التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تقنيات الكتابة الإبداعية عند ابن قتيبة. بقلم : حبيب مونسي



تقديمإن طبيعة الكتاب تجعل مهمة البحث فيه منحصرة في مقدمته المقتضبة، والتي حاول "ابن قتيبة" أن يسجل فيها منظوره الخاص لقضية الكتابة. وعليه كان التعرض لإشكاليتاتها مرصوصا على بعضه في شكل وصايا يتوجب على الدارس الفصل بينها إن أراد أن يفرق بين أخلاق الكتابة،
وتقنياتها المختلفة. غير أن هذه الأخيرة لم تكن من أهداف المؤلف، ولا من مقاصده المباشرة فلم يوسّع فيها القول، واكتفى بالإشارة السريعة ليفتح كتبه في المعرفة، وتقويم اليد واللسان.
غير أننا لا نعدم إشارات ذكية فيما يتصل بالكتابة، وأن "ابن قتيبة" يريد من وراء ذلك دفع سلوك بدأ ينتشر في عصره، وأخذ أبعادا واسعة، وصار الناس يتشدّقون به. وقد وجدنا عين التحذير عند "بشر ابن المعتمر" في قوله: » وإياك والتوعر.. فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. «(1).
1-التوعر:
لقد سلمنا أن الفكر العربي قام على الوضوح والبيان والتبيين، وأن سبل الكلام إنما مُهّدت خدمة لهذه الغاية. وكل شيء يعترض سيرها الحسن، ويعيق عطاءها الوافر، فهو مردود منبوذ. ومن هنا كان الالتفات إلى التوعر باستعمال الألفاظ الغريبة الشاذة، أو المهجورة. و"ابن قتيبة" يُدخل هذا المطلب في باب "المستحب" وكأن رفض الغريب رفضا تاما، إنما هو من قبيل قتل جزء من العربية، يتصل بماضيها، وبقرآنها، وحديثها. بل المطلوب هو الاقتصاد في الاستعمال. وتلك التفاتة كريمة من رجل سعى إلى الوضوح، وفي ذات الوقت يرفض أن نقضي على جزء من العربية بحجة عدم الفهم، وملاءمة الذائقة. وهو يستعمل مصطلحا "فقهيا": "يستحب" . والمستحب من باب السنة المؤكدة الذي لا يُؤثم تاركها، فهو يقول: »ويُستحب له أن يدع في كلامه التقعير والتقعيب.. فهذا وأشباهه كان يُستثقل والأدب غض، والزمان زمان، وأهله يتحلون فيه بالفصاحة، ويتنافسون في العلم، ويروونه تلو المقدار في درك ما يطلبون، وبلوغ ما يُؤملون . فكيف اليوم مع انقلاب الحال؟ وقد قال رسول الله r : إن أبغضكم إليّ الثرثارون، المتفيقهون، المتشدقون. «(2)
فالتقعر والتقعيب منبوذان مردودان. أما استعمال الغريب كما جاء في القرآن الكريم وكلام الرسول r فإنه لم يعد غريبا إذا ما جرى على الألسنة مجرى الحفظ والرواية. فالغريب في هذه الحلّة أجدّ من لفظ مولّد ولد في حينه.
2-السهولة والوضوح:
فإذا سلمت الألفاظ من التقعر فلا بد أن يسلم المعنى من التعقيد والغموض. وما مطلب السهولة في الألفاظ إلاّ لينتهي الوضوح إلى المعنى ويشيع فيه، حتى يأخذ التبليغ قسطه من الفاعلية : »ونستحب له – إن استطاع- أن يعدل بكلامه عن الجهة التي تلزمه مستثقل الإعراب، ليسلم من اللحن، وقباحة التقعير. «(3). وهي طرائق من شأنها أن تعطي للأساليب ليونة كبيرة في الاستعمال، فلا يجد المنشئ نفسه مقصورا على استعمال واحد ، بل أمامه من المخارج ما يتيح له تجنب التقعير والتقعيب. وما العدول الذي يتحدث عنه "ابن قتيبة" إلاّ من قبيل التقريب بين المسند والمسند إليه، بين المبتدأ والخبر ، والفعل وفاعله، والشرط وجوابه.. حتى لا يتيه القارئ جريا وراء خبر زحزح مسافة أسطر عن مبتدئه. وذلك تطويل في الجمل من شأنه أن يثقلها و يعقد المعنى تعقيدا مشينا.
