إن الذي قال بأن التاريخ يتكرر ويعيد نفسه لصادق.. وكأن
الأخطاء التي وقع فيها الأولون لازالت اليوم تكرر بنفس الدرجة والحماقة.. إقرأ هذه
الصفحة وسترى أننا لم نفطن بعد، وأننا نساق إلى عاقبة وخيمة نصنعها بأيدينا.. ونحن
نحسب أننا نحسن صنعا.. ثم احكم..
إنّ موقف "الغربي" الذي أفتكّ
"القراءة" من رجال الدين، لينقب في الأسرار التي ضنّ بها الكهنة، أحالته
على الرّفض الصُّراح لكل التعاليم، وجعلته يرى في نفسه القدرة على تأسيس صرح قيمي
خاص به يبني عليه تصوراته، ويجسّد من خلاله رغباته. عكس "العربي" الذي
انطلق في رحاب القراءة بفعل إلزامي يكلّفه مهمة البحث، والنظر، والتبصّر،
والتفكرّ، وهو مطمئن إلى الركن الشديد الذي تأوي إليه ما دام "اقرأ باسم ربك
الأكرم". فإذا كانت انطلاقة هذا تفتّق حجب المستقبل كفعل استكشافي ريادي..
كان فعل ذاك (الغربي) ارتكاساً ماضوياً ينفض عتمة الإكليروس عن تناقضات صارخة
تشمئزّ منها الحاسة، وترفضها الفطرة، ويأباها العقل.
والسؤال المحيّر حقاً، والذي يصدم الباحث اليوم، نصوغه
في دهشة على النحو التالي:
-إذا كانت القراءة العربية الإسلامية استكشافية كما نصف،
فأين هي إنجازاتها؟
-هل ما ورثناه هو كل ما حققته؟
-لماذا ذوت دواعيها، وباغتها الضعف والهزال؟
-من الذي صرفها عن وجهتها؟ واستنزف طاقاتها؟
صحيح أن ما حققته القراءة العربية في قرونها الأولى دفق
حضاري جبّار، لم يحدث في أمة من الأمم، وأعطى كل أسباب الاندفاع نحو المستقبل
والخلق! ولكن!!.
ينقل "العقاد" في "كتابه" التفكير
فريضة إسلامية "فقرة ذات شأن فيما نتساءل عنه بحيرة، ينقلها عن "جلال
الدين السيوطي" من كتابه "الحجة في تارك الحجة" رواية عن الشيخ
"نصر المقدسي" في حديثه عن دولة بني العباس، وما أحدثوه من ثلم وتعوير
في الفكر الإسلامي، ننقلها بنصها:
"فأول الحوادث التي أحدثوا، إخراج "كتب
اليونانية" (يقصد كتب الفلسفة) إلى أرض الإسلام فترجمت بالعربية وشاعت في
أيدي المسلمين. وسبب خروجها من أرض الروم إلى بلاد الإسلام "يحيى بن خالد بن
برمك" وذلك أن كتب اليونانية كانت ببلد الروم وكان ملك الروم خاف على الروم
إن نظروا في كتب اليونانية أن يتركوا دين النصرانية ويرجعوا إلى دين اليونانية،
وتتشتت كلمتهم وتتفرّق جماعتهم، فجمع الكتب في موضع، وبنى عليها بناء مطمئناً
بالحجر والجصّ حتى لا يوصل إليها. فلما أفضت رياسة بني عباس إلى "يحيى بن
خالد" وكان زنديقاً بلغه خبر الكتب التي في البناء ببلد الروم، فصانع ملك
الروم الذي كان في وقته بالهدايا ولا يلتمس منه حاجة. فلما أكثر عليه جمع الملك
بطارقته وقال لهم، إن هذا الرّجل -خادم عربي- أكثر عليّ من هداياه ولا يطلب مني
حاجة، وما أراه إلاّ يلتمس حاجة وأخاف أن تكون حاجته تشقّ عليّ. فلما جاءه رسول يحيى
قال له: قل لصاحبك إن كانت له حاجة فليذكرها. فلما أخبر الرّسول يحيى ردّه إليه
وقال له: حاجتي الكتب التي تحت البناء، يرسلها إليّ أخرج منها بعض ما أحتاج إليه
وأردّها إليه. فلما قرأ الرومي كتابه استطار فرحاً، وجمع البطارقة والأساقفة
والرّهبان، وقال لهم: قد كنت ذكرت لكم عن خادم العربي أنه لا يخلو من حاجة، وقد
أفصح عن حاجته وهي أخفّ الحوائج عليّ. وقد رأيت رأياً فاسمعوه فإن رضيتموه أمضيته،
وإن رأيتم خلافه تشاورنا في ذلك حتى تتّفق كلمتنا، فقالوا ما هو؟ قال: حاجته الكتب
اليونانية يستخرج منها ويردها. فقالوا: ما رأيك؟ قال: قد علمت أنّه ما بنى عليها
من كان قبلنا إلاّ أنه خاف إن وقعت في أيدي النصارى وقرأوها كان سبباً لهلاك دينهم
وتبديد جماعتهم، وأنا أرى أن أبعث بها إليه وأسأله ألاّ يردُّها، يُبتلون بها
ونسلم نحن من شرها: فإني لا آمن أن يكون بعدي من يجترئ على إخراجها إلى الناس
فيقعوا فيما خيف عليهم. فقالوا: نعم الرأي رأيك أيها الملك فامضه..."(.).
يعلق العقاد على الفقرة قائلاً: "وهذه قصة تصح في التاريخ أو لا تصح، فلا شبهة على الحالين في سوء الأثر الذي أصيبت به الأمة الإسلامية من آفة الجهل باسم المنطق المزيّف، فإنها أشبه شيء بالنقمة يصبّها العدو على عدوه، أو المكيدة التي يدسّها عليه ليشغله بالشّقاق والشتات عن مهام دنياه ومطالب دينه"(16) وهي من وجه آخر حادث اعترض طريق القراءة العربية الإسلامية، بأن وضع بين يديها (تراثا) أجنبياً لا يمتُّ إليها بصلة، فانشغلت به وانحرفت عن السبيل المسطور، وارتدت إلى ماضوية، شأن القراءة الغربية -في عهودها الأولى- تمضغ الماء، وهي لا تعبأ بالخطر المحدق بها، فنشأ الجدل والتعصب وتسرّبت المفاهيم المادية والوثنية والغنوصية إلى حقول المعرفة الفكرية، خاصة وأن الكتب المنقولة لم تترجم بكلّيتها، بل وقعت الترجمة على عينّات منها مختارة لتؤدي الغاية المبيتّة، والشاهد على ذلك أن أوربا لم تنطلق من عقالها إلاّ بعد تخلّصها من القيد الميتافيزيقي والنير الأرسطي مع فرنسيس بيكون(.) وإرساء دعائم المنهج التجريبي والذي قامت عليه القراءة العربية الإسلامية انطلاقاً من النظر، والتّعقل، والتدّبر، والعمل.
يعلق العقاد على الفقرة قائلاً: "وهذه قصة تصح في التاريخ أو لا تصح، فلا شبهة على الحالين في سوء الأثر الذي أصيبت به الأمة الإسلامية من آفة الجهل باسم المنطق المزيّف، فإنها أشبه شيء بالنقمة يصبّها العدو على عدوه، أو المكيدة التي يدسّها عليه ليشغله بالشّقاق والشتات عن مهام دنياه ومطالب دينه"(16) وهي من وجه آخر حادث اعترض طريق القراءة العربية الإسلامية، بأن وضع بين يديها (تراثا) أجنبياً لا يمتُّ إليها بصلة، فانشغلت به وانحرفت عن السبيل المسطور، وارتدت إلى ماضوية، شأن القراءة الغربية -في عهودها الأولى- تمضغ الماء، وهي لا تعبأ بالخطر المحدق بها، فنشأ الجدل والتعصب وتسرّبت المفاهيم المادية والوثنية والغنوصية إلى حقول المعرفة الفكرية، خاصة وأن الكتب المنقولة لم تترجم بكلّيتها، بل وقعت الترجمة على عينّات منها مختارة لتؤدي الغاية المبيتّة، والشاهد على ذلك أن أوربا لم تنطلق من عقالها إلاّ بعد تخلّصها من القيد الميتافيزيقي والنير الأرسطي مع فرنسيس بيكون(.) وإرساء دعائم المنهج التجريبي والذي قامت عليه القراءة العربية الإسلامية انطلاقاً من النظر، والتّعقل، والتدّبر، والعمل.
وهانحن اليوم نعيدها كرة أخرى، وننزل بساحتنا الفكرية
ركاما هائلا من الكتب والنظريات والتصورات ننشغل بها عن جواهر في حاضرنا وماضينا..
نمضغ الماء في نخب تظن أن فعلها ذاك هو الثقافة والتنور والمعرفة... فما رأيك أنت؟
تعليقات
إرسال تعليق