التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التأويل أوالمعنى... أيهما أولا..؟ بقلم : حبيب مونسي



يكثر الحديث في السرد عن النص التحتي.. ما هو؟ هل هو نص حقيقي أن أنه نص إفتراضي؟ ما قيمته؟ ما درجة حضوره في النص الظاهر؟ هل فهمنا دوره؟ هل يكتبه الراوي؟ أم أنه يكتب نفسه؟ أم أنه يتخلق حين الكتابة كائنا تحتيا يعيش في ظل النص الظاهر؟
وحين ندركه هل ندرك أن المعنى ينشأ منه وعنه؟ ثم أخيرا هل النأويل أولا والمعنى ثانيا أم العكس؟؟
التأويل والمعنى... أيهما أولا..؟
إن المعنى كما يُفهم اليوم ليس معطى حرفياً يحمله النص، وإنّما صورة تُشكّل أثناء التقاء النص بالقارئ، فلا تكون بالضرورة شيئاً يحمله النّص، بل يشارك في بنائه فقط، ومن هنا غدا التأويل عملية "حفر" في البناء القائم لهدمه وبلوغ النّص التّحتي الذي تشكّله الفراغات وتملأ آفاقه. والفراغ الذي كان يرتطم به الناقد القديم وينزعج منه. أضحى بنية نموذجية في التأويل الحديث لأنّه ديناميكية. تضاف إلى النص، فتساعده على خلق شيء آخر غيره، أو ما يمكن تسميته اليوم بنّص القارئ. إلاّ أنّ هذا الأخير لا يمكن التّسليم به باعتباره معطى قارا، بل لا بد من الاحتراز إزاءه، لأنّه سرعان ما يتحوّل إلى نّص آخر، إذا غيّرت الذات القارئة نمط القراءة ونسقها، ووضعيتها، وزمنها. لأنّ الشرح والتفسير إنّما هما تحجيم لمعنى قائم في النّص من خلال حرفيته، أمّا بناء المعنى -بحسب ما يقتضيه فعل المشاركة- فهو خلق، قد يلامس النّص، ويتوافق معه، وقد يشتطّ بعيداً عنه ما دام كلّ مكتوب ليس مقصوداً لذاته. إذ باستطاعة النّص أن يعرض صورة عادية جداً لمظهر من مظاهر الحياة، ولا يحمل أدنى إشارة نقدية لجذورها المفضية إليها، ولا إلى المنظومات التي ساعدت على خلقها، ويكون النص سرداً وصفياً لا غير بريئاً من تهمة الإثارة أو التحريض، ولكن بمجرد حفر بناه تتكشف الثورة، والنقد، والاتهامات، وتتشابك الوضعيات، فإذا النّص يضجّ بالحرارة بعدما كان هادئاً وبالنقد بعدما كان مسالماً.
فإذا قرأنا -على سبيل المثال- نص "برنارد لالان"(.) "لابد من كسب العيش" والذي يصف فيه "دونيز" التي بدأت حياتها العملية سنة 1975 في وسط يعشش فيه الرّوتين: لقد ساقها نظام الدراسة إلى الباكالوريا قسراً ففشلت مرتين وكرّرت ثلاثة أقسام، ثم جاء التكوين، ثمّ الشغل... أدركنا حقيقة ما وراء النص، أو ما أسماه "إيزر" بالنّص التّحتي...
"أفعل هذا سائر الوقت... ليست لي رغبة في الصعود... هكذا يروق لي... لماذا؟ صمت... إنّه عمل بسيط لا نحتاج كثيراً للتفكير، ولهذا السبب عندما أكون وحيدة أشَغِّل المذياع، ولا أفكر أبداً.. الحادية عشر ليلاً... تضغط "دونيز" على زر وتوقف صخب المُنوعات، وتنام من دون أحلام، ستعود في الساعة السابعة صباحاً إلى ثقب بطاقات الضمان العائلي.. في حدود الشهر المقبل تبلغ "دونيز" الثانية والعشرين من عمرها... ماهية 1600 فرنك الشهرية تسدّد لها الغرفة، والطعام، والباقي يذهب لبرامج التوفير من أجل السكن... خجولة... منطوية، تطل حديقتها السريّة على صحراء.. تعلن وكأنها تعترف: لم أقرأ شيئاً منذ أربعة سنين.. لا شيء يهمني.. لم ألتق بأحد.. نعم هذا محزن.. لكن قليلاً، لا.. لا أشعر بالضجر..."
