حينما شرعت في كتابة مدخل لكتابي "فلسفة المكان في الشعر العربي" والذي أردت له ابتداء أن يكون مقاربة للمكان من وجهة عربية صرفة، بعيدا عن التنظيرات الغربية للمكان، إيمانا مني بأن المكان العربي مختلف عن المكان الغربي،
. كانت العبارة التالية التي اقتطفتها من بعض المصادر، تقص هذا الخبر: "رأى أعرابيا ابنا له يختط بيتا على الأرض بعصاه، فاقترب منه وقال له: أي بني إنه قميصك إن شئت ضيقت، وإن شئت وسعت..." فكانت العبارة بمثابة الشمعة التي تضاء في العتمة، والنور الذي يدفع بالظلمة بعيدا عن ساحة الفكر والتأمل. كما كانت العبارة ناقوس خطر شديد الصوت حاد النبرة، تتردد أصداؤه في أعماق الذات. إنها أعمق إشارة لتسلط المكان على الإنسان، لأنه سيتخذ صفة القميص الذي يلازم الجسد، فإن كان فيه سعة استراح الجسد، وهانت حركته، وإذا كان فيه حرج تململ الجسد في ضيقه، وأعيقت انطلاقته.
تلك هي الملاحظة الأولية التي تنبجس من مقولة الأعرابي، غير أنها تمتد بعيدا في عمق التأمل حينما تتحول السعة وما يصحبها من انبساط وتفيؤ إلى أريحية واتساع في الطباع والأخلاق. وكأن اتساع المجال يتيح للنفس امتدادا تكتسب فيه خلالها الحميدة، فلا تكون مجبرة على قلق أو إرباك أو تململ، وإنما تكتسب من السعة انفراجها واستواءها. كذلك الضيق يملي عليها من حيث تدرك أولا تدرك، طباعا تتجاوب والحرج الذي يسببه في الحركة وضيق المجال. فيملي على الذات من طباعه أخلاقا وسلوكا، فيها كثير من العنت والمشقة، تتحسسها الذات في نفسها قبل غيرها، وما تستنبته من أخلاق يتصل بسوء العشرة، والبخل، وفساد التواصل.
ربما لم نفهم بشكل صحيح تلك القصص التي رويت لنا عن أخلاق العربي، التي قال عنها الرسول الكريم r:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فالمكارم كانت موجودة مألوفة محبوبة لدى العامة من الناس، وكان التحلي بها من الفضائل التي تُحسب لصاحبها فيُمتدح بها. غير أننا لم نفهم صلتها بالمكان والرحلة. فأرض العربي واسعة ممتدة في جميع الاتجاهات، لا تحدها الجبال الشاهقة، ولا يقطع خط أفقها عارض يكسر امتداد البصر فيها. إنه الفضاء المفتوح الذي لا يزاحمه فيه أحد من الناس، يتمدد فيه على الهيئة التي يحب أو يرد. بل لم يتخذ العربي من المساكن ما يثبته في المكان، ويقهره على البقاء في دائرة يحدها البصر، تتلون بين يديه شتاء وصيفا، خريفا وربيعا.. بل يغادر المكان إلى حيث يتجدد الكلأ باستمرار، فينعتق من أسره، وينفلت من قيده، ويختار لنفسه هذا الموقع أو ذاك، فإذا شعر بالملل ارتحل من جديد.. فيفتح أمام ناظره آفاقا أخرى تضيف إلى منظوره أبعادا ما كان للموقع الأول أن يخرجها له من خلال تضاريسه وألوانه.
إننا نفهم الرحلة الآن باعتبارها انعتاقا من المكان، وتحررا من تسلطته وقهره.. وقد يجد البعض في هذه النعوت تشددا على المكان وربما سوء فهم.. ذلك كان شعوري عندما قلبت هذه الكلمات بين يدي أول الأمر، غير أنها تأكدت حينما ربطت الماضي بالحاضر، ونظرت في المكان الذي استوطنه الإنسان عبر التاريخ، وكيف كان للمكان المائي قرب الأنهار من مفعول على عادات وأخلاق من قطنوه، فكان النهر مصدر الخير ومصدر الشر في آن واحد، يوقع بفيضاناته يوميات الناس على أطرافه، فلا تكاد تجد سلوكا أو طبعا إلا وله صلة بالماء، هادئا أو عكرا، سلسا أو ثائرا. ولا تكاد تجد خيالا إلا وللنهر بما رفد من أعشاب، أو حيوان، خلفية يلون بها المخاوف والآمال، ويطبع بها الأحلام والكوابيس. وكيف كان للمكان الجبلي من إملاءات القوة والغلظة على ساكنيه، وكيف نسج خرافاتهم وأخيلتهم وأقاصيصهم، وكيف كانت صور الوحوش والأغوال التي تعمر مخيالهم وأساطيرهم، وكيف لعبت عتمات الضباب المهيمن على السفوح والهضاب في غموض الرؤية ونشأة المخاوف الدفينة في النفوس، وكيف أجبر الثلج في ليلي الشتاء الطويلة أسرا وقرى على العزلة التامة أمام مواقد لا تكاد تخمد جذواتها إلا لتؤجج من جديد، تُروى على أطرافها قصص لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد لقهر العزلة.
