التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فاعلية التشخيص في بناء الصورة الشعرية بقلم : حبيب مونسي



ما التشخيص ؟ ما علاقته بالصورة؟

هل التشخيص عملية قائمة خارج الصورة؟ أم هي تفعيل لعناصر تصويرية في الشعر؟

لماذا جف ماء الشعر حينما تخلى عن التشخيص؟


فاعلية التشخيص في بناء الصورة الشعرية

وقفت محاولات الشعراء لاستنطاق الطلل عاجزة أمام صمته الرهيب الكئيب، وأرهفت السمع لالتقاط أخفت الذبذبات، ثم تراجعت مكتفية بالتخمين والظن، مرددة أسئلتها لعلها تجد جوابا في مستقبل الأيام. ولم نجد شاعرا أجرى حوار مع المكان في بضع من الأبيات إلاّ "ابن خفاجة الأندلسي" في وقفته أمام الجبل، حين أجرى بعض تأملاته على لسانه وقد حوّله إلى شيخ وقور، ناسك، معمم بالبياض. وذلك مسلك تشخيص أثير في الشعر العربي القديم. استعمله الشعراء كلما أحسوا بضرورة المحاورة والتخاطب، وإضفاء الحياة على الجماد. ولم يفت السرد مثل هذا الصنيع. ولكنه التشخيص الذي لا يلجأ إلى الحوار، بل إلى الحركة. فينقلب المشخّص إلى كائن يحيا حياة خاصة، تتولاه المخيلة وصفا، مركزة على بعض هيئاته وأحواله.

إن التشخيص في أبسط تعريف له يتمثل:» في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. هذه الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانية.. تهب لهذه الأشياء عواطف آدمية، وخلجات إنسانية.« () وكأن التشخيص حركة تحويلية ذات مدرج واحد فقط، ترتقي بالجامد إلى الحي لغاية تعبيرية، ثم تتوقف عند هذا الحد من الجهد والاجتهاد. غير أن الصورة الناشئة عن هذا الارتقاء، لم تعد ملكا للتشخيص ولا حكرا عليه. فالتشخيص عملية وحسب، إنها تقنية تخضع لتحويل رمزي معين. فإذا تمت على الوجه السليم، استحالت "صورة" . وقد درج البعض على اختزال الصورة في الاستعارة من حيث الجوهر. بيد أن الصورة تكوين آخر أكثر تعقيدا مما يتصور حين تقرن بالاستعارة. ذلك أن الصورة تشكيل للعناصر المنظورة والمحسوسة في إطار محدد، وفق رؤية خاصة، ومسافة مدروسة، لغاية تعبيرية تتجاوز الأسلبة إلى فضاء المعنى.

إن الصورة وهي تقوم على التشكيل، تخضع أولا لهندسة مبيتة خدمة لمقصد بعيدفهي من هذه الناحية "عمل واع بهدفه" ذلك هو التعريف الذي قدمه "سانتاياناللفن.() ومن شأن الوعي في الحركة التصويرية أن يضيق من منافذ الخيال أولا، حتى يسمح للصورة بترتيب عناصرها ترتيبا واعيا بالأولويات والأسبقيات، ثم يفتح منافذ الخيال ليصبغ الصورة بصبغتها الخاصة.

