التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من قتل الناقد؟ لماذا تحارب الحداثة النقد/الحكم؟ بقلم : حبيب مونسي




[لماذا أقصي النقد من ساحة الأدب؟
ماذا رأت الحداثة في النقد الكلاسيكي حتى تستبعده؟
لماذا التحول من النقد إلى القراءة؟
هل لما نقرأ في تاريخ النقد الغربي من سياقات في تاريخ النقد العربي؟

إذا كان الأمر مختلفا فهل يجوز تبني الرؤية الكلاسيكية أو الرؤية الحداثية؟
النقد/ الحرية والإبداع:
إنّ المقابلة بين النقد والحرّية، يثير عند الملتقى كثيراً من الرؤى المتعارضة، والتي يقف فيها كلّ طرف على النقيض من الطّرف الآخر، لأنّ النقد يثير-استناداً إلى حيثياته التّقعيدية- الشعور بالقيد، والقهر، والرقابة، والتسلّط، بينما يظل لفظ الحرية لفظا تنساب فيه الأمور دون شرط. وربما كان هذا الإيحاء بسيطا سطحياً من حيث تشكيلاته المعرفية، ولكنّه في غوره يحمل ثنائية الحجر والانطلاق، التي أقامت المدارس الفنية عندها شروط الاقتدار الفني والتجربة الخالدة. إلا أنّ اللّجوء إلى بنية هذه الثنائية لا يقدم للدّارس كثيراً من العون، ما دام النقد والحرية لا يفهمان - في إطار من الإبداع الأدبي والفني- داخل نسقهما، بل يحالان على الاجتماعي، والسياسي لكشف المتحكّمات الخفيّة التي تعمل - عن كثب - على توجيهها وشحن الدلالة فيهما. مما يعطى -هذه المرّة- للسياسي والاجتماعي هيمنة تدبّ في كلّ إنجاز نقدي يسعى عبر "الذّوق السّائد" و"القيم النّفعية" في إطار منظومة فكرية تتّسم بالوحدة والانسجام.
النقد والاستقرار:
لقد أدرك المفكرون القدامى أنّ الهيمنة على العقول وتوجيهها وقيادتها، إنّما يمرّ عبر الهيمنة على الكلمة والتّحكم فيها، وإخراجها مخارج المناسبة والاقتضاء. وقد جعل "أرسطو" -من قبل- سرّ البلاغة في:»القدرة على إيجاد اللغة التي يقتضيها الموقف ويتلاءم وإياها« (1) . وكأنّه يشير من طرف خفي، إلى أنّ العبارة لا تكتسب حدّتها العاطفية وإلاّ إذا شحنها الموقف بملابسات قد تمتدّ طولا وعرضاً في التاريخ والمجتمع، فيأتي الموقف مثقلا بخلفيات، لا تكون العبارة المستعملة إلاّ تمظهراً قد لا يتسع لها كلّها، بل تشعّ العبارة إشاعات ينفتح لها الدال على المحتمل والمتعدّد.
لقد أسس "الكاردينال رشيليو" "Richelieu " الأكاديمية (1630-1635) وهو يعلم يقينا أنّ النظام المطلق يبدأ بالسيطرة على الكلمة، حتى يتسنى له التحكم من ورائها في العقل المبدع. ومن ثم غدا التعريف الحق للكلاسيكية - في ذلك العهد - يترجم بخضوع الفرد في المجتمع، وبخضوع الكلمة في الجملة، وخضوع الجملة في الصفحة، وبخضوع هذه الأخيرة للأثر كلّه. ولم يكن الإبداع إلاّ تمثيلا صارماً للطبقية الاجتماعية(2). تحتل فيه العناصر مكانة جاهزة من قبل، ولا يحق لها تخطّيها بأية حال من الأحوال. وكل محاولة للتمرّد تترجم سريعا بالعصيان والثورة. وقد فُهمت هذه الحالة المستقرة الحذرة، التي لا يؤثر فيها جريان الزمن وتعاقبه بـ "الانسجام" "Harmonie". انسجام المبدع مع وسطه، الانسجام المتوازي بين عظمة الملكية " Royauté" الانسجام بين الفكرة والتعبير عنها. وقد وصف " سانت بيف" "Sainte Beuve" هذه الكلاسيكية بالأدب السعيد ذي الصحة الجيدّة(3).