3- مراعاة أقدار المتلقين:
سعت فكرة "المقام" و"الحال" إلى خلق تقليد، يجعل كل كاتب لا يرفع قلما، ولا يخط سطرا، إلاّ وفي خلده شبح المتلقي فردا كان أو جماعة. وقد عملت فكرة المقام على خلق ما يشبه الطبقات في الفنون الأخرى. فالطبقة تفرض لون حديثها على المتكلم، ولون مصطلحاتها. وعلى هذا القدر يكون من واجب المتأدب أن لا يتناسى هذا الشرط، بل يدرب نفسه على الانصياع له . و"ابن قتيبة" يقول: »ونستحب له أن يُنزل ألفاظه في كتبه، فيجعلها على قدر الكاتب والمكتوب إليه. ولا يعطي خسيس الناس رفيع الكلام، ولا رفيع الناس خسيس الكلام. فإني رأيت الكتاب قد تركوا تفقد هذا من أنفسهم وخلّطوا فيه. فليس يفرقُون بين من يُكتب إليه "فرأيَك في كذا" وبين من يُكتب إليه "فإن رأيت كذا" "ورأيَك"..« (4)
حتى وإن آنسنا من حديث "ابن قتيبة" أنه يتوجه إلى إيجاد نوع من اللغات الخاصة، حتى يكون لكل طبقة لغتها التي يحسن التوجه إليها بها، فإننا في المثل المضروب نجد ذلك التمايز بين اللغات، ونحن لا نقصد لسانا آخر! وإنما كيفية خاصة في التعامل مع اللغة بناء وتركيبا. وهي إشارة تكون أدخل في "أدبيات الطبقة" ما دام:» "ورأيَك" يُكتب بها إلى الأكفاء المتساوين، ولا يجوز أن يُكتب بها إلى الرؤساء و الأستاذين، لأن فيها معنى الأمر ولذلك نصبت. «(5)
إن مسألة الجمهور المتلقي ، تعالج من وجهة الطبقة ، أي من منظور جملة من السلوكات يتأدب بها إزاء هذه الطبقة دون غيرها.وهي عنوان الاعتراف بفضل المتقدم ، والسيد، والأمير. إذ لا يجوز أن تكون مخاطبتهم بنفس اللهجة واللسان الذي يتوجه به إلى العامة من الناس.. غير أن " ابن قتيبة" يستعين في هذا المقام بكلام "أبرزويه" لكاتبه – وهو من عيون بلاغة الفرس- في تنزيل الكلام : »إنما الكلام أربعة: سؤالك الشيء، وسؤالك عن الشيء، وأمرك بالشيء، وخبرك عن الشيء.فهذه دعائم المقالات إن التمس لها خامس لم يوجد! وإن نقص منها رابع لم تتم . فإذا طلبت فأسجح ( أحسن وأرفق وسهل) ، وإذا سألت فأوضح، وإذا أمرت فأحكم، وإذا أخبرت فحقق . وقال له أيضا أجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول. «(6) إن مبدأ الاستفادة عند السلف، مبدأ قائم منذ القدم. فهم لا يأنفون من الحق إن وجدوه عند غيرهم. وكذلك استشهد "ابن قتيبة" بقول الأعاجم: اليونان، وها هو يقتبس من قول الفرس ، من بليغهم "أبرزويه" إذ في كلامه ما يوافق المنطق السليم، والعقل الثاقب. فهو مقبول في جملته، ولكنه مردود في خاتمته. إذ لايكون الإيجاز مطلبا في كل حال، وإنما يرى "ابن قتيبة" أن المقام هو الذي يحدد مطلب الإيجاز والإطناب.أما أن يكون الإيجاز وحده بغية كل أديب و بليغ، فإن ذلك تفريط في حق المعنى والإفهام معا.
ثم يختم "ابن قتيبة" حديثه بعودة حثيثة إلى أخلاق الكتابة، إذ هي الضامن الوحيد لسلامة المكتوب، وموافقة اقتضاء الدين ، والعقل السليم. إذ تراه يقول : »هذا منتهى القول فيما نختاره للكاتب ، فمن تكاملت له هذه الأدوات ، وأمده الله U بآداب النفس من العفاف والحلم والصبر والتواضع للحق، وسكون الطائر، وخفض الجناح، فذلك المتناهي في الفضل، العالي في ذرى المجد، الحاوي قصب السبق، الفائز بخير الدارين إن شاء الله تعالى. «(7)
إن التركيز على الأخلاق الحميدة عند "ابن قتيبة" عامل فعال في فوز الناشئ واقتداره في هذا الفن ، لأن الأخلاق صمام الأمان الذي يعصم المؤلف من الزلل في مهاوي الكذب ، والخيانة، وتزوير الحقائق ، والسطو على أفكار الناس، والتدليس في الأخبار، و تقويل الناس ما لم يقولوه. فالخلق الكريم هو الذي يعصم صاحبه من الخوض في هذه البرك الآسنة من أعراض الناس، ودمائهم . إن مصدر الخشية و الخوف ،بليغٌ مفوهٌ ، لا يلقي بالا للدين ونواهيه، يستعمل بلاغته من أجل إشعال الفتن، وإذكاء نار الوقيعة بين الناس، وتشكيكهم في أمر دينهم من بعث ومعاد، وجنة ونار..
إن إلباس الألفاظ أوصاف الشرف والسماحة، والاعتدال والاتزان، وغيرها، إنما هو تفسير لأخلاق الكتابة في مقابل أخلاