التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هموم الكتابة الإبداعية في مدونة "أم سهام" مقاربة في الوظيفة الإبداعية.. كتبه : أ.د.مونسي حبيب


http://images1.djazairess.com/eldjoumhouria/67882

 1-هم الكتابة:

قد يسهل على المرأة أن تكتب عن المرأة، حينما يسري بينهما ذلك التيار الخفي من المعاني، التي لا يعرف الرجال كيفية تسرُّبها بين ثنايا الكلمات والمعاني، ولا كيفية قيامها وراء الكلمات ظلالا وارفة، تبعث كثيرا من الإحساس المنعش الذي يُشعر القارئ بالطمأنة والهدوء.. 
تلك الميزة التي بحثت عنها وأنا أقرأ للشاعرة متنها الشعري لأجد مدخلا أأسس عليه المقاربة التي أريدها لنصها الجامع، قبل التعرض لنصوصها الشعرية المرتبطة بمواضيعها في سياقاتها المختلفة. فكانت الرحلة بين الكلمات أشبه بعودة إلى الماضي البعيد الذي يعرض عليك من تلوينات المعاني ما تجد المعنى الذي ألفته من زمن، يتحين الفرص ليغدو جديدا بين يديك. وكأن النصوص تُكْتَب تباعا بين يديك لتعبر عن جديد ما قصدته الشاعرة في نصها الابتدائي، وإنما ما أرادته النصوص في مجاورتها للكائن المتجدد في الساحة الفكرية والسياسية..

كانت الكلمات التي أردت محاصرتها في قراءتي تتراءى لي وكأنها تخلع لبوسها بين الفينة والأخرى، لتتلون كما تتلون الغول في أثوابها لمخاتلتي. وهي توهمني أنني أفهم عنها ما تريد، في حين أنها تذهب بي كل مذهب.. تشرِّق وتغرِّب.. تدخل عالم الشعر لتخرج منه سريعا إلى عالم القصة.. وتلج عالم المسرح لتنفلت منه إلى عالم الخاطرة والنقد.. إنها كلمات المرأة التي تعرف كيف تحجبها عن الأعين المتلصصة، التي تحاول أن تسرق منها أسرارها، وتهتك حجابها، وأن تتخلل أنوثتها بما يلوث طهرها من فهم متسلط ينتزع منها براءتها.. حينها عدت إلى حوار أجرته الصحفية "جميلة طلباوي" تبحث في بدايته عن بداية الحكاية ورأس الخيط الذي ستنسج منه سدى حوارها مع هذه السيدة لتقول ببراءة: « أمّ سهام لقب يحمل من الأمومة والصدق الذي اتّصفت به الأديبة الجزائرية "عمارية بلال" التي أعطت الكثير للأدب الجزائري شاعرة، وقاصة وناقدة، ورائدة من رواد الصحافة الأدبية.. » ( ) فتبدأ من الكُنية.. ذلك النعت الذي تأسس قديما في الحضارة العربية ليقول معنى التواصل والانتماء، قبل أن يقول معنى التسمية والنعت. والذي يحمل في طياته كثيرا من العطف والجوار، فلا ينادى بكنيته سوى القريب المعهود الذي نريد له أن يمتد عبر انتسابه لا ألقابه. فكانت "أم سهام" مبدأ "الأمومة" التي نستشعر منها كامل الألفة وكامل الانتماء، فهي بذلك منا أولا وأخيرا، قبل أن تكون اسما قد لا نلتفت إليه، أو نتناساه سريعا. ف "عمارية بلال" لا شأن لنا بها، ولا نعرفها، وإن كان لها وجودها بين أهلها وذويها في مجتمعها الضيق. غير "أم سهام" فهي ملك لنا، تطل علينا من بين الكتب والقصائد والخواطر والدراسات.. تلك هي السيدة التي نعرف، والتي نريد أن نعرف منها "هم الكتابة" و "ألمهاو"معاناتها" وكيف يتشكل النص بين يديها قصيدة نابضة بالحياة، عامرة بالمعاني، مترعة بالموسيقى...