ولم يكن النقد في هذه الآداب سوى الحارس الذي يردّ الشّاة القاصية إلى القطيع، والذي يكيل المدح لكلّ عمل يجد فيه المجتمع صورته واضحة القسمات بيّنة الحدود. يتعرف على مشكّلاته من خلال العبارة، واللغة، والقيم، والحقيقة، والأنواع. ولم يكن نشاط النّقد سوى ذلك الجرد للأنواع، والمحافظة على المجموعات الأدبية، التي تأخذ عند أصحابها قيمة الميراث الوطني في حالة جيدة سليمة. لقد اجتهد النقد على إبقاء المجتمع واستمراره على هيئته نحو المستقبل، دون أن تناله رياح التغييّر، بواسطة ضبط المعايير، وعدم السّماح بالخروج عنها.
لقد عمل النقد القديم على تمديد الحاضر إلى فسحة المستقبل، حتى يحتلّ المجتمع مكانه فيه، وقد سلمت بنياته من كلّ تغيير ومستجدّ. وكلّما تشدّد النقد في صرامة معاييره وشحذ همّتها، كلّما كشف عن هيمنة خارجية، لا ترى فيه آية إبداع، بل حارسا أمينا ينافح دونها دواعي التحول والاندثار، وصمام أمان للمجتمع من التّفسخ والانحلال.
وأضحت مهمته: » الحيلولة دون كلّ المحاولات الثورية الماضية والحاضرة، وإفراغ شحناتها المتفجّرة، وعزلها بعيدا « (4). ومادامت السّلط المهيمنة تدرك جيدا، أنّ بذور الثورة تجد في الآثار الإبداعية تربة خصبة، تساعدها على التّفتح والانتشار. فإنّها تجند النقد ليقوم وسيطا بين الآثار والقراء، يمهدّ السّبيل، ويزيل العثرات، وينبّه على خطورة الأفكار، ويكشف زيفها وتهافتها، ويدّلل على أخرى أكثر جدارة بالمواطن الحق. حتى باتت مهمّته: »صبّ المتميّز في العادي«(5).وهو تمييع قصدي للفكرة الجليلة، ونزع ما فيها من جدّة وثورية، قبل تقديمها فارغة جوفاء، لا ترتفع بعيدا عن مستوى، الحديث العادّي اليومي.
لم يكن النقد القديم مستهينا بالجدّة التي تسكن الآثار الإبداعية، ولم يكن معطّل الإحساس تجاهها، إنّما كان يخشى زوال النظام، وانقطاع أسباب الانسجام، وانتشار دواعي الفوضى والاضطراب. لم يكن يجد بين يديه سوى صورة واحدة للمجتمع استقرت طبقاتها في نسق واحد متدّرج، ينظم العلاقات والمصالح، فإذا زالت أسباب تماسكه، تهاوى الكلّ وعمّت الفوضى وانتشر الخراب ... ولم تقدّم الآثار سوى "الثورة" و"التّمرد" في غياب انسجام بديل يحفظ للمجتمع استقراره من جديد.لذلك وقف النقد - على ثغره - حارسا يقظا، فطنا، لا يسامح ولا يجامل، يحذر من الغموض الذي يستدعي التأويل وسيتحثّه.
لقد رفض النقد القديم اعتبار الأدب "رسالة" "Message"وجعله فنا و"نجاحا جماليا" يقوم على وضوح الشكل ووضوح الفكرة، حيث يتم التوّهج الجمالي. ذلك لأنّه يعتقد جازما أنّ الأدب الحق إنّما يقوم على مبدأين أثنين: أولهما أنّ الدلالة الحقّة للأثر تقع في المستوى الواضح من العبارة، وثانيهما، أنّ الأثر الأدبي يوافق دائما ما يريد الكاتب قوله. ذلك لأنّ الفعل الإبداعي فعل واعي قصدي: واع من حيث كونه عملا مهندسا يقوم على إرادة حرّة في مجالها. وقصدي باعتباره خطابا أحاديا واضحا. وإذا تحقّق للنقد هذا الزّعم أمكنه لاحقا نفي كلّ محاولات التأويل وتجاوز البنية الدالة إلى فضاء الاحتمال في المدلول. لأنّ: »الرّغبة في البحث أبعد من ذلك وأعمق، أمر لا فائدة وراءه، بل هو خطر، لأنّه كما يقول " بيكار" "R.PICARD" ينتهي إلى نفي الأدب«(6) بيد أنّ الأدب - حتى وإن كان واعيا قصديا فهو كالكلام العادّي يتشكّل من فترات صمت، ربما تكون دلالتها أشدّ بيانا من المنطوق، وأكثر إيغالا في مطالب النّفس إزاء المواقف المختلفة. لقد أدرك "سارتر" "J.P. SARTRE" أنّ غنى الحياة النّفسية في جانبها الصّامت.(7) ذلك الجانب الذي يختزن اللاّواعي والوعي في آن، والذي يرضى بالصمت تعبيرا، قد يدركه المتلقي وقد يفوته. وهو شأن الأدب عموما يراوح به بين الكلمة والكلمة، والجملة والجملة، وقد يجعله حاجزا شفافا بين الأثر والتّلقي، حتى تكتسب اللغة إشراقا خاصا يتخلّل كلّ كتابة.
هوامش:
1.
أرسطو: فن الشعر 155 ب س 54. أورده محمد غنيمي هلال. الموقف الأدبي. ص: 111.
2. Voir André Lagarde, Laurent Michard. XVIIer siècle. P: 13. Bordas, Paris 1985.
3. Voir. Ibid. p: 13.
4. Serge. DOUBROVSKY: Pourquoi la nouvelle critique? p: 12. Denoël / Gonthier.1966.
5. Voir Ibid. p: 12.
6. Serge DOUBROVSKY. Ibid p: 58.
7. J.P Sartre.: Qu’est ce que la littérature? P: 200. galimmard 1948.

التعليقات
مجذوب العيد
 الحبيب مونسي الأنيق موضوعك هذا يأخذ بيد المبدع إلى برّ النجاة ويقترح البدائل ويدلّل بشدة على ما ترى ... ألف شكر سيدي ...
إلا أن ّ إبداء الرأي فيه واجب لمن يعارك اللغة والفكرة والرؤية ويتعرّض إلى صراعات نصية شديدة ..
إن الموضوع يفرض لغته دوما بل ويقدمها شئنا أم أبينا في طبقها رائقة لدى كل مبدع ماهر ... وإن الرؤيا اليوم والابتكار قد يقتضي منك استخدامات غير مألوفة فكيف يمكن وصف حالة نفسية مبهمة أو وصف الزمن والمكان وأثرهما على وجود روحي مثلا مجرّد عن الأشياء المفهومة وما هي اللغة التي تتحمّل ذلك وهذا يذكرني بشعر التصوف المغتال قديما من قبل الفقهاء نظرا لمحاولته شرح حالات مبهمة ... ألا ترى معي أن العالم تشكّل بما يفوق اللغة العربية كمعان ٍ ورؤى وتقنيات ، كزخم فكري متجيش جدا في كل ّ مكان !؟
إن ّ النّص هو رسم ومقاربة لما يحيط بك ولما يتشكّل فيك معا من معان وفكر ومشاعر ومفاهيم وإديولوجيات ومن أسئلة وشك ..!