يبدو النّص على بساطته، لا يثير شيئاً ذا بال. اللَّهم إلاّ وصف حالة عادية، من بين جملة من الحالات، ربّما تكون أكثر تعقيداً وإشكالية، وذلك ما يحمله النّص في مستواه الخطي القار. وكلّ شرح، أو تفسير، لن يضيف إليه جديداً، بل سيعريّ.. بساطته، ويجعله لا يرقى إلى أسباب الفن ومعاييره، ما دامت هناك نصوص تتناول ظاهرة الروتين بعمق أكثر، ولكن الملفت حقاً في الفعل التأويلي -كما تسعى القراءة إرساءه- لا يبحث عن المعنى في النّص، بل يتوخاه في الموقع الافتراضي الذي يرسم نقطة تقاطع النص والقارئ، ويتولد فيها كذلك النص الجديد.
إن نصّ "برنارد لالان":
- لا يتّهم المنظومة التعليمية.
- لا يناقش نظام الشغل والتشغيل.
- لا ينتقد طبيعة المجتمع الذي تحيا فيه دونيز.
- لا يلتفت إلى الأسرة وأدوارها.
- لا يتأسف لحالة شخصية.
- لا يرثي لوضعية اجتماعية.
- لا يتهم أحداً.
- لا يحرض على ثورة.(.)
إن جملة هذه الملاحظات تفرض علينا الاعتقاد بأن المعنى، لا بد وأن يكون خارج النّص فيما أسماه النقد الحديث "باللاّمقول"، الذي يفرض علينا اعتبار النّص الجديد علامة دالة إما سلباً أو إيجاباً، يتحاماها التأويل لسد فراغهما، وإنشاء النص الجديد على أنقاضها. عندها سندرك أن نصّ "برنارد لالان" يتهم المنظومة التعليمية: من خلال الحالة التي آلت إليها دونيز، ومن عزوفها على القراءة كلّ هذه المدّة، ويتهم نظام الشغل الذي سلبها فاعلية التفكير، وأحالها إلى آلة خالية من كل حياة، ويفضح نظام العزوبة، وكأن العمل بالنسبة "لدونيز" هو توفير مسكن لأيامها الأخيرة خوفاً من أن يرمى بها في الشارع... إنّه يتهم نظام الحياة كما هو سائد في المجتمع الفرنسي، وتلاشي الأسرة، وانعزال الناس في شقق يأوون إليها ليلاً، لا تعمرها إلا الوحدة، ولا يسكنها إلاّ الوهم، والضجر.. حتى الضجر لم يعد له طعمه الذي كان.. فقد أضحى شيئاً مألوفاً.. لازمة من لوازم الغرفة.. وأخيراً إنّ النصّ يتّهم كل الناس: الساسة، المفكرون، المربون ويحرّض كل الناس على الثورة...
التعليقات
محمد الصغير داسه
 الأستاذ الباحث والمفكر الدكتور حبيب مونسي بحث بحق قيم راصد لحقائق مهمة لايستغني عنها الناقد ولا القارئ وهذا ماينير درب الطلبة والآساتذ فالكثير يخلط بين المعنى والتـاويل أيهما يتقدم ؟ ثم ان الدراسة توغلت في سراديب النص وأدغاله وهذا ايضا مهم ومهم الى ابعد الحدود لذلك سيدي فانك اضأت الطريق بقناديل فكرية هامة وقدمت شيئا مفيدا فلا تبخل عنا بهذه البحوث الشيقة ....لك منا كل التحية وكل التقدير....شكرا......م.ص. داسه 
مجذوب العيد
 أخي مونسي الحبيب الموضوع جدير بالخوض فيه بما نفهم . إن اللفظة قاموسيا لها معانيها القريبة وقد أتوا بتلك المعاني من سياقات لغوية نطقت بها العرب وعادة ما تكون قريبة من جذر واحد
مشترك بينها ، واللفظة تؤدي معناها المطلوب في عشها الذي اتخذته في شجرة الجملة في غابة النّصّ ، هذه هي العملية في المألوف ..