إنها هي التي "صَدَقت" كاتبة، وشاعرة، وقاصة، وناقدة.. ومن ثم فهي التي نتخطى إليها حدود النص لنصل إليها أفكارا، ورؤى، وهواجس، تتصل بالإبداع في أجمل تشكلاته الأنثوية. لنحاول بعده التعرف على ما يمكن أن يخلد في ساحة الأدب من تصورات.. بيد أن هناك معضلة تعترض طريقنا.. إنها اللغة التي تتحدث بها هذه السيدة.. فهي لا تقول الأشياء وفق الدارج من القول، وإنما ترسلها على هيئة الشعر مضمخة بالدلالات الهاربة التي تحتاج إلى تأويل بعد التأويل..

كان البدء مع "جميلة طلباوي" في حاورها يبحث عن مرتكز تُطل منه الصحفية على عالم الشاعرة، فلم تسألها عن الشعر، وإنما عن الكتابة!.. وتلك هي المفارقة التي استوقفتني طويلا.. لماذا الكتابة؟..وهي تحاور شاعرة!.. هل تفهم الصحفية الشعر على أنه كتابة؟ أم أن الشاعرة أوحت لها أن البداية تكون دوما مع الكتابة؟ لأنها فعل ملتزم.. لأنها انحراط في تحويل العالم من أفق إلى آخر! لأنها المسؤولية والشقاوة التي يحملها الكَتَبةُ عبر العصور والأزمنةحينها سيكون الشعر، والنثر، مجرد تمظهرات لفعل الكتابة، أو مجرد تلوينات له. فهي تقول:« الكتابة يا صديقتي الغالية تبدأ بالمعانات الفكرية والوجدانية، التي تسبق لحظة فعل الولادة. وهي تنطلق من ذاتي وتتشكل فنيا، وتنصهر مع هموم الآخر انصهارا كليا. » ( ) لتكشف عن ركنين أساسيين في فعل الكتابة: ركن المعاناة الفكرية، وركن المعاناة الوجدانية. ومنه تتحدد معالم الفعل الكتابي الإبداعي في أهم معالمه. فليس هو محض كتابة فكرية جافة تنصرف سريعا إلى التفلسف والنظر المجرد الذي تعرفه بعض المعارف والعلوم، وليس هو محض إغراق في حمأة الوجدانية النرجسية التي ابتليت بها كثير من الكتابات، فتأرجحت بين ذاتية مريضة متباكية، أو صوفية غامضة مستغلقة لا يزعم الوصول إلى دوائرها الضيقة إلا ثلة ممن يحسبون أنفسهم أنهم يفقهون عنها قولها. فالميزان السوي عند "أم سهامهو أن يرتكز الفعل الإبداعي على معاناة.. ولكنها المعاناة التي تقيم للفكري حظه من الحضور، إلى جانب الوجداني الذي يلطف من تجريده، ويضفي عليه مسحة إنسانية، تجد فيها العواطف مجالها الذي تتحرك فيه معززة بالمعاني والدلالات.

ثم هناك التفاتة أخرى نسجلها ل"أم سهام" ألا وهي البدء بالمعاناة الفكرية قبل الوجدانية.. وكأنها ترد من طرف خفي على من يريد أن يجعل من الإبداع نشاطا وجدانيا فقط، لا صلته بالفكر. فهي حينما تبدأ بالفكر تشعرنا أن التجارب الإبداعية في شتى الفنون، إنما هي قبل كل شيء تَفَكُّر وتَدبُّر في الأحوال الإنسانية وأنشطتها وأحاسيسها. وأن التدبُّر يدير العقل أولا، قبل المشاعر حتى لا تشوش عليه المعاني الإنسانية الخالدة التي يمكن أن يتصيدها في التجربة التي يعانيها ويكابدها. لذلك وجدناها تقول في شهادتها تلك عن الكتابة أنها: « تنطلق من ذاتي، وتتشكل فنيا، وتنصهر مع هموم الآخر انصهارا كليا. » فالفنان يضع نفسه ابتاء، في مركز الفكرة أو التجربة، ليكون حجر الزاوية التي يستند إليها البناء التصوري للأفكار.. فمنه تنطلق الأحاسيس والهواجس، وإليه تعود مرة أخرى.. تنطلق في أشكال عدة. قد تكون أسئلة، قد تكون توجسا من حالة، قد تكون استشعارا غامضا لخوف، أو أمل، قد تكون معاينة لحال خاص.. غير أنها تَرتدُّ إلى الفنان وقد لامست موضوعها في غير هيئتها التي خرجت بها، لتتشكل هذه المرة "فنيا" في الذات.. هناك إذا مركز يحتله الفنان في صلب التجربة الإنسانية والوجودية.. وهناك أسئلة واستفسارات تنطلق من الذات صوب موضوعها التي تتحسسه، وتتلمسه، وتتدبره.. ثم هناك ارتداد لها إلى المركز من جديد لتتشكل "فنيا".. هنا يأخذ الجنس الأدبي نعته، وتميزه.. هنا تكون القصيدة الشعرية، أو القصة، أو الخاطرة، أو اللوحة الفنية،أو القطعة الموسيقية.