لقد كان العالم سعيدا بأمكنته تلك، وكانت الشعوب لا تطمع في استبدالها بغيرها حتى وإن شنت حروبا على بعضها بعض في حدود أمكنتها المتشابهة جبلية كانت أم صحراوية.. غير أن الإنسان أحدث في نهاية الحرب العالمية الثانية شيئا بغيضا كان له الأثر السيئ عليه.. لقد أحل الإنسان لنفسه لأول مرة في التاريخ أن يقصف المدن، وأن يهدمها على رؤوس أهلها، وأن يشردهم في كل مكان. ولقد شهد العالم ما فعلته مقنبلات التحالف في المدن الألمانية، وما صنعته مدافع الألمان في المدن الأوروبية.. وانتهت الحرب بخراب واسع، ودمار شامل. فكان على الإنسان الغربي أن يفكر في إيجاد مأوى لتلك الجموع التي فقدت دورها ومنازلها، ومحيت مدنها وقراها من على وجه الأرض.. كان على العقل الغربي أن يفكر بسرعة لتجاوز المحنة ولو بصفة مؤقتة.
إن الواقع بعد الحرب يقدم له جموعا من البشر، فقيرة، أو معدمة فقدت كل ما تملك، تنتظر سقفا يأويها، وفرصة لتبدأ حياتها من جديد. فكانت الفكرة العبقرية في إنشاء مجمعات سكنية سميت ب : H.L.M والتي نترجمها ب:"السكنات ذات الأجر المتواضع" لتكون في حدود ما تستطيعه الأسرة العاملة. وشيدت هذه المساكن في الضواحي وفق هندسة تقتصد في المكان، وتقتصد في الزمان، وتقتصد الكلفة.. وظهرت غابات من البنايات التي بدأت تتطاول في عنان السماء، طابقا على طابق، وشرفة تزاحم الأخرى، وسلكت بينها مسالك، وأحدثت فيها فضاءات خضراء للعب، وأخرى لمواقف السيارات.. وبدت بشكلها الهندسي الموحد، وألوانها المتدرجة آية في الإبداع والجمال.. أو هكذا رصدتها العين أول وهلة وهي تتجمع في هذه التلة، أو تتجاور في ذاك الامتداد.
ابتلعت هذه الشقق أعداد المشردين، وكانت لهم سكنا ومأوى، وأمنت لهم الملجأ الذي يعودون إليه مساء بعد ساعات الكد في طلب الرزق. وظن الذين أحدثوا الفكرة أنهم حلوا المشكلة حلا نهائيا، فاستمرت الحكومات في كافة الدول إلى اليوم تنشئ مثل هذه المجمعات في الضواحي، وتوالت عليها أجيال من آباء وأبناء صاروا بدورهم أرباب أسر جديدة ذات أطفال... ولم يكلف أصحاب الفكرة أنفسهم دراسة أثر المكان على هؤلاء في المدى القريب والبعيد. ولم يعيروا سلطة المكان أهمية، وإنما رأوا في قدرة الإنسان على التكيف مدعاة لتجاوز كافة العقبات التي يمكن أن تطرحها مثل هذه الإنجازات. وربما ردوا التحول في الأخلاق والطباع، وانطواء الإنسان على نفسه، وانغماسه في شذوذه، وظهور أمارات العنف في معاملاته.. إلى طبيعة العصر وما يحمله من قلق، وضجر، وعدم يقين. ولكنهم لم يلتفتوا البتة إلى المكان الذي أنشؤوه.. ولنا في هذه الورقة أن ننظر فيه عن كثب.إن الشقة التي تقطنها عائلة متوسطة متكونة من أب، وأم، وثلاثة أطفال، عادة ما تكون تحت نعت F3. أي : صالون صغير، وغرفتين، ومطبخ، وشرفة، يتوسطهما ممر. وتكون مساحة الكل في حدود 100متر مربع تزيد قليلا أو تقل. فإذا جئنا لنوزع هذا الفضاء على مكونات البيت فحسبنا ما تحتله الجدران، والممر، ودورة المياه، وخزانة المطبخ، وما يحتله الأثاث من مكان، كالأسرة، وطاولة الطعام، وأريكة الجلوس، وخزانة التلفاز، وأشياء أخرى.. خصمنا من المساحة الكلية ما يقارب ثلثها، فلم يبق بين أيدينا سوى 30 متر مربع فضاء حيويا ل05 أنفس فيكون نصيب الواحد منهم 06 أمتار مربعة.. أي: فضاء حيوي لا يبتعد كثيرا عن فضاء زنزانة السجين. هذا الفضاء الذي سيتحرك فيه الأطفال وينشرون فيه لعبهم وأشياءهم الخاصة، وسيحتكون ببعضهم احتكاكا قويا يولد كثيرا من التوتر الذي ينقلب إلى شجار، تتدخل فيه الأم أو الأب بما يزيد الوضع سوء، وما يولد من إحن وأضغان بينهم.
