ولأننا حين الكلام عن القراءة/ الكتابة نقدم دائما بين
أيدينا تصورات غيرنا، فنقول قال فلان وقالت فلانة.. نشرع في هذه الورقات طرح
تصورات نستقيها من تراثنا ومن فهمنا لنصوصه.. نطرحها بين أيدي القراء لإثرائها بما
يجدونه في أنفسهم من فهم.. وما يرونه من رأي خاص بهم وحدهم..تشكل من قراءاتهم.. من
اهتماماتهم..مما يريدونه للقراءة والكتابة من مفاهيم وتصورات
ينبثق فعل "القراءة" في القرآن الكريم من فعل
الخلق والإبداع الذي يرتدّ بالإنسان إلى تشكّله العقلي الأول كمبتدى التخلق فيه.
ثم النموّ الجنيني ثم الاستكمال السّوي في أحسن صوره، وكأنه إحالة على وظيفة الفعل
القرائي المشروط "باسم ربك" نحو الكمال الإنساني.
والفعل هنا ليس استهلاكاً لموروث أو اجتراراً لما هو
كائن مسطور، وإنّما هو فعل إبداعي يهدف إلى تعليم يؤمِّم وجهه شطر المستقبل بغية
أن يحقِّق للإنسان "مالم يعلم". فهو والحالة هذه مشروط بالكتابة لأنّها:
"علم.. لا علم بالمعلوم وحسب بل بالمجهول كذلك"(1) يؤديها القلم في
تجسيدها الخطي، وتمظهرها المادي، وإن كانت أوسع من ذلك وأشمل تنتهي إليه في صورتها
الأخيرة. لذلك وصفها العرب بـ: "صناعة روحانية تظهر بآلة جثمانية دالة على المراد
بتوسط نظمها"(2) وهو إدراك له خطورته في تحديد طبيعتها، وفي ارتباطها
بالقراءة إذ أنّها لا توجد ذاتها لكي تقرأ، بل تأبى إلاّ أن تكون هي نفسها قراءة
تتجسد في فعل خطي حتى تضمن لنفسها البقاء. ذلك لأنها تجسّد الروحانية فيها:
"بالألفاظ التي يتخيلها الكاتب في أوهامه، ويتصورها من ضمِّ بعضها إلى بعض
صورة باطنة قائمة في نفسه. والجثمانية بالخط الذي يخطّه القلم، وتقيّد به تلك
الصورة وتصير؛ بعد أن كانت صورة معقولة باطنة، صورة محسوسة ظاهرة... إن هذا
التحديد يشمل جميع مايسطره القلم مما يصوّره الذهن ويتخيّله الوهم، فيدخل تحت مطلق
الكتابة"(3).
فإذا كانت "الكتابة" تأبى إلاّ أن تكون
"قراءة" في أوسع دلالتها، انطلاقاً من الارتداد إلى مبتدأ الإنسان،
وانتهاء إلى تجسيد الوجود تصوراً، وتأملاً، وتفكراً، وتعقلاً، وإدراكاً.. فلأنها
تصبو إلى: "وضع العالم واقعاً وغيباً، صورة ومعنى في نظام لغوي... رؤيا خاصة
للعالم في تعبير خاص"(4). كما كان الشأن مع القرآن الكريم قبلاً، فالقرآن الكريم
آذان بـ: "نهاية الارتجال والبداهة... وهو بمعنى آخر نهاية البداوة وبدء
المدينة. إنّه بداية المعاناة والمكابدة وإجالة الفكر، القرآن إبداع للعالم بالوحي
من حيث أنّه تصور جديد للعالم، وتأسيس له بالكتابة"(4).