إن هذه الوضعية هي التي تعطي للفنان خصوصيته بين الناس الذين يتحاشون أن يكونوا مركزا للتدبر، والتفكر، والمعاناة.. أولئك الذين يمرون عبر الأحاسيس، فلا ينالهم منها إلا اللَّمم، فيتأثرون التأثر العابر، الذي سريعا ما تخبو جذوته، وتنكسر شوكته، فلا يخلِّف فيهم إلا ما تخلفه النار في وقودها من رماد وحطام. بيد أن الفنان يصطلي بهذه النار، ويجعل من ذاته وقودها الذي يتجدد مع كل تجربة من التجارب. لأن "أم سهام" ترى في موقف الفنان إزاء الآخر، ضربا من "الانصهار" والتوحد مع "همومه " فالفن لديها "مشاركة" قبل أن يكون هما ذاتيا نرجسيا محضا. وحينما يكون الفن "مشاركةتتجاوز الفنون حدود أصحابها لتلامس تخوم الإنسانية شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا..

2-هم الأمة:

قد يرى بعض المبدعين أن ليس على الفن من حِمل يحمله إلا حمل الذات. وأن لو يقتصر على ذلك الحمل لما وسعت أقلام الدنيا ليكتبه في دفاتر الأيام. وكأن الأحاسيس التي يعانيها، والتجارب التي يكابدها، لا تتكرر في غيره أبداوأنها جديدة فيه بقدر ما هي جديدة في غيره. وأن تجربة الحب لن يستوعبها الشعراء مدى الدهر أبدا، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.. فقد يصدق هذا الزعم وقد يخيب. غير أن هذا الزعم سيكون له ثقله الذي يزن الجبال، حينما تتسع هموم الذات لتتجاوز دائرتها النرجسية الضيقة، وتشمل واقع الذوات الأخرى في سعيها الحثيث نحو الوجود الكريم. حينها يتجاوز هم الكتابة دوائره الضيقة وكأنه يستجيب لأحوالها عبر الأزمنة. وها هي "أم سهام" تقول : « كلما اشتدت قبضة القهر، والمنع، والاضطهاد، ازدادت شهيتي لكتابة متسمة بالعمق، والوعي، والمخاطرة.. لمحاولة تلمس مواطن الخراب، والانكسار، في جسد وعقل هذه الأمة التي انتمي إليها..» ( ) وبه تحمل "أم سهام" هم الأمة انطلاقا من واقعها المقهور الذي يخيم عليه شبح المنع والاضطهاد.وليس من قبيل حشد المترادفات، أن نجد المتتالية التي تجمع القهر، والمنع، والاضطهاد، في حزمة واحدة، لأن لكل منها سمته الخاص به، الذي ينزاح بدلالته بعيدا عن الثاني، والذي يحاول أن يشير إلى منطقة من مناطق المعاناة التي تكابدها الذات. فإذا كان القهر، والمنع، والاضطهاد، أحوال تنشأ عن تدخل خارجي من خلال سياسات متبعة تمارسها الجماعات أو المؤسسات، فإن القهر، والمنع، والاضطهاد، أحوال تستشعرها النفس في قرارتها فيم يشبه الإحساس الدفين الذي يُسمِّم واقعها النفسي، قبل تسميم واقعها الاجتماعي. فيكون القهر، هو ذلك الشعور بالعجز الذي يكبل الطاقات كلها، ويفرغها من شحنتها المبدعة، ويحيلها إلى خواء تشعر الذات من خلاله بضياعها وعدم جدواها. كما يكون المنع كذلك أسر بين الضلوع تعانيه الذات التي لا تجد سبيلا للانطلاق إلى فضاء الحرية والتحرر. فكثير منا يحسب أن الحجر هو ذلك المنع المادي الذي يمارسه السلطان أيا كان شكله أو لونه، بل المنع هو شعور عدم القدرة على تحقيق الانطلاق، في ظروف تعمل كلها على عرقلة السير السوي، بله الانطلاق السريع في دروب الاختيار والإبداع.

غير أن "أم سهام" ترى أن كل ذلك لن يكون إلا محفزا لها على المضي وراء كتابة: « متسمة بالعمق، والوعي، والمخاطرة..» وها هي ذي تعود إلى النعوت مرة أخرى، تدفع بها إلى تعيين الكتابة التي لا يمكن أن توصف بحال واحدة أبد الدهر. وإنما لها أحوالها التي قد لا تجتمع فيها النعوت كلها على صعيد واحد، أو يجتمع بعضها لتأدية وظيفة محددة سلفا. فالكتابة حين تكون (عميقة، واعية) قد تتصف بالمخاطرة وقد لا تتصف، لأن عمقها ووعيها يجنبانها التهور والاندفاع. غير أن من شأن بعض المواضيع أنها تتطلب من الجرأة مقدارا يجعل الكتابة تصب في مصب المخاطرة، حينما تُعرض فيها الأفكار الجديدة المستفزَّة، مدفوعة بقوة العرض والحجة. ومن ثم فإن فهمنا لمثل هذه النعوت المتجاورة في حديث "أم سهام" يرفع عنا لبس الفهم السريع الذي يعتقد البعض من خلاله أن السيدة تمتدح صنيعها ليكون أبد الدهر بهذه الصفات.

إن أحوال الكتابة الإبداعية تشترط التحول من حال إلى حال، ومن هيئة إلى أخرى. فتكون الكتابة ذات عمق، أو ذات وعي، أو ذات مخاطرة، وهي هيئات تتعدد في أحوال المبدع ومدى استجابته للمثيرات التي يتلقاها من واقعه. ف"أم سهامتريدها كتابة تحاول:« تلمس مواطن الخراب، والانكسار، في جسد وعقل هذه الأمة. ». فلا شيء في حديثها وبكلماتها يُهادن الواقع، أو يجمِّل وجهه.. لأنها تراه واقعا عربيا يتسم بخراب، وانكسار.. أصابا جسد وعقل الأمة.

لا يمكن للمبدع الحق أن يُخرج للناس إبداعاته إلا إذا عاين واقعه الخاص معاينة المشرف الذي يطل عليه في جملته، يعرف جغرافيته، ويتبين تضاريسه، ويعرف أدواءه وعلله. فينخرط في واقعه انخراط المشارك الذي يهمه الواقع ويدمي قلبه. وإذا عاينا توصيف "أم سهام" للواقع العربي ألفيناه يتأرجح بين نعتين: الخراب والانكسار. فنتساءل عن دلالتهما اللغوية، وعن ارتباطهما بالواقع أثرا وعينا. فالخراب لا ينشأ إلا من خلال هدم المنجز الذي كان قائما في عهد من العهود، والخراب لا يأتي إلا بعد أن يكون البناء قد تم، ثم اعتراه ما يعتري الأبنية من تداع ذاتي أو طارئ. والواقع العربي يكشف من خلال التاريخ والشواهد عن ماض زاهر شارك الانسانية إبداعاتها التاريخية الكبرى، ثم تداعت عليه الأمم في حركة اجتياح كبيرة خلخلت بنياته القاعدية، وأحالته إلى خراب.

