التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من مقامات الذاكرة المنسية..حديث السندباد ... بقلم : حبيب مونسي

تنهد سليم،وهز رأسه وهو يتأمل السطر الأخير، ثم همس:
-كم عاتبت هذا الشقي على سعيه المشؤوم، ولكنه يصر دوما على الإبحار ثالثة ورابعة..لقد قلت له مرارا أن كلمات السر لا توجد على صفحات الموج، ولا على صفحات الصخر، ولا في أعين الناس الذين يصادفهم.. إنها معلقة بين السماء والأرض..ملفوفة في حجاب شفيف لا يصل إليها تحديق المحدقين، ولا تأمل المتأملين..إنها مثل الهبة التي تأتي من غير إذن.. لقد حدثته عن ذلك الدرويش الذي قال لي يوما بأنني قريب منها لو نزعت النظارة البليدة التي أضعها على أنفي..لو نزعت الغلالة التي أضعها على قلبي، لو فتقت الحجاب الذي يستر ذاتي..ولكنه ابتسم وهم بالرحيل مرة أخرى..


النص عاد القلم إلى السطر مرة أخرى، يجري فيه بشدة، وسليم يتمتم خلفه متعثرا..
" لا تحسب حديث الدرويش خرافة من الخرافات، ولا هذرا، ولا محض جنون..إن حديثه يقع في الضفة الأخرى للغة، في برزخ لا تأتيه الكلمات مشبعة بمعانيها المهترئة البالية، إنها أشبه شيء بالقارورات البلورية الشفافة الفارغة، التي تشحن هذه المرة بدلالات لها من الخفة والروح ما للصفاء من خفة، وما للنسيم من روح..إنها في هذه التخوم تنفض عنها أثقال الإنسان وهمومه وأدرانه، وترتفع محلقة في فضاء الطهر..إن النظارة التي أحملها على أنفي لا تفعل شيئا سوى تضخيم التفاهة التي يلقي بها إلي الواقع وأحسبها من الحياة، أو هي الحياة عينها..إنها مجرد إفراز، وكل إفراز لابد له من صرف..وإذا نزعت النظارة غامت المناظر وتلاشت حدودها، وتداخلت حتى لا تكاد تبين. ساعتها تنفتح نافذة البصيرة لتعيد تشكيلها من جديد، وفق مقاييس لا علاقة لها بمقاييس العالم الذي يبلد أحاسيسنا..ساعتها تتخلل الرؤية الأشياء في ثوبها الجديد بعيدا عن مادتها الغلف إلى حقائقها..ساعتها سيتولى القلب قيادة العقل..سيملي عليه شروطا جديدة للإدراك والحكم..ساعتها سيكون العقل مجرد خازن يتولى تصفيف النتائج وتبويبها..إن القلب يتلمس الأشياء، يتذوقها ، يتلذذها، يتعاطف معها..يعطيها من ذاته سرا، فتعود عليه بأسرار جمة..قال لي الدرويش يومها: مسكين أنت إن ظننت أن ما تعلمته هو العلم..وأن ما سطر أمثالك هو الحقيقة..فسألته عن العلم والحقيقة فابتسم وهز رأسه، وقال: لستَ مستعدا..تذكر الخضر فقط وستعلم..
كان لابد أن أصحب الخضر..كان لابد أن أسأله عن العلم..
في كتاب الله عز وجل خبره..وفيه علمه..ولكن كيف لي بالصحبة ؟.لقد استطعت مؤخرا أن أنجز الشطر الأول من الرحلة..فكان السندباد أول فتى صادفته. ولكنه كان فتى مغرورا نزقا، سريع الغضب، سريع التأثر، سريع التصديق..وحادثه عن السر فادعى أنه يعلم موطنه، وإنه في مقدوره إذا وقف عليه أن يفك حرفه..وقال أنها مجرد تعويذة في إمكانها تحويل البشر إلى ملائكة..خرافة..خرافة..لو كان التحول ممكنا لكان قد حدث منذ أمد بعيد، ولما شقي الأنبياء والرسل في تبليغ أقوامهم..لما قامت الحروب الحاصدة، وانتشرت الأوبئة الفاتكة. قلت له: هذا محال! إن السر الذي أحدثك عنه تعويذة نعم،ولكنها من نوع خاص. إنها قانون كيماوي يفتح في الإنسان باب الفهم..الفهم الذي يعلمه الحياة من جديد..الفهم الذي يرفعه إلى مرتبة التكريم والتشريف..الفهم الذي يمسح عنه قرون السخافة التي شيدها وأسماها حضارة. ولكن الشقي قال لي: الرحالة هي المفتاح للوصول إلى الحل. قلت نعم! الرحلة ولكن في أي اتجاه ؟ أفقيا: شرقا أم غربا، شمالا أم جنوبا ؟أم عموديا: علوا وسفلا ؟ الرحلة يا بني أن تبحر أولا في أعماق الذات ..ذلك البحر الغامض الذي أسماه القدماء ببحر الظلمات..ذلك البحر الذي لا يعرف له ساحل ولا شاطئ، إنه يمتد بقدر ما يغور عميقا.إنه البحر الذي تهب فيه عواصف الشك، ورياح اليقين، وتقصف فيه رعود الحيرة، وتبرق فيه بروق الأمل..إنه مدى للضياع والفقد، كما أنه ضحضاح الأمن والسكينة. إن سفنك التي خبرت الهوجاء، لا تلبث فيه سويعة..ستكون كالقشة التي تلهو بها الريح قبل أن تعصف بها بعيدا في مدى النسيان والفقد. والربان المدرب الذي أوكلت إليه قيادة ركبك، سيكون في عجزه وحيرته مثل الصبي الذي لا يفرق بين يمناه ويسراه..هذه هي الرحلة يا بني ! وهذه أتعابها!