أخي مونسي المبدع يبحث عن الوصول إلى ما يريد يشكل إبداعي ّ ٍ أقصد اللغة وهو يجتهد في ذلك فكيف يفعل عندما يكون أمام رؤى ومفاهيم فلسفية أو صوفية مثلا وهو يحاول تذليلهما أدبيا أم أن الفلسفة وّأذواق التصوف ليسوا من الشعر ؟ ومن يجرؤ على قول ذلك ؟ ألا ترى معي أن الشعر تحديدا غدا أوسع مما كان قديما في الخوض في كل ّ عتبات المشاعر بكل ألوانها من ذات أسس فكرية أو فلسفية أو صوفية إلى أنثى من لحم ودم . هذان هما قطبا الشعر عندي وأدناهما الأنثى لأن موضوعها قديم جدا وأعلاهما الكون ( الخارجي والداخلي فيك ) وبين ظفرين الله ... الكائنات العليا .
سيدي مونسي الشّعر ابتكار على مستوى الصياغة ووصف و رؤى على مستوى الموضوع وما الغموض والانزياح إلا شفرتي حلاقة لكل ما يعيق سلاسة المعنى من نظم أو مباشرة مملة .. وكل حديثي هذا إنما هو متطلب عصري ّ وما تحدثت عن ما سبقنا من الأمم ... .عذرا أيها الكريم عن كل معنى غير لائق .
حبيب مونسي
 أخي المجدوب.. أولا شكرا على تواصلك المستمر مع الورقات .. إن الطرح الذي تطرح جميل وعميق وإني أثمن كل حرف فيه..وأنت تعلم أنني حينما أفتح موضوعا لا أفتحه إلا لأن هناك من حاورني أو طرح علي سؤالا أو أن القضية أثيرت في مناقشة رسالة ماجستير أو دكتوراه.. لأننا غالبا في المناقشات لن نتمكن من عرض الفكرة بهدوء.. حبنما نقول لهم أن النقد الغربي قتل الناقد لأسباب خارجة عن الأدب والفن، وأن الحداثة حينما أسكتت هذا الصت إنما أرادت أن تسكت نظاما بأكمله لا يناسبها في رؤيتها للعالم الجديد وأن قتل الإله وقتل الأب وقتل المؤلف وسيقتل القارئ قريبا .. لا تفعل الحداثة هذا الأمر لأنها عابثة وأنها تجدد في المقامات وحسب وإنما الأمر أخطر من ذلك .. هناك نظام جديد لا يريد رأيا يستند إلى قيمة.. لا يريد مرجعا قارا ثابتا.. لايريد سلطة.. إنما يريد تعددا في كل شيء وانفتاحا في كل شيء.. إنه الهيئة الوحيدة التي تمكنه من الاستمرار إذ لا وجهة له.. سواء أكان سيره خطيا أم دورانيا أو حلزونيا.. أو ماشئت من الأشكال ..المهم أن يتحرك ويستهلك.. القانون الأسمى اليوم هو الاستهلاك فقط.. على هيئة ما قاله الجاهليون من قبل أرحام تدفع وأرض تبلع..
دم بخير 
مجذوب العيد
  سيكون سؤالي مغايرا يا مونسي ... هل ارتقى النقد إلى الحداثة ليجهز على الخبيث منها ويثبّت الطيب بالحجة والشاهد اللغوي ؟؟ هل تأسس نقد عربي بعيد عن البنيوية والسيمائية وما إلى ذلمك من مدارس غربية يجابه ويرشد الحداثة الإبداع الحقيقي ؟؟ 
بوفاتح سبقاق
 مقال في الصميم مشكور
.  حبيب مونسي
 مرورك أخي بوفاتح بطربني.. شكرا على الوقفة والتقييم.. عطلة سعيدة 
فاطمه
 
مقال رائع مشكور استاذ ومزيدا من النجاحات في سبيل الابداع المميز
حبيب مونسي
شكرا فاطمة على مروك الكريم.. على كلمات التشجيع .. أحمد الله أن كلماتي تروق لكم.. وتثنون عليها .. فله الحمد والشكر.. 
 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،