غير أن الخراب الذي تُطل عليه "أم سهام" ليس خراب البنيات القاعدية وحسب، وإنما خراب في نفسيات أبنائه أحالها إلى انكسار.. وأخطر ما تعانيه الأمة، ويثبط عزيمتها، أن ينال أبناءها تسمُّم الانكسار الذي يتغلغل في أعماقهم، فيكسر فيها كل عزيمة للنهوض والانطلاق. فالانكسار تسمُّم ذاتي جراء تجرع غصص الواقع التاريخي المر. هنا ندرك لماذا تصر "أم سهام" على تعدد النعوت بهذه الصفة في حديثها، لأنها لا تريد للغة أن تكشف عن جانب وتُعفِّي على آخر. فالخراب الذي يطال المادة يقابل خرابا آخر في أعماق الذات العربية، ويتولد عنه انكسار في العزيمة. ومهمة الكتابة الإبداعية هي محاربة ذلك التسمم، وإزالة عوارضه من الذات المنهزمة. ولسنا نرى أشرف وظيفة للفن من هذه الوظيفة التي يتحمل فيها المبدع دور الرائد والمصلح.. دور المستشرف الذي يعرف كيف يجعل من الكتابة أداة للتحرر من القهر، والمنع، والاضطهادوكيف يرتقي بها إلى مُدافعة الخراب والانكسار.. فليس الفن للفن، كما يزعم دعاته المتفلِّتون من مسؤلياتهم، وإنما الفن التزام بقضية وإن كانت في أضيق صورها قضية ذات واحدة. المهم أن يعمل الفن على تحويل واقع تنكره الذات إلى آخر تصبو إليه.

وتعتقد"أم سهام" بأن :« القصيدة تعبّر عن حلم الإنسان، وتشكل رؤيا، وتترصد خلجات النفس.» ( ) وكأن القصيدة في جملتها ضرب من الرائي الذي يُعبِّر، ويُشكِّل، ويترصَّد..ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام متتالية أخرى يتوجب علينا تفكيك دلالتها للوصول إلى مراد الشاعرة/الناقدة. فإذا كانت القصيدة تعبير عن حلم، فالمراد من التعبير في هذا السياق الخاص يأخذ بعدين اثنين: بعد العبور والانتقال من حال إلى حال. وتلك هي مهمة "التعبير" أساسا في أن تَعبُر بك العبارة من واقع للفهم إلى آخر أكثر وضوحا وبيانا. أما البعد الثاني فيتجسد في انقلاب "التعبير" إلى آلة للبناء حينما يُحوِّل رموز الحلم إلى واقع مستقبلي قريب التحقُّق، فيقال عبَّرت الرؤيا إذا جعلت رموزها ناطقة بحقيقتها. فيكون لي منه أفقا جديدا ينفتح أمام الذات، يكسر قيدها، ويبدد خوفها، ويحفزها على الانطلاق. وبذلك تتحول القصيدة إلى ضرب من السحر الذي يحقق المستحيل، أو يذلل الممتنع..

فإذا فهمنا من التعبير إعادة بناء واقع مستقبلي انطلاقا من رموز الحلم، فإن التشكيل مصطلح آخر يعمل على إيجاد الكفيات التي يكون عليها البناء والتي تتوافق مع الرؤيا التي يحملها الفنان بين جوانحه. وكأن المستقبل صياغة فنية تتشكل بين يدي الذات انطلاقا مما تريده، ومما تحلم به.. فالقصيدة هي ذلك النداء المنبعث من أعماقها لتصوير مستقبلها استنادا إلى خلجات النفس.. أليس الشاعر هو آخر الرائين؟ أليس هو ذلك الصوت الذي يخترق حجب الزمن متمنيا، راجيا، أن يكون الغد أشرق من اليوم وأجمل وجها؟..

3-هم الذات:

ليس من السهل على الأديب أن يتحدث عن نفسه بعيدا عن أناه.. وكلما تتبعنا الحوارات، وجدنا هذه الأنا حاضرة، تحاصرنا في كل جمله، وتوهمنا أننا أمام نشاط أناني يجب أخذه بحيطة وحذر. غير أنني مع "أم سهام" ونظرا لميراثها الكبير، أجدني أقرأ فيه إشارات أخرى يجب أن تستثمر إذا جئنا نكتب سيرتها الأدبية. فالأنا هنا أنا تاريخية وحسب.. بمعنى أننا لسنا أمام فعل نرجسي يتحدث عن ذاته بشغف، وإنما نحن أمام ذات تتحدث عن نفسها باعتبارها تاريخا، تسجل من خلاله محطات قطعتها في تعاملها مع الحرف العربي في هيئاته المختلفة: شعرا، ونثرا، ونقدا.. فهي حين تقول :« فأنا كاتبة تحمل بذور حلم التمرد على ترسبات الماضي الراكد، فترى الأدب نزيفا داخليا لا ينقطع.. أهفو إلى حياة معشوشبة، متحركة، متجددة.. وأبني من اليأس، والحزن، والتمزق، قبابا من الأمل، والحب، وطاقات خارقة من المقاومة. » ( ).

