التخطي إلى المحتوى الرئيسي

السارد ونص السرد بقلم : حبيب مونسي



 https://pbs.twimg.com/profile_images/1699900628/okumak.jpg

الرواية هذا العالم العجيب...

كيف يتم بناؤه؟

ما الدور الذي يقوم به السارد؟


هل مزاعم الكتاب حقيقية فيما يدعون؟

هل الرواية تتطور أثناء الكتابة؟

أم أن التطور المزعوم علامة على خلل في البناء والهندسة الأولية.. وأن النص يكتب حسب المزاج؟

تجنح الدراسات النقدية الحديثة في مجال السرديات -والتي يتزعمها كل من "تودوروف" و"جينيت" و"بوث" وغيرهم- إلى الحديث عن شخصية جديدة يدرجونها في النشاط السردي، يطلقون عليها اسم "المؤلف الضمني" "L’auteur implicite" على اعتبار:« كونه بعدا معنويا، أو فكريا، أو فيزيقيا، أو زمنيا. الأمر الذي يدفع بالمؤلف الحقيقي بعيدا عن ساحة السرد، لأنه يعلم حقيقة ما ستنتهي إليه أحداث الرواية. مما يحتم على السرديات إعادة تحديد دور السارد داخل العمل السردي من جديد لقيامه شرطا أساسيا في العملية السردية.» ( ) وكأن السرديات الحديثة قد فطنت لطبيعة القصة في كونها جوهرا بعيدا عن متناول السرد في كل محاولاته الاستقصائية. فإذا كان زعم السرديات في أن المؤلف الحقيقي يعلم منتهى الأحداث كلِّها، فإن السارد الذي يتولى إنشاء نص السرد، لا يستطيع في سرده تمكين الإحاطة من بلوغ نص القص بلوغا تاما. ومن ثم يكون السارد الضمني ذلك الشبح الذي يروي لنا قصته انطلاقا من زاوية خاصة، يعمل الموقف الإبداعي على تحديدها. كما تعمل متحكمات أخرى، تتصل بالثقافة، والاتجاه، والقصد، على تلوين خلفيات السرد وتوجيه رؤيتهفإذا كان الجدل المثار حول وجود السارد الضمني أو عدمه لا يتصل به أساسا، وإنما يتصل بحقيقة القصة كما يراد لها إخراجا وتبليغا. فهذه الصورة لا تتضح لنا في الفعل البشري وضوحا يزيل كل لبس، لأننا قد نتوهم وجود نص القص المثال، ولكنه يتعذر علينا لمس آثاره، فإنه في القص القرآني جلي، حين نتبين قدرة الله U في الإحاطة بالموضوع والمضمون، ونوقن أن ما قدمه لنا السرد القرآني ليس إلا زاوية تتصل بالقصد الذي من أجله سيق نص السرد. فلا يخامرنا شك في الإحاطة، ولا في الاجتزاء بالمقطع. حتى وإن رفضنا معه شبح السارد الضمني الذي قدمته السرديات الحديثةإن وجوده قد يستقيم في الروايات الأدبية، فيتحد شخصه بشخص المؤلف اتحادا قد ينفي ادعاء النقاد ويبطل اقتراحهم. بيد أنه يكشف لنا أن المهمة الملقاة على عاتق السارد، لن تتطاول إلى بلوغ نص القص الأكمل. فقد يكتب الروائي نصه مرارا، وفي أزمنة مختلفة، إلا أنه سيظل رهن الزاوية التي يحددها عند الإنشاء، ورهن الاتجاه الذي يكرِّس له فعل السرد أخيرا. وينفتح أمام المتلقي أفق الاحتمالات التي تجعله يوازن بين الممكنات التي إن تغير فيها عامل فقد يحول اتجاه السرد إلى أبعاد أخرى لم تطلها يد السارد في صنيعه.

قد يغرينا هذا التمثيل على اعتبار نصوص السرد نصوصا غير متناهية العدد، لأننا نلمح في الإمكانات التي يقدمها نص القص، اتساعا يمكِّن السارد من استثمار المادة التي يقدها له القص، في الدوران حول نصه دورانا مستمرا، يركز في كل دورة على جانب من الجوانب التي يحددها القصد والأثر. وينجرّ عن التعدد النصي تعدد في وظائف السارد ذاته. ذلك أننا لن نتحدث عن وظائفه في الفعل الإنشائي، وإنما في الفعل القرائي. فإن كانت الوظائف الأولى بيِّنة واضحة قد تولتها الفحوص النقدية المختلفة، فإن الوظائف الثانية قلما ينتبه إليها الدرس النقدي. لأنها مما يتصل بالقراءة والقارئ أساسا. وكأن الحوار الذي يجريه السارد مع القارئ الضمني الذي يفترضه في صلب نصه، يحتم عليه ضربا من التوجيه لفعل القراءة. بل وكأن كل نص من نصوص السرد يسعى إلى تحقيق لون خاص من القراءة، يستجيب ومراميه بحسب الهندسة التي بني علي هديها.وحتى نتبين هذه الوظائف جيدا نحاول تلخيصها في النقاط التالية:

1-السارد يتحكّم:

إنها السمة الأولى التي لابد لنا من تلمُّسها في فعل السرد، فنجد فيه سمة التحكم في العرض والتوزيع. والسارد في هذه الخطوة قريب الشبه بالرسام الذي يحيط بموضوع اللوحة قبل التأدية الفنية. فتكون اللوحة ببياضها مجالا قد ارتسمت عليه في حدقة الفنان، تفاصيل الصورة التي يريد تحقيقها، ولا تكون عمليات التلوين إلا إبراز للتفاصيل في أثوابها اللونية الخاصة. ذلك أن توزيع اللون والظلال ليس بالعمل الطارئ على الإنجاز الفني، بل هو من صميم العملية الإبداعية ذاتها. ومن ثم لا يكون اللون محض تزيين للموضوع، بل اللون هو الموضوع في هيئته الدلالية التي يستجيب لها في موقعه المحدد من مجال اللوحة. إذ لا يجوز لنا أن نتصور الموضوع فراغا يأتي اللون لملئه أخيرا، شأن الفعل الذي يأتيه الأطفال في تلوين كراسات الرسم. بل الموضوع هو ذلك اللون الذي يأخذ تدرجاته من الموقع، والعلاقات التي تربطه بغيره من العناصر المجاورة والمتباعدة.

فإذا قلنا أن السارد يتحكّم، فمعناه أن نص السرد قد أخذ حظا من التروي في خلد السارد، وتشكّل في حدود الفسحة المخصصة له، واكتسب من زاوية العرض القصدَ الذي يريد بلوغه. فالتحكُّم مرهون بالسيطرة الكلية على الإخراج والتوزيع، وقياس حركة النص سرعة وإبطاء. ذلك التحكم الذي ينقلب في فعل القراءة إلى دليل يقود القارئ عبر ممكنات السرد إلى الغاية التي من أجلها يقوم الصنيع الفني. فكلما كان التحكم متينا، مطمئنا إلى الهندسة التي تنجز الأثر الفني، كانت القراءة أكثر متانة في تتبع العناصر واستحسان توزيعها وتلوينها الدلالي. لأن الأثر المحكم أثر يوحي بالصدق، وتمام التجربة، ونضج الأثر. ولأن الأثر المهلهل أثر قلق، كثير العورات، يتسرب قلقه إلى القراءة فيضطرب فيها الانسجام الذي يفترض في السرد عادة. مادام السرد هو الشدُّ المحكم للأشياء لغة. وكل هلهلة تفصح عن تخوُّن في التدبير والتوزيع واضطراب الزاوية.

2-السارد ينسِّق:

ربما يكون مثال اللوحة قد أوحى إلى القارئ بأن نص السرد أديم مستو واحد على الهيئة التي يقدمها أديم اللوحة في فن الرسم. غير أن المتفرس في اللوحة ذاتها، يكتشف أن لها عمقا في تباعد عناصرها في بعدها الثالث. ومن ثم فالعناصر لا تتوزع خطيا فقط، وإنما يتم توزيعها بحسب المنظور على أبعاد مختلفة. لذلك نجد من وظائف السارد وظيفة التنسيق التي تنصرف إلى تلمس سمك النص السردي. ومعنى السمك، ذلك الامتداد الذي يذهب بالقصة إلى الماضي، أو يرتمي بها إلى المستقبل. فيكون من واجب السارد تذكير القارئ بها، وتنسيق أحداثها في نسق من التوالي الذي يستجيب للسببية في الحدث علّةً ونتيجة.

إن مهمة التنسيق مهمة بالغة الخطوة في الصنيع الروائي، لأنها تعمل على خلق الامتداد التاريخي للقصة، وتمكِّن الاحتمالية من الاستتباب في ذهن القارئفكل عمل تمتد ظلاله بعيدا في عمق الماضي، يوحي بالتجذُّر التي يعطي للعناصر قيمتها الدلالية في الأحداث والعواطف المرتبطة بها. لذلك يكون على السارد أن يتخير مواطن التذكير، لتجد مكانتها الطبيعية في السرد، من غير أن يشعر القارئ بإقحام ما.