أعلم أنني حين أقدم المسألة على هذا النحو، أقوم بتجزئة العملية الإبداعية ، وهو أمر مردود في حقيقة النشاط الفني، ولكننا حين نقف على خطاطات الرسم التي أنجزها الرسامون قبل اللوحة النهائية،نتفطن إلى كثير من العناصر ، وقد تحركت من أمكنتها ، أو تزحزحت إلى الخلفية ، وتقدمت أخرى. وكثير من الظلال غابت ، أو شعّ فيها النور.. ولو عُرضت علينا محاولة من المحاولات لسلمنا أنها اللوحة النهائية، ولما وجدنا فيها خللا. ولكن عين الفنان وجدت ما لم نجده، فقدمت وأخرت..إن عرض سلسلة المحاولات مرقمة تدريجيا إلى جنب اللوحة المنتهية هو أكبر درس في الفن تعجز عنه محاضرات النقاد. وهو الذي يؤكد حضور الوعي و سيطرته على الإبداع.(10)وعندما يلجأ الشاعر إلى التشخيص، لا يفعل ذلك طلبا لخلع الحياة على الجماد وحسب، وإنما لخلق صورة. لا يقف القصد عندها هي الأخرى، بل الصورة "تكتيلتعبيري من نوع خاص، تتعامد فيه حركتان:النسق: الإيقاعدلالة المعنوية.اللغة. الظلال. الأسلوب. الإيحاء.

السياق: الأبعاد. الإطار الترابط الزاوية. التكامل.

ليس التعامد مجرد تقاطع بين نسق الصورة و سياقها الخاص، وإنما نريد من التعامد أن يحمل جملة العلاقات الناشئة من تقاطع كل العناصر فيما بينهاكأن نأخذ مثلا تقاطع الزاوية والإيحاء، مادامت الزاوية تحدد جهة النظر واتجاهه، والإيحاء يحدد الوجه الذي تعرضه الصورة للزاوية، وكلما تحرك محور الزاوية، تحرك معه لون الإيحاء. لذلك نحصل على سلسلة من الإيحاءات بمجرد أن نتحرك من نقطة إلى أخرى. ولا تنتهي العلاقة عند هذه الثنائية، بل ترتبط مع غيرها. فإذا أضفنا إليهما اللغة، أو الأسلوب، أخرجنا الإيحاء من حالة الكمون الغامض إلى حالة التعبير البيّن.وتتعدد التعابير بعدد النقاط المتحركة على محور الزاوية وحدها، فما بالنا بالعناصر جميعها دفعة واحدة!إن هذا الفهم يجعل الصورة عالما متحركا، تتعذر الإحاطة به كلية في جملته، لأنه خاضع من ناحية خارجية إلى المتلقي سنا، وثقافة، وعصرا، وذوقا.. وكلما عددت القراء فأنت تعدد عطائية الصورة، وقدرتها على التعبير. لذلك يجوز لنا أن نزعم الآن أن معنى الصورة يقع دوما خارجها، في نقطة ما على المسافة الفاصلة بين الصورة و التلقي.تلك المسافة يحدد طولها وقصرها عاملا الانفصال والاتصال.

التعليقات

شباح نورة

 السلام عليكم دكتور حبيب مونسي : أنا طالبة ماجيستير بجامعة جيجل ، تخصص نقد جزائري معاصر ، بعد اطلاعي على بعض كتبكم القيمة خطر لي أن أتناول تجربتكم في نقد الشعر بالدراسة ، لكنني لم أجد من الدراسات مايفتح لي نوافد على البحث ، لذا ألتمس منكم توجيها إلى الدراسات التي تناولت تجربتكم النقدية ،مع إفادتي بهذه الدراسات إن أمكن ذلك .دمتم سندا وذخرا للمكتبة النقد العربي 

أ,د محمد عبد الله




 السيد الدكتور حبيب منسي مع احترامي لتجربتك وبعد اطلاعي على منشوراتكم لدي رأي ارجو أن تتلقاه بصدر رحب وهو أنك لا تتعمق في الأشياء التي تقولها ولا يوجد عندك رأي نقدي علمي صريح بل انطباعات ذاتية لا تخلو من موقف ذاتي ومحاولات لشتم الكاتب وفعل الكتابةويمكن لي أن أسوق لك أمثلة عديدة ومكررة وإن أفكارك مشتتة لا يؤطرها منهج علمي واحد ولا عدة مناهج علمية .هذاجزء من رأيي بعد أن اطلعت على أعمالك والله يشهد أنني صادق وأتمنى لك التوفيق في أعمالك القادمة وشكرا للمشرفين على أصوات الشمال.  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،