إذن ليس من باب المصادفة "السعيدة" أن تكون
أول كلمة يفتتح بها باب الوحي فعلاً "آمراً"، والفعل يوحي بالحركة في
كلّ أشكالها المعنوية والمادية، وزيادة كونه أمراً يُحمِّل الحركة إلزاماً لا يسلم
منه أحد، حتى أولئك الذين يتذرعون بعدم معرفة "فك الحرف"، لأن الفعل هنا
يتخطى رمزية الحرف إلى رمزية الوجود كلّه: (ولا تقف ما ليس لك به علم إنّ السّمع
والبصر والفؤاد كلُّ أولئك كان عنه مسؤولا) "الإسراء 36" فيغدو الكون
"كتابة" تتقاطع فيه كلّ أشكال العلامات، ناطقة وصامتة، متحركة وساكنة،
لونية وعديمة اللون، شمسية وعديمة الرائحة، وكلّ الهيئات والأحوال، والتي نعتها
الجاحظ "بالنّصبة"
وهي وإنْ تضمنت الخط (Trace) توسعت
إلى اللفظ والإشارة، والعقد، والحال: "هكذا تتحوّل النّصبة من وظيفتها
الدلالية في التعبير إلى وظيفة ميتافيزيقية، وتصبح النّصبة هي السماوات والأرض، أو
هي الخلق الذي لم يخلقه الله سدى"(5) وكلّ عقل سوي إذا ألزم نفسه أمر
"القراءة" كان بمقدوره أن يطلّع على "الكتابة الكونية" وذلك
لاستحالة اللفظ احتواءها: "ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام" والبحر
يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدَت كلمات الله" إذ ليس معقولاً أن تكون الكلمات هُنا مِمّا هو متعارف
عليه من حروف متآلفة، وإنّما النَعمُ والأعاجيب والصفات وما أشبه ذلك. وهي قائمة
وراء اللغة ومعانيها، لكل جيل نصيب منها، ينْضافُ إلى الأجيال الأخرى، ويتراكم دون
أن ينفدُ أو ينقص.
وفعل القراءة من هذه الوجهة مكابدة مستمرة، تصاحب
الإنسان، من أول سؤال يتفوّه به، إلى آخر اقتناع يستقر عليه، أو يقضي في نِشْدانه،
وهي كذلك فعل حضاري متميّز لَم تعرفه الإنسانية قبلاً، وإن كانت اليوم تتعثر في
التّفتح عليه من خلال القارئ، لا من خلال الكتابة لأنها تقييد لما قرئ فقط، ينبغي الانطلاق
منه لتحقيق الجديد.
يترادف الفعل "القرائي" والتفكير في ثنايا
الطرح القرآني لفعل "اقرأ" لأن التفكير هو الحاسة التي بإمكانها تجاوز
الخط (Trace) والكتابة
(Ecriture) المشروطين بحيّز ضيق
ومحدود (الكتاب) إلى مدارات العلامة الشاسعة، في احتوائها للكون جملة، ولمظاهر
الحياة تفصيلاً، وتتسع مجالات التفكير مرّة أخرى، لتشمل عمليات التدّبر، والتأمل،
والنظر، والبصر، والسمع، والاستبصار الباطني: رؤية ورؤيا، فتكون هذه العمليات
منوطة بالعقل والقلب على السواء، يلتفتان إليها على التوالي، لإدراك حقائقها،
ولاستكناه جواهرها وماهياتها، وهي إجراءات، وإن بدت بسيطة ساذجة ابتداء سرعان ما
تتشعب وتغور، وتتعقد لأنّها لا تتوقف عند حدّ معلوم ما دام الأفق المعطى لها يمتدّ
من المتأمل ذاته إلى الوجود في ماديته ومعنويته، إلى ما وراء ذلك من قوى غيبية
يتحسّس وجودها في كلّ آية من آياته.