إنها كاتبة تحمل "بذور حلم التمرد" على ذلك الواقع الذي وصفته من قبل بالخراب والانكسار، والذي جعلت فيه مهمة الأديب تتجاوز الاهتمام الفردي إلى الرائي الذي يحمل في أقاويله نبوءات المستقبل الواعد، والذي يجعل من القصيدة مزادة للبذور التي تُزرع في أراض أماتها الانكسارومنها كان الأدب ذلك النزيف الداخلي الدائم الذي لا ينقطع.. غير أن الفنان لا يشقى به، بل يحمله في كيانه حلما جميلا يهفو إلى حياة معشوشبة، متحركة، متجددة.. أليس هو الرائي الذي تحدثنا عنه من قبل؟ أليس هو الذي يبني من الأحلام ويشكل مستقبلنا؟ ف"أم سهام" هي الأخرى تبني من اليأس، والحزن، والتمزق.. قبابا من الأمل والحب، وتبعث طاقات خارقة من المقاومة.
4-
هم الشعر:

كتب "كاظم العبودي" عن "أم سهام" قائلا:«في واحتها الشعرية فضاءات عربية من نخل وزيتون، ونجوم لم تبرح سماءها مضيئة بسكون الضوء بلا بريق. ظلت سماءها عربية تظللت بالظفائر والجدائل من سعف النخيل، وتدثرت بشغاف القلب كل مساء...»( ) فيرفع إلينا "كاظم العبودي" في ثوب شعري جملة من الخصائص الشعرية التي تتمتع بها الشاعرة. ويفتح أمامنا فضاء القراءة والتأويل، لنجد تحت كل كلمة من الكلمات التي اختارها، وإزاء كل صورة من الصور التي أنشأها، مرجعية تغترف منها الشاعرة مادتها، واستعاراتها، وكأنه بذلك يحدد طبيعة "الكون الشعري" الذي تتحرك فيه "أم سهام" بين "نخل وزيتون" ففي حين تمتد الأولى عميقا في قلب الوطن العربي، وتلتصق بهويته التصاقا يتشرب قوته من التاريخ والحضارة، يمتد الثاني ليعلن انتماء آخر يحده البحر الأبيض المتوسط في كل شطآنه. وكأن التحديد من خلال رمزية النبات أقوى دلالة من التحديد استنادا إلى رمزية عرقية أخرى قد يداخلها غموض، أو يشوش فكرتها التباس.. لذلك كانت الواحة بنخيلها مرفأ للعابرين صحراءها، يجدون فيها الأمن، والراحة، والطمأنينة.. يجدون الحياة، والتجدد، والاستمرار. ولذلك كذلك كلمة الزيتونة رمزا لبيئة معينة شديدة الاتصال بالأرض والتاريخ، كما هي شديدة الاتصال بالأمن والسلام.

ولا بد للقارئ أن يجد في لغة "أم سهام" جمال النحلة الباسقة، وجمال متانة شجرة الزيتون.. أن يجد الوعي والعمق اللذين تحدثت عنهما من قبل في تجربتها الكتابية. وقد أحسن "كاظم العبودي" حينما أخرج لنا هذه التغريدة في ثوب شعري ليقول من خلالها خصائص الشعر لدى "أم سهام" من خلال رمزين فقط تنفتح أمامهما فضاءات التأويل، لتقول كلاما قد لا تستوعبه المقلات الطوالوقد أحس مُصدِّر الديوان "نجاح مبارك" بذلك التنوع والتعدد في سيما "أم سهام" فقال أنها :«شاعرة منشدة.. لأن جل قصائدها تعبر عن خوالج النفس، وعن إدراك حسي وجمالي عميق، تشكله رؤية العقل المفكر، وتمتزج فيها النزعة الرومنسية بالنزعة الواقعية، لتشكل لوحات فنية..» ( ) والجديد في هذه الشهادة وجود كلمة "منشدة" إنها الكلمة التي غيبها النقد العربي الحديث في اهتمامه بالقراءة، حينما جعل الشعر الحديث شعر يُقرأ، لا شعرا يُنشد.. وكأن الإنشادية من خصائص القصيدة العمودية وحدها، وأن شعراءها هم المنشدون وحدهم..