لقد عدّد الدرس النقدي كثيرا من الوسائل التي يعتمدها التنسيق شأن السوابق "Prolepses" واللواحق "Analepses" التي تنصرف الأولى منها إلى التبشير بحدث آت، تشير إليه إشارة سريعة، تمهيدا لوقوعه على نحو معين. وكأنها في فعلها ذاك تشكِّل "سبْقًا" "Anticipation" يشيع في السرد ضربا من الترقب القلق للآتي المحتمل. بينما تكون الثانية عكس الأولى، تستحضر في حاضر السرد حدثا سابقا، وكأنها تتراجع إلى العلة التي أنشأت الحدث الحاضر، فتعمل فيه عمل التذكير"Rétrospection" كإسداء معلومات عن ماضي عنصر من عناصر السرد، شخصيات كان أو مشاعر. أو سدِّ ثغرة تحدث في النص السردي.

3-السارد يبلِّغ:

ولا يقتصر فعل السرد في العرض والتنسيق فقط، بل يتجه عادة إلى وظيفة أخرى ذات شأن في الرسالة الإبداعية. ما دام التبليغ مقصد التواصل بين السارد والقارئ. وليس القصة المروية في واقع الأمر سوى حامل يركبه التبليغ لأداء مهمته. ومن ثم يرتبط التبليغ بالخطاب الذي يُناط بالسرد أساسا. فيكون أخلاقيا، أو أيديولوجيا، أو فلسفيا.. أو غيره من المقاصد المختلفة. بل يمكن أخيرا أن نضيف كافة الوظائف التي عدّدها "ياكوبسون" في نظرية التواصل الشهيرة. لأنها تؤدي عنا ما نريده من التحكم، والتنسيق، والتبليغ. فهي موجهة إلى القارئ شخصا، وإلى القراءة أداء. ( )

التعليقات

محمد جلول معروف

 الأستاد الدكتور ..الناقدالمحترم..حبيب ونسي..

سعدت كثيرا وأنا أٌقرأ ما يتناوله نقاد السرد من مصطلحات جديدة ،ورواد هدا النمط ..

وبودي أن أكرر القراءة حتى أتمعن فيالتفاصيل أكثر..

بحث متخصص قيم ومفيد ..

كل التقدير.. 

 ف الزهراء بولعراس

 شكرا دكتور لإطلالتك العميقة والمفيدة

أتمنى أن تضع عينك البصيرة على نصوصنا هنا

بارك الله فيك أستاذ

احترامي الكبير 

 حبيب مونسي

 شكرا محمد على القراءة.. أنا ممتن لحضورك الجميل في ورقتي.. أرجو النفع والإفادة.. 


حبيب مونسي

 سيدتي الفاضلة.. أحييك خجلا من إشارتك .. كنت أخشى دوما من أن أنصب نفسي ناقدا موجها.. لما أراه من تمرد هذا الجيل.. فأقرأ بصمت.. استحسن وأستهجن ولكن لا أحمل القلم لأجعل أحاسيسي أوراقا نقدية... أما وقد طلبت مني أن أفعل ذلك فسـأفعل.. وعلي تبعات ما سيجنيه علي التعرض إلى كتابات أصوات الشمال... طبعا لن أغطيها كلها ولكنني سأبدأ بمن أراهم يحسنون الاستعماع إلى الرأي الآخر.. ثم أقرا في ردودهم ما يجعلني أواصل أو أحجم.. لأنني لا أرى صدور كثير منهم ستتسع لإشارات النقد...

شكرا سيدتي.. سأترك التنظير المحايد لألبس عباءة الناقد على قلة الزاد وتعثر الخبرة.. وقصور التجربة .. وعزائي الوحيد أنني سأجتهد.. 


الحــــاج طيب

 شكرا جزيلا على هذه الكلمات الطيبات و على هاته الافكار الفريدة....... ادامك الله للادب 


محمد الصغير داسه





 المحترمالكريم الناقد الدكتور حبيب مونسي..تحية طيبة وسلاما يليق بمقامكم الكريم..سعدنا ونحن نقرا هذه الدراسة القيمة وهي بحق فضاء متميز للقارئ والمبدع والناقد ..اذ مثل هذه الدراسات تمد الكاتب بأدوات النقد وتجعله أمام نصوصهيعيد قراءتهاعلى ضوء النظريات .. يكتشف وينتقد ويصوب ويعدل...حقيقة أنك كعادتك تجيد وتفيد ولذلك فنحن ممتنون لك وسعدا بجهدك الواعد ان شاء الله وبمشروعك القرائي ....خالص التقدير والاحترام والتوفيق....م.ص.داسه 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،