والنظر في القرآن الكريم، يكشف هذا البعد الحضاري
"للقراءة" وهي تتجاوز المكتوب إلى محيط العلامات والرموز، فكل آية فيه
إلاّ وحملت ذلك النداء وكرّرته، تكرار أمر، وإلزام فهي: "تشمل العقل الإنساني
بكلّ ما احتواه من هذه الوظائف بجميع خصائصها ومدلولاتها، فهو (القرآن) يخاطب
العقل الوازع، والعقل المدرك، والعقل الحكيم، والعقل الرشيد، ولا يذكر العقل عرضاً
مقتضباً بل يذكره مقصوداً، مفصلاً على نحو لا نظير له في كتاب من كتب الأديان":(6)
ذلك أن العقل يُستفاد منه لغة: المسلك والتثبيت، وهو ما
أملى على العقاد- من
خلال النصوص القرآنية- النظر في خصائصه، فألفاه: "يتأمل فيما يدركه، ويقلّبه
على وجوهه، ويستخرج منه بواطنه وأسراره، ويبني عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص
في جملتها ملكة "الحكم" وتتصل بها ملكة الحكمة، وتتصل كذلك بالعقل
الوازع. إذا انتهت حكمة الحكيم به إلى العلم بما يحسُن وما يقبُح، وما ينبغي له أن
يطلبه وما ينبغي له أن يأباه"(7)
وهي خطوات يلتزمها العقل في قراءته للموجودات، ويتحسس
معانيها استناداً إلى حضورها وغيابها، واستفزازها له، فإن انتهى منها إلى شيء
استدعته وراءه أشياء أخرى، تدفع أفق المعرفة إلى حدود تخوم غامضة. إلاّ أنّها تنعم
عليه بخاصية يسميها "العقاد" "الرّشد" أي الكمال الإنساني:
"وهو مقابل لتمام التكوين.. ووظيفة الرّشد فوق وظيفة العقل الوازع، والعقل
المدرك، والعقل الحكيم، لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف وعليها مزيد من النضج
والتمام، والتمييز بميزة الرّشاد حيث لا نقص ولا اختلال.. وقد يؤتى الحكيم من نقص
في الإدراك، وقد يؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة.. ولكن العقل الرّشيد ينجو به
الرّشاد من هذا وذاك"(8)
وصفة "الرشاد" التي يجعلها "العقاد"
أسمى خصائص العقل، لا تتأتى له من ميزة فيه ولكن من تضافر وظائف موكولة له، يقوم
بها حسب ما تقتضيه مواقف "القراءة" للموجودات ومعانيها، وإشارتها، ودلالتها،
ورموزها، وهيئاتها، ولذلك تسعى إليها القراءة، عبر قنوات تتمايز فيما بينهما
وتتجاور، وهي قنوات حدّدها النص القرآني من خلال فعل "اقرأ".
فالعقل الذي يفكر ويستخلص من تفكيره زبدة الرأي
والرّؤية، فالقرآن الكريم يُعبّر عنه بكلمات عديدة تشترك في المعنى أحياناً،
وينفرد بعضها بمعان على حسب السياق في أحيان أخرى، فهو الفكر، والنظر، والبصر،
والتدبر، والاعتبار، والذكر، والعلم، وسائر هذه الملكات الذهنية التي تتّفق
أحياناً في المدلول. ولكنها لا تُستفاد من كلمة واحدة تغني عن سائر الكلمات
الأخرى، فهي حركات سلوكية تحركها إرادة لتغيير ما هو قائم بالفعل وتجاوزه، فيكون العقل
أخيراً ليس مادة "رمادية"،وإنما: "نمطاً معيناً من السلوك، يسلكه الإنسان
في مواقف بذاتها وتكون الإرادة نمطاً معيناً آخر من السلوك: "فلو سألتني ما
العقل؟ أخذتك من يدك إلى إنسان يحاول أن يلتمس الطريق إلى هدف، كائناً ما كان
الهدف، وكائناً ما كان الطريق، وقلت لك: هذا الذي تراه محاولة للوصول إلى هدف هو
مثل من الأمثلة الكثيرة، التي جاءت كلمة "عقل" لتضمّها جميعاً في حزمة واحدة"(9) وبهذا الفهم،
يتحوّل العقل إلى "فعل" شأنه شأن "فعل" اقرأ لأنّه يريد تحصيل الجديد
وتقييده، ولا يكون له وجوده الفعلي، إلاّ إذا ارتبط من جهة أخرى بالعمل، من حيث
كونه حركة نزوعية تمليها رغبة وإرادة، إذ ليس هناك "قراءة" إذا لم
يجسدها عمل، ولا عمل بدون تغيير نحو الأفضل. إذ لا شأن للتغيير لمجرد التبديل،
وإنّما الشأن، كل الشأن، في تبديل وضع أعلى بوضع أدنى.
