الثّابت الأول: » وجهة نظر في الوجود، والثابت الثاني يؤسّس وجهة نظر في المعرفة(4) «. وهي حالة من الإدراك تضع الإنسان الغربي في ثنائية الأنا/ الوجود. الأنا/السّابق. الأنا/المفسّر. وتغيّب كلّ طرف ثالث قد يتدخّل لإنارة طرف من أطراف العلاقة. وإذا تدّبرنا فحوى الثّابتين، تبّينت المزاعم التي نسجتها الوضعية والعلمانية. ذلك أنّ العلاقة المباشرة بين العقل والطبيعة، تعطي - حتما- الأولوية للعقل الذي سيفسّرها عبر الكتابة، إذ لا وجود لآثار هذه العلاقة إلاّ عبر الخط/الكتابة، تلك الكتابة التي حذّر من نفاقها وتلوّنها الخادع "أفلاطون" من قبل(5) .

كما حاول "الجابري" تمييز العقلين: الغربي والعربي، مستندا إلى الدّلالات الحافّة التي يشيعها لفظ العقل في التّصورين الغربي، والعربي، قائلا: » إذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية، والثقافة الأوربية الحديثة والمعاصرة يرتبط بـ" إدراك الأسباب" أي المعرفة. فإنّ معنى العقل في اللّغة العربية، وبالتالي في الفكر العربي يرتبط أساسا بـ " السلوك والأخلاق"« (6) التي توحي بها مادّة (عقل)، والتي يكون فيها الرّبط بين العقل والأخلاق ربطا ضروريا وعامّا. الأمر الذي يوحي للبعض منّا بوجود مفارقة كبرى بين سبل تفكيرنا والدّرجة التي يقف فيه العقل العربي من سلم التّطور.
وإذا أعدنا النّظر - كرّة أخرى - في شهادة "الجابري"، من منظور المفارقة التي وصفنا بين المعرفتين، أدركنا لماذا كانت القراءة - عندنا- سابقة ، مادام العقل في نشاطه اليومي، يسعى إلى التشوّف نحو مطلقية القيمة التي تتجاوزه إلى ملكوت يتدبّره، يتأمّله، يعقله. إذ هو دوما - إزاء كتابة " كونية"، لا يتّوقف عطاؤها مهما تلوّنت وسائل الإدراك، وتعدّدت. لأنّه لا يتخذ من إدراك الأسباب سوى درجة يرتقبها لبلوغ العلّة المديرة لذلك النظّام في جملته، فلا يشكّل العلم بالأسباب منتهى المعرفة ولا غايتها المثلى، وإنّما ينفتح على مراد يتجاوز المطلب البشري جملة.

هوامش:
1.
فرديناند دي سوسير: علم اللغة العام.ص: 34. ترجمة يوئيل يوسف عزيز. النّص أورده. عبد الله إبراهيم. التّفكيك الأصول والمقولات.ص: 74. عيون المقولات. ط1. 1990.المغرب..
2.
أنظر الجاحظ: البيان و التبين. ج1. ص: 76.

3. أنظر محمد عابد الجابري. تكوين العقل العربي. ص: 11.

4. م.س.ص: 27.

5. أنظر سليمان عشراتي. التفكيكية وجذور الوعي التنظيري عند دريدا. مجلة تجليات الحداثة. ع2.

993. ص: 104. جامعة وهران - الجزائر

6. محمد عابد الجابري. تكوين العقل العربي.م.م.س.ص: 29. 30.

نشر في الموقع بتاريخ : الثلاثاء 6 ربيع الثاني 1433هـ الموافق لـ : 2012-02-28

التعليقات

مجذوب العيد

 قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي صدق الله العظيم ..
ثم إن كن تساوي الشيء إذن الكلمات هي أجزاء الكون اللانهائية ومن هنا فالكون كلمات ربي بكل دقائقه ومن هنا فالحروف هي رسوم تعبيرية عن الكلمات هذه ... كل ّ يرسم أو يعبّر عنها بطريقته ومقدرته ... ومنه القراءة قراءتان أولاهما طبيعية وثانيهما تفسيرية لمحتويات الرسم .... مونسي شكرا
حبيب مونسي

 أخي الشاعر المجدوب..

شكرا لمرورك الكريم على ورقتي فأنت قارئي الأول .. أنت الذي تبادر وإن كنت أقصر في حقك فأتأخر عن المرور على انتاجك.. إني أحيي فيك هذه المروءة وأدعو الله أن يوفقك في نضالك من أجل الحرف الكريم.. والبيت الرشيق والقصيدة العصماء.. بورك فيك زوشكرا مجددا..
 
سامية بن دريس

  تحية طيبة

إذا سلمنا بأن الغرب يكتب ليقرأ أي أن الكتابة لديه هي الأصل ، وأن الفكر العربي الإسلامي يقرأ ليكتب على اعتبار أن القراءة قد تعني التأمل من منطلق أن الكون كله كتاب مفتوح للقراءة . ومن ثم فالنتيجة هي دوائر لا نهائية بين الفعلين ؛ إذ تنتج الكتابة قراءة وتنتج القراءة كتابة ، أي أن كليهما مفتوح على دلالات لا نهائية

ولكن دعنا نأخذ القراءة بمفهومها الأولي البسيط والمتعارف عليه ، هل لدينا قراءة حقا ؟
شكرا

حبيب مونسي

 سامية تحية طيبة

إن مسألة القراءة التي طرحت تتصل ببعد فلسفي يعود في الأخير إلى المعني البسيط الذي نطلبه.. لأن الغرب حينما يكتب العالم إنما يفعل ذلك اعتماد إلى تصور فردي خاص ينشيء الفيلسوف من خلاله رؤيته للعالم والوجود والمعاني والقيم ثم يعرض كل ذلك على غيره من الناس فيكتشفون الوجود من خلال الكتابة وعليه فالحقيقة في جميع أحوالها إنسانية وضعية ومنها كان ترمكز الذات العربية باعتبارها موجدة للعالم من خلال تفسيره وكتابته.. أما القراءة العربية فغير ذلك لأن الوجود الذي تتملاه قد أخبرت عنه في جميع أبعاده لها أن تقرأه في إطار ذلك التعيين والتحديد، فإن اختلفت القراءات فإنها لا تختلف في الجواهر وإنما في الفروع والجزئيات.. شكرا لقراءتك سامية 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،