إلا أن ّ سحب معنى اللفظة القاموسي بقرائن إلى غابة أخرى إلى شجرة أخرى هو ما يقتضي التّأويل عادة وهو ما يماثل اصطلاحا فقط المتشابه من حيث بنيته لا من حيث معاني القرآن المتشابهة ..
إن عتبة الانزياحات عالية جدا ولا تنجح إلا عند من يملك اللغة بالسليقة ويدرك حمولاتها التاريخية والدينية على الخصوص .. أنظر إلى قوله تعالى ( إذا لامستم ُ النّساء .... ) وإلى قوله تعالى ( يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ...) مثل هذا كثير يحتاج إلى فهم اللغة ويحتاج إلى تأويل وتخريج من ضليع في اللغة وعارف بمقاصد اللألفاظ والمعاني .. إن العملية الإبداعية يجب أن تكون عركًا لغويّا ممتازا بفصاحة عجيبة .. ثمّ التّأويل الذي يهمل القرينة أراه سخيفا وغبيا جدا. تقول الشيعة في قوله تعالى ( إن ّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) إنها عائشة !! ... هذا من قبل الجهل المطبق والبعيد عن التأويل كل البعد بل أراه ضلالات لا أصل لها في مدلول النّص لأنه لا قرينة توجب ما فهموه لا من قريب ولا من بعيد
وقد تجد من يتحدث عن الرّّيح في سياق على أنها البشرى والنسيم العليل فهو يجهل القرآن ... إن لفظة الرّيح لا تأتي إلا في سلسلة ( الغضب ، التدمير ، القلق ... إلخ ) كما أن لفظة الماء ليست إلا من معاني الحياة والجنة والخير وهذا غالب ، بل من معاني الخلق أيضا وهكذا .... ومن هنا تجد اليوم من ينطق بما لا يفهم من دلالات بعيدة ويظن ّ ألا أحد يفهم ما يعنيه وخاصة هؤلاء الذين ركبوا الحداثة وهم يجهلون طاقات اللغة الحقيقية لتجدهم يضربون يمينا وشمالا بلا هدى فتأتي لغتهم عمياء عدمية لا انبعاث لها ولا وهج ..
أخي مونسي وجب بعث اللغة من جديد في ابتكارات جديدة وبفصاحة لا غبار عليها شريطة أن تؤدي المعنى وبقرائنه إن احتجنا إلى ذلك
لكن علينا أيضا أن نقتل الهلوسات ( تلك التي لا معنى لها ولا قرائن ) .
إن النّص الحي ّ له جذوره في النّفس والحياة .......... شكرا  

حبيب مونسي
 الأخ الفاضل محمد الصغير داسة.. سرني مرورك الطيب على مقالتي وراقني ما قرأت من أثر قلمك وإني لأتشجع حينما أسمع من أمثالك ذلك التحفيز على المضي قدما فيما خططت.. لقد أخذت على نفسي أن أتتبع بالتصحيح والتصويب كثيرا من المفاهيم التي راجت في الساخة النقدية وبدا لي أنها غير صالحة أو أن الفهم فيها قد أخذ منحى غير الذي أراده لها أهبها حين الوضع.. وإني لأفعل ذلك وأطمع أن يشاركني فضلاء من حملة الفكر والثقافة في هذا المشروع لنصحح وتجدد ونعين الجيل الجديد على اجتياز هذه العتبة الخطيرة من تاريخ الأدب الجزائري خاصة والأدب العربي عامة.. شكرا لك..ومتعنا الله بحضورك النير.. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،