صحيح أن الإنشادية من خصائص القصيدة العمودية وحدها، وأن شعراء القصيدة الحرة، والنثرية، قد استفادوا من هيئات الإنشاد التي تورثها الشعراء جيلا بعد جيل. لأن الإنشاد هو الوجه المكتمل للقصيدة.. فلا يمكن أن نسميها قصيدة حتى تُنشد.. ومعنى ذلك أن الإنشاد يرفع إلى القصيدة هيئات الصوت، والجسد، والحركة، لتضاف إلى العين والأذن رافدا دلاليا يُحدِّد مقاصدها. وكأن الإنشاد يُمَسْرِحُ القصيدة.. فقد كانت "الخنساء" تنشد قصيدتها من فوق كتفها عَرْضَنَةً.. وكان "المتنبي" لا ينشد شعره إلا وافقا.. وكأن الإنشاد إدراج للشاعر في صلب قصيدته.. ليغدو طرفا فيها.. إنه يعرف خلجاتها، يعرف ارتجاج الحس فيها، يعرف متى تُفخَّم أصواتها ومتى ترقَّق.. متى يرفعها الصوت الجهوري البيِّن، ومتى يسري بها الصوت الهامس الخافت.. ومهما حاول القارئ أن يتقمص أحوال الشاعر فإنه لن يستطيع أن يفي القصيدة حقها من الإنشادية. لأنه غريب عنها لا يعرف ملابساتها التي اختارت إيقاعها، وحدَّدت كلماتها، وشدَّدت نبرها، وأرخت مُدودها... لأن هناك جزء من روح صاحبها يسري في عودها، فلا تخضرُّ القصيدة إلا إذا نفخ فيها صاحبها شيئا من روحه.وحين نقرأ "لأم سهام" قصيدتها "حوار مع الشاعر بدر شاكر السياب" في شكلها الذي ارتضته لها، نطرح على أنفسنا سيلا من الأسئلة. فهي تقول:

تقرع طبول الحرب

في جوف الليل الحزين

وتتسارع الأخبار كالسكاكين

تقرع طبول الحرب

فماذا كان لك أن تقول يا بدر...

لهذا التنين؟

ما كان لك أن تقول له

وهو يجلد أطفال بلدك

بأنواع القهر وأنواع التعذيب

ماذا كان لك أن تفعل يا بدر

أمام عشاق الدمار

وتجار الدماء

عبر مئات السنين؟

ماذا كان لك ان تضيف

لمطولاتك
المتشائمة الغارقة

في ضباب الحزن والأنين

أنشودة المطر

حفار القبور

عكاز الجحيم.. ( )

كانت "أم سهامقد حاورت "محمود درويش" في قصيدة خاصة قبل هذه القصيدة عنونتها ب"حوار مع الشاعر محمود درويش" وكأن النص الشعري بين يديها لا يريد أن ينطلق من فراغ، بل يريد أن يتأسس على نضال سابق قام به شعراء معدودون في القضية العربية، وأنها لا ترى في نفسها سوى الاستمرارية الطبيعية للرائي الذي يحمل الحلم في قلب الفجيعة، والذي عليه أن يظل متغنيا بالأمل على الرغم من الخراب والانكسار.. فتسأل هذا وذاك.. تسأل الأول في وطن اغتصب ولا يزال تنتهك حرماته، ووطن تدق فيه أبواب الحرب ليعود أدراجه إلى آتون الخراب الذي يحيق به.. فجرح فلسطين والعراق سيظلان شارة على النكسات والخيبات العربية في زمن تتكالب فيه الأمم على العرب والمسلمين..إن استدعاد "بدر شاكر السياب" المتشائم، و"محمود درويش" المقاتل، فيه ما يشبه التعارض الذي يبطل السحر، ويرفع الران الذي غلَّف القلوب والعقول.. فيه من العراق ما يعود بنا إلى فجر التاريخ، وفيه من فلسطين ما يبقينا معلقين على أمل دحر العدو ورميه في البحر...

