التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرواية والفلسفة.. والحياة. كتبه حبيب مونسي



https://a2ua.com/art/art-001.jpg

يعتقد كثير من المتلفسفة أن الفلسفة تفسير للحياة، وأن نشاطها الحق ليس في بناء المقولات والنظريات بقدر من ما تتجلى فائدتها العظمى في تفسير الحياة وجعلها واضحة المعالم في أعين العامة من الناس. لذلك كانت الفلسفة في  يوم من الأيام أما للعلوم قاطبة. ومنها تفرعت المعارف التطبيقية التي تعرف كيف تستغل الحياة في جانبها العملي من أجل توفير قدر كبير من الراحة للإنسان. ذلك هو السبب الذي جعل الفلاسفة يخوضون في كافة المسائل ابتداء من العقائد والأفكار إلى المعاني والجماليات.

 غير أن صنيعهم هذا ظل حبيس التفكير النظري الذي تستعصي لغته على الفهم في أحايين كثيرة. لأن المتفلسف كان عليه أن يبدأ أولا بدحض الدعاوى السابقة عليه حتى يفسح لنفسه مجالا يصب فيه دعواه الجديدة. فيبدأ العمل عادة بالنقد والتفنيد توسعة لطرح البديل الذي يراه مناسبا للوقائع التي يتابعها. ومن ثم كانت طبيعة التفكير الفلسفي طبيعة تراكمية في منجزاته قد يستمر خطه في مدرسة من المدارس وقد يظل حبيسا عند عتبة مفكر واحد. ومن هنا كان الحديث عن "التيارات الفلسفية" أوسع مجال لتصنيف أعداد من المفكرين في نطاق واحد يجمعهم، استنادا إلى بعض الخصائص المشتركة في طرحهم ونظرياتهم.
وقد فطن بعض الفلاسفة إلى أن هذا السبيل من التفكير لن يخدم أفكارهم، ولن يساعدها على الانتشار بين الناس. وأن الأفكار ستظل حبيسة النخبة التي تعرف كيف تفك خيوط التفلسف، فلجأوا إلى الرواية باعتبارها الحياة.. أو على الأقل صورة من الحياة التي يريدونها لأفكارهم فيجمعون فيها من الواقع، الأحداث، والمشاعر، والأحاسيس، ما يرفد الفكرة التي يعرضونها في ثوب من المجال العملي الذي يجعل الأفكار فاعلة في الزمان والمكان، والشخصيات والمصائر، والأوضاع الاجتماعية.. فهم بذلك يصنعون الحياة على مقاس الأفكار.. أو يجعلون الأفكار تتحرك بحرية في وسط حياتي حي، يطرأ عليه من الأحداث والمشاعر ما يجعل الفكرة في محك حقيقي دخل الأزمات على اختلاف أنواعها وشدتها. ومن ثم رأينا "جون بول سارتر" و"ألبير كامو" على سبيل التمثيل ممن فضل دخول مغامرة الحياة من باب الرواية. لا ليكتب الرواية من أجل الرواية، وإنما ليكتب الرواية من أجل الفلسفة.. كما يصنع المؤرخ حينما يكتب الرواية من أجل التاريخ..
والغريب أننا في الأدب نجرد المؤلفين من سمة التفلسف في كل الأحوال، ونعتبرهم روائيين فقط. ونتغاضى عن الشطر الكبير الذي من أجله تقوم الرواية في الأساس وهو "الفكرة". وليست الفكرة بحال من الأحوال مجرد قضية تخطر على بال الروائي، فيشرع في البحث عن إطار لها تتحرك فيه الأحداث والشخصيات. وإنما الفكرة أعمق من ذلك، لأنها في خطرها إما أن تتصل بالإنسان خاصة، أو بالحياة عامة. وأنها في جوهرها تحاول أن تنظر إلى خلل واقع في حياة الأشخاص، أو المعاني التي يتداولها الأشخاص. من هنا كانت "الأفكار" أهم شيء يجب على الروائي الاعتناء به عناية الفيلسوف بفكرته. لأنها هي العمود الذي تقوم عليه الرواية الواحدة، أو مشروع الروائي في عدد من الروايات التي يسطرها بين يديه توسيعا للفكرة واستقصاء لكافة أبعادها الحياتية المختلفة.
إنه الأمر الذي نجده لدى عدد معتبر من كتاب الرواية العرب المحترفين.. الذين تسلسلت أعمالهم في إطار رؤية ثقافية وسياسية وأيديولوجية محددة. مما جعل متابعتهم واضحة المعالم بينة الآفاق، وكأنهم يريدون لأعمالهم أن ترسم منهجا للتغيير في واقع مجتمعاتهم. فهم لم يكتبوا للمتعة الفردية أو الترويح عن النفس كما يردد البعض اليوم، وإنما يكتبون الرواية لأن الرواية صنو الحياة، وأنها تستطيع أن تغير في الحياة تغييرا منهجيا فعالا، وأنها تساعد كثيرا من القراء على أن يعيشوا حياتهم، وقد تخلصوا من مخاوفهم وأوهامهم. وقد ازدادوا معرفة بأنفسهم وبغيرهم من الناس. فالحيوات المعروضة في الروايات وتجاربها حقل تجريبي يستفيد منه القارئ، لا للتلصص على ضمائر الناس وأفعالهم، وإنما لإغناء تجربته الخاصة وتتممتها بما يراه ويشهده من أحداث ومصائر في بيئات مختلفة، متباينة أشد التباين.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،