ويترتب على هذا الأساس أن "الفعل" أقدس في ذاته من الحاصل عنه، لأنّه يؤسس حركة مستمرة مثمرة تتوالى دون انقطاع إذ (من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد)، فلا تقنع بما آلت إليه، بل تجد في فعلها، ما يغنيها عن التوقف إزاءه، فهي تستأنس به، وتقيس من خلاله مجهودها ثم تمضي، لأن المضي قدماً أمرٌ إلزامي يقرّره الفعل بصيغة "الأمر" من خلال انفتاحه على المكتوب، وغير المكتوب.
ويترتب على هذا الأساس أن "الفعل" أقدس في ذاته من الحاصل عنه، لأنّه يؤسس حركة مستمرة مثمرة تتوالى دون انقطاع إذ (من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد)، فلا تقنع بما آلت إليه، بل تجد في فعلها، ما يغنيها عن التوقف إزاءه، فهي تستأنس به، وتقيس من خلاله مجهودها ثم تمضي، لأن المضي قدماً أمرٌ إلزامي يقرّره الفعل بصيغة "الأمر" من خلال انفتاحه على المكتوب، وغير المكتوب.
لذا وجب علينا أن: "نكتب ونقرأ لا بروح التوكيد على
النتاج بحدّ ذاته، بل روح التوكيد على فعل الخلق، ففعل الخلق أكثر أهمية مما
نخلق"(10) واستمرار فعل الخلق، مشرئباً نحو المستقبل، استمرارٌ حضاري خصب،
تؤطره القيم الموطّدة ب "اسم ربك" وكأن الحضارة /الثقافة تُجسّد الوعي
الممكن لا الوعي الواقع. لأنه يجب علينا -كذلك- أن نكتب ونقرأ: "فيما نعي
وعياً أصيلاً أن الثقافة ليست في الشيء القائم المؤسّس، وإنّما هي فيما يتحرك
ويُؤسّس، ولا تعود الثقافة مجموعة الآثار، والقيم، والمقاييس، والمنجزات
المتحقّقة، بل تصبح الحركة التي هي في طريق التأسيس، تصبح الإبداع متحركاً في
اتجاه المستقبل، وهذه الثقافة الفاعلة هي: التي تُبدع الإنسان فيما يُبدعها، وتُؤسّسُه
فيما يُؤسّسُها"(11)
هوامش:
1- أدونيس، الثابت والمتحول ص30 دار العودة بيروت 1979
1- أدونيس، الثابت والمتحول ص30 دار العودة بيروت 1979
2-م س
ص:26
3-م س
ص:26
4-م س
ص:23
5-محمد
الصغير بناني: النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ ص: 78 ديوان
المطبوعات الجامعية الجزائر
6-العقاد.
التفكير فريضة إسلامية ص: 7 مكتبة رحاب(د ت) الجزائر
7-م س
ص:6
8-م س
ص:1
9-زكي
نجيب محمود. في حياتنا العقلية ص:68 دار الشروق ط:2. 1981 بيروت
10-أدونيس
م س ص:313
11-م س
ص: 313
نشر في الموقع بتاريخ : الاثنين 7 ربيع الأول 1433هـ
الموافق لـ : 2012-01-30
تعليقات
إرسال تعليق