ولكن الشقي أصر واستكبر وقال لي: هذا حديث تصوف أيها الشيخ، وليس لي من الوقت ما أصرفه في الاستماع إليك..إنك تريدني أن أكون مثل بعض الهنود يجلس نهاره وليله في سكون وجمود لا يحرك ساكنا، يغوص في أعماقه دهرا ، ثم يعود فارغ اليدين، خاوي البطن، عاري الجسد، وقد كر الزمان، وفاتت فرصه، وأعقب خلفه من الحسرة ما يسوّد الوجه، ويقتل الإحساس..قلت له: هؤلاء أخطأوا الطريق ! لم يكن مراد معلمهم أن يكونوا كما وصفت..إن الابتعاد عن الحق يدفع بأصحابه إلى التطرف دائما..ولا تكون البدعة إلا من هذا القبيل، لأنها تريد أن تتفرد، أن تختلف، أن تخرج إلى الناس بما لم يألفوا..البدعة شقاوة يا بني..
ابتسم في وجهي وهو ينشر شراع السفينة في وجه الريح، ثم قال: لم لا ترافقني في رحلتي، قد أجد لك من الوقت ما أستمتع فيه بأحاديثك الغريبة ؟ قد تجد مريدا آخر أفضل مني تلقنه علمك ؟
فكرت مليا ساعتها، ثم لم أتمالك نفسي من القفز على ظهر السفينة، فكانت أول رحلة لي في عالم الماء والموج والضياع. لقد سجلت في كتابي عن السندباد كل دقائقها، ولم أهمل مما رأيت شيئا.فقد كنت كالعين الزجاجية التي تلتقط المناظر والصور التي تعرض لها بأمانة وصدق. كتبت عن الأرض والسماء، عن الناس والحيوان..سجلت الأحاديث التي دارت بيني وبين الأقوام المختلفة..وأطرف ما صادفته فيها شخصيات مثلي جاءت من أعماق التاريخ في رحلات مشابهة تجوب الزمن بحثا عن السر..كم كانت فرحتي كبيرة حين تعرفت عليهم بأسمائهم وأزمنتهم ، وعرفوني هم باسمي وزماني..كانت أسئلتهم كثيرة عن الغد..غدهم، أي حاضري، ولم يتركوا إلا فرصا قليلة للسؤال عن أمسي. ولما عدت قرأت كتابي على الدرويش..كان يصمت طويلا، ثم ينظر إلي ساخرا. ولما أنهيت القراءة قال: ما هذا أنت صحافي ممتاز..وليس لهذا الغرض دعوتك للرحلة ؟ أمح ما كتبت..واكتب الهجرة..لقد عدت لهؤلاء بقصة من القصص التي يستملحونها، سيقرؤونها ويعجبون بوصفك الدقيق، ولكن سيقولون في أنفسهم أنها مجرد خرافة ! سيذهب جهدك سدى..أعد الكتابة..أنفض عن الكلمات خمولها، واكنس اللغة من أوحالها..طهرها من النفاق و المجاملة..دعها تقول حقيقتها عارية من غير بلاغة..إن البلاغة تزييف. ألا تراها تخضر وتزهر في الخصومة والجدل؟ ألا تراها مولعة بالباطل تجعله حقا، ومستهترة بالحق تجعله باطلا ؟.قلت في حيرة: وماذا أبقيت لي ؟ أنا أديب فقط..ليس لي إلا البلاغة سبيلا أركبها لبلوغ أذواق الناس..هز رأسه وقال: هذا هو المرض العضال. أنت لا تسعى إلا إرضاء لذوق، ولست تسعى طلبا لعلم. وشتان بين مبتغاك وبين المهمة التي خرجت وراءها..لو وطنت العزم على جني العلم، لتركت الأذواق وشأنها، وخاطبت القلوب وفككت أقفالها. أعد ما كتبت..أعده متجردا تجد حلاوة ما وجد ذاك الأعرابي الذي قال لمعشوقته صادقا بعدما استشعر حضورها في ذاته:
خطرات ذكرك تستثير مودتي فأحس لها في الفؤاد دبيا
لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوبا
وعلى الرغم من ذلك فإنه لم يبلغ المراد، لأن البلاغة دست في لسانه حرف التشبيه، فأفسد عليه التحول الفعلي إلى قلب نابض حي..)كأن( هي الحاجز..هي الفاصل..هي السد..لقد كاد أن يصل لولاها..أكتب فأنت السندباد الجديد..لا تكتب عن السندباد فقد تولى الأمر غيرك منذ دهر بعيد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،