التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رواية البحر.. رواية الصحراء"رجل أفرزه البحر" لسعيد شمشم.. كتبه حبيب مونسي



http://www.meretmarine.com/objets/388.jpg

ربما تكون رواية الصحراء هي التي فجرت هذا الاهتمام بالمكان الخاص، حينما غدت الصحراء موضوعا ولغة للسرد الروائي الجديد مع إبراهيم الكوني، ولحبيب السايح، ومحمد حيدار، والطاهر بلحيا، والصديق حاج أحمد، المعرروف بالزيواني، وعبد الله كروم، وقادة ضيف الله، وعبد الوهاب عيساوي، وعبد القادر برغوث ..

 
 هؤلاء الذين غمسوا أرجلهم وأرواحهم في الصحراء، فانغمس السرد فيهم في قاموسها الواسع الكبير، وخرجوا منه بأعمال من مزيتها وخصوصيتها أنها تنقلك مباشرة إلى عالمها وسحرها، وقد جردتك من معارفك التي تلوثت بالأمكنة المختلفة. لأنها لا تريد منك أن تدخلها إلا من خلال بواباتها المعروفة عبر الأزمنة والتاريخ. ومن ثم تفرض عليك قاموسها المحلي، وطريقة سيرها البطيء الذي يحاكي سير  القوافل في الكثبان.
وها هي رواية البحر تطل من السواحل الجزائرية لتكتب أدبها بمداد أزرق هذه المرة، مقبلة على عالم يخال كثير من الناس أنه يعرفه من خلال زياراته الموسمية له،طلبا للاستجمام، أوالسباحة، أوالتمدد على رمال شطآنه.. غير أنها معرفة هشة لا تكاد تنقل إليك إلا قليلا من زرقة الماء، وبياض الموج، وشيئا من هدير البحر وضجيجه.. بيد أن رواية البحر تطلب منك هي الأخرى أن تتجرد من أثوابك وأثقالك، ومعرفتك، ولغتك، لأنها ستدخل بك عالما غير مألوف.. عالم يمكن أن يكون مخيفا قاتلا، مطبقا مهولا، كما يمكنه أن يكون عالما حالما، وديعا ساجيا.. بيد أن المظاهر التي تتراءى لك وأنت تُقبل عليها ليست غير مرايا خداعة، يمكنها أن تشوه الصورة وتعبث بالمشاعر. فتتكسر فيها الأبعاد، وتتشوه فيها الأشكال، ولا تقدم لك حقيقة البحر التي تطلبها من خارجها. إن رواية البحر تجعل السرد يقدم بك من الشاطئ إلى عرض البحر رويدا رويدا، فإذا بك وقد غابت الأرض، وأطبقت السماء على البحر، وليس لك في هذا المجال من شيء تتشبث به ليعين ويحدد لك الجهات الأربعة، إلا معرفة متأصلة في رجال البحر من أزمنة تغوص في أعماق التاريخ.
رواية البحر كرواية الصحراء تحتاج إلى "بحار" مُدْرب خبيرٍ كانت ولادته على زبد موجة من الموجات، وكانت رضاعته من ثدي عرائس البحر، وكانت تربيته بيد ربان لا تثبت قدماه إلا على لوح طاف على وجه الماء. فليس لي ولا لك أن تكتب عن البحر، وقد غمست قدميك في ضحل ضحضاح مياه شاطئ من الشواطئ، ثم تزعم أنك تعرفه.. لأن البَحَّار ليس في حاجة إلى كتاب، أو قلم، أو لوح.. ليعرف قراءة البحر.. إنه يقرأه بعينيه، وبحاسة شمه، وبمذاق ملوحته، وطبيعة هديره، وزبد موجه.. تلك المعرفة التي لا يستقيم تعلمها من كتاب لأنها تتأبى أن تكون في أسطر المكتوب بقدر ما تنتشي أن تكون في مشاهد المحكي على ظهر القارب، أو حول نار موقدة على شاطئ.. فالربان في هذه الرواية رجل أمي لا يعرف الكتابة ولا القراءة، ولكنه يعرف البحرَ، والبحرُ يعرفه.. قرأ سطور خلجانه، وتقلب بين رمال شطآنه.. عرفه في حال الغضب والثورة، كما عرفه في أحوال الهدوء والسكينة.. عرفه صيفا وقد داعبته نسمات باردة عليلة، وعرفه شتاء وقد نفخت فيه رياح عاتية شديدة.. حينما كانت أشرعته مشبعة ريح هينة، وحينما كانت أشرعته مُمزَّعة تلويها الأعاصير ليًّا قويا..
 إنها قصة "عمي صالح" على لسان "سعيد شمشم" الذي أوقف حاسة السرد عنده على عتابات البحر، ليروي من أخباره، ويفتح من أسفاره، ما يغري على القراءة، ويقرب البحر من طالبيه.. إنها رواية "تُعلِّم" قارئَها احترام البحر، وعدم الاستهانة به.. لأنه يصنع الإنسان بطريقته الخاصة، ويعطي للأحداث أبعادها العجائبية، التي يسملحها الرواة فينشدونها، وقد عادوا مساء بصيد وفير تنتظره المدينة..