إن القصيدة بكلماتها البسيطة المبتعدة عن سُدف الغموض، تفتح أمام قارئها طريقين: طريق يمتد إلى ماض فيه بغداد وفيه بلاد الرافدين، وطريق يصعد نحو السماء فيه القدس وموعد نزول عيسى عليه السلام.. والقارئ حين يغفل عن هذين البعدين في النص، لن يجد سوى حديث لغة قد تشعره بخيبة الأمل إن هو لم يرتفع عنها إلى رسائلها المخبأة فيها. وكأن نص "السياب" لن يُقرأ بمعزل عن نص "محمود درويش" وأن قضية الأول ليست مفصولة عن قضية الثاني.. إنها قضية العربي الواحدة مهما تنوعت فيها التسميات واختلفت الأزمة. فالذي قاله "السياب" من زمن كاف وزيادة لتحديد حجم الحلم العربي شرقا وغربا، كما أن الذي قاله "درويش" عن النضال كاف لاستنهاض الهمم اليوم وغدا.. وإنما الشعراء يُذكِّرون... يُنبِّهون الغافل السادر..

ففي قصيدة " أبو غريب" تقول:

أضاع العالم رشده

من شذوذهم

خجل التاريخ

فكسر كل مراياه

أبدا
لا يغسل عاركم

خطاب أو صراخ

أو نحيب

فالتخلص من رجسكم

من قمعكم

من احتلالكم

هو الحل الوحيد والله وحده

هو المستجيب..( )

إنها التوقيعة التي لا يحسنها إلا الشعراء الذين تتكثف التجربة لديهم لتبلغ حجما يمكن الزج به في كلمات قليلة، ليكون شبه الأنشودة التي يسهل حفظها وترديدها. فالمكان الذي تتخطاه الشاعرة سريعا، ولا تشير إليه في نصها "أبو غريب" ليس إلا رمزا لواقع شاذ في تاريخ الأمة العربية، تجب إزالته سريعا حتى لا يُعكر صفو التاريخ.. حتى لا يخجل التاريخ

 
***************************************************************

1-جميلة طلباوي. أصوات الشمال. نشر في الموقع بتاريخ : السبت 1 محرم 1433هـ الموافق لـ : 2011-

11-26
2- - 
جميلة طلباوي. أصوات الشمال. نشر في الموقع بتاريخ : السبت 1 محرم 1433هـ الموافق لـ : 2011-11-26.
3- 
جميلة طلباوي. أصوات الشمال. نشر في الموقع بتاريخ : السبت 1 محرم 1433هـ الموافق لـ : 2011-11-26
4- - 
جميلة طلباوي. أصوات الشمال. نشر في الموقع بتاريخ : السبت 1 محرم 1433هـ الموافق لـ : 2011-11-26.
5- 
جميلة طلباوي. أصوات الشمال. نشر في الموقع بتاريخ : السبت 1 محرم 1433هـ الموافق لـ : 2011-11-26.
6 -
أم سهام. فتح الزهور.شاهدة على العصر. ص:15. من مدخل كتبه كاظم العبودي. منشورات دار الأديب.2005. وهران. الجزائر.

7- أم سهام. فتح الزهور.شاهدة على العصر. ص: 5. من مدخل كتبه كاظم العبودي. منشورات دار الأديب.2005. وهران. الجزائر.

8- أم سهام. فتح الزهور.شاهدة على العصر. ص: 46/47. من مدخل كتبه كاظم العبودي. منشورات دار الأديب.2005. وهران. الجزائر.

9- أم سهام. فتح الزهور.شاهدة على العصر. ص: 63. من مدخل كتبه كاظم العبودي. منشورات دار الأديب.2005. وهران. الجزائر.

ملاحظة: المحاضرة ألقيت بجامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة ضمن برنامج المهرجان الثقافي للشعر النسوي بقسنطينة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،