إننا في العالم العربي نستعير كل شيء .. ومما استعرناه "أحياء الضواحي" بمقاساتها تلك دون أن نستعير الجودة في الإنجاز، ودون أن نضيف إلى عدد أفراد الأسرة عنصرا أو عنصرين، فيضيق المجال الحيوي أكثر فأكثر. فإذا حدث احتكاك بين الأطفال لفظت الأسرة أبناءها إلى الخارج ليلعبوا في الفضاء المخصص لركن السيارات، والمارة، والباعة وو.. وهو فضاء لو جئنا نقسمه على الأنفس القاطنة في التجمع السكني لما اتسع فضاء الفرد الواحد إلى أكثر من متر مربع واحد.. وما سيحدث في هذا المجال من احتكاك وشجار سيرتد سريعا إلى الأسرة ليرتفع الصراع من مستوى الأطفال إلى مستوى الكبار دفاعا عن أبنائهم وصدا لاتهامات جيرانهم..
إنها البؤرة التي تتولد فيها كافة الشرور.. سيتحول المكان الذي عتمت أجواءه حالة القلق الدائم، والخوف المخيم، وعدم الشعور بالأمن، إلى مصنع للغضب والعنف، سريع ما ينفجر آتونه إذا هو صادف الجذوة التي تذكي ناره.. لقد حولنا المكان على الرغم من انفتاحه الظاهري إلى "سجن" ثم إلى مصنع للجريمة، تدار بين جنباته تجارة المخذرات، والدعارة، وانتهاك الحرمات، والاعتداءات. وتكتلت فيه العصابات التي يُنشئها الصبية -أول الأمر- طلبا لدفء التناصر والتآزر إلى جماعات تفرض حضورها على القانون نفسه. فتحتل الممرات، وتسيطر على المداخل، ويتحول بها ومعها الفضاء الذي أنشئ من قبل لإيواء المشردين إلى مصنع لإنتاج الجريمة المنظمة..
التعليقات
الطيب بوترعة
السلام عليكم أستاذنا الفاضل
أتمنى أن تكون بصحة وعافية وأن يمدك الله تعالى ببركة في العمر وسعة في الوقت حتى تضيف إلى مكتبتنا الأدبية مزيدا من الجهد الذي نلمسه نابضا بالصدق والاخلاص رغبة في الافادة
نعم إنه المكان بحق لقد أخرجته من عتمة الفلسفة التي بنية عليها مقاربات المناهج النقدية الغربية إلى نور الفهم البسيط الذي يجعل من المكان سيدا له حضوره في حياة الانسان
لقد أعجبني ماقاله ابراهيم الكوني عن الصحراء كونها ببساطتها تلامس الأبدية لذلك هي أبسط مظهر للحياة فل غرابة أن يخرج منها الأنبياء
نعم إنه المكان بحق لقد أخرجته من عتمة الفلسفة التي بنية عليها مقاربات المناهج النقدية الغربية إلى نور الفهم البسيط الذي يجعل من المكان سيدا له حضوره في حياة الانسان
لقد أعجبني ماقاله ابراهيم الكوني عن الصحراء كونها ببساطتها تلامس الأبدية لذلك هي أبسط مظهر للحياة فل غرابة أن يخرج منها الأنبياء
وها أنت بمقالك سيدي الكريم تضيف معنى آخر هو دور الفسحة المكانية في رقي الانسان واتساع عقله وقلبه ومن ثمة فكره وعقله
فلاغرابة أيضا أن يصدر الأنبياء من وسع الصحراء ليقودوا البشرية إلى سعة رحمة الله
أشكرك ثانية أستاذي الفاضل فقد تتلمذت على يديك من خلال كتبك ،تحياتي الخالصة ودمت رائعا كما عهدناك
أشكرك ثانية أستاذي الفاضل فقد تتلمذت على يديك من خلال كتبك ،تحياتي الخالصة ودمت رائعا كما عهدناك
مجذوب ابن العيد
موضوع ركيزة في صميم تحولات العربيّ ذاك الذي كان يرى ما بلغت عيناه من ممتلكاته !!! روعة والله
تعليقات
إرسال تعليق