لا شك أن لرواية البحر جاذبيتها الخاصة حينما تنفتح على عالم لا يعرفه القارئ إلا ظاهرا وهو يحسب أنه يعرف عنه كل شيء.. لأن الروائي البحار الذي يمتلك الزورق ويشتغل في البحر ليله ونهاره ويعود مساء إلى أوراقه ليسجل مشاعره في لغة تأبى أن تعيد استعمال استعارات وتشبيهات الصحراء، وترفض أن تظل حبيسة صور ترتد إلى ثقافة البر والفيافي والرمال.. إنها لغة تريد أن يكون لها معجمها الخاص الذي لا يشبه معجم الصحراء ولا يعترف به.. فالأسماك والطحالب والخلجان والشطآن والأحجار والنوارس وغيرها لها أسماؤها الخاصة التي لم تجر كثيرا على ألسنة ساكني الصحراء ومن ثم فإذا كان العربي قد عدد في أسماء الذئب والفرس فإنه لا يملك كثرا من أسماء الأسماك ولا أسماء فاكهة البحر.. بل إن اختلاط اللغات وتمازجها في البحر ترك في معجمها لكنة أخرى هي مجبرة على استيعابها وتعريبها وإجرائها في محاوراتها.
كثيرا ما يتوقف القارئ عند عتبات هذا المعجم متسائلا عن هذا الكم الهائل من الأسماء التي تنتظر أن يجد لها مقابلا في لغته أو أن ينحت لها أسماء جديدة من صخر لغته فتصير عربية أو يعربها ليبلغ بها أفق الاستعمال الذي يعرفه الخاص والعام.
من هذا الوجه تأتي رواية "رجل أفرزه البحر" ل"سعيد شمشم" لتطرح قضية لغوية في غاية الطرافة والخطورة معا. إنها الرواية التي أرادت أن تكون رواية البحارة وملوك السردين، وأن تدخل عالمهم الخاص جدا بما يفوح من روائح وما يسكنه من مخاوف وما يؤثثه من أحلام وما يلاقيه في الأسواق من متاعب.. رواية تخرج كل صباح مع مطلع الفجر لتخوض عباب البحر تشقه شقا في اتجاهات تصنعها الرياح وأسراب السردين وتخطها خبرة الربان الذي يتشمم الأفق وريحه ليعرف أين يتجه بالمركب.. ورواية تخرج ليلا كذلك لتسط أضواء كاشفة على البحر لتدعو أسراب السردين إلى حمام من النور ثم إلى شبكة تنتظرها أفواه الجياع على الشاطئ..
فليس المهم في هذه الرواية قصة العم الطيب.. وتقلباته الحياتية من الثورة إلى اليوم، ولكن المهم في كل ذلك حضور البحر بما فيه من لغة وكائنات وعجائب تتجاور فيها الأطراف الفاعلة وكأنها تنسج بأخبارها ومآسيها دراما الحياة البحرية في بعدها الجمالي أولا قبل أن تلتفت إلى بعدها الواقعي.
كانت قراءتها ضربا من الرحلة في عالم البحر.. وكأن الروائي ينقلنا عبر مركبه في رحلة عجيبة بمحاذاة الشاطئ ليرينا كيف يرسم البحر وجه الأرض وكيف يحدد شكلها وكيف يكتب في أخاديدها حكاية الزمن في صراع الموج مع اليابسة. إن الأخاديد التي تطالعك وأنت في منبسط الماء وما يرتفع وراءها من جبال مخضرة يترك في نفسك شعورا حادا بأن عالمين يلتقيان هنا، ولكل عالم لغته وخواصه التي لا يمكن التعامل معها بلغة العالم الآخر لأنك ستفسد على نفسك متع الاكتشاف ولذة الخوض في مجاهل التجارب التي يحياها البحارة.
كانت الحكايات الجانبية التي يرويها المؤلف تتردد هي الأخرى بين البر والبحر، وكأنها تحاول أن تربط الصلة بين العالمين ربطا مكينا غير أنها في عرضها الواقعي لم تحفل كثيرا بفلسفة المواقف ولا انفتحت على التداعيات التي تملأ الصفحات وترهل الرواية ولكنها احتفظت بخطها الواقعي لتنقل مشاهد أراد لها الروائي أن تكون من صميم حياة البحارة وهمومهم. لذا جاء النص قصيرا نوعا ما، وقد كنا نتمنى أن يطول ويسهب في مواطن كنا نتعلم منها لغة البحر ونلج عالمه الخاص.. كنا ننتظر منها أن تغرب بعيدا مع هدهدة الموج، أو مع عويل الرياح، كنا نريد منها أن تزيدنا من البحر سحرا لن نقدر على المسك به لو تركنا أمامه في جلسات الاستجمام والمصيف.
يقينا أن رواية البحر قد بدأت ويقينا أن هذا النص يؤسس لرواية البحر الجزائرية ويقينا أننا سنجد من كتاب الشاطئ من يوغل بنا بعيدا في اليم ليأخذنا في رحلة العجيب المدهش الذي لا نؤب بعده كما بدأنا غفلا، وإنما ستكون العودة وقد غمسنا في لججه كما يعمّد النصراني في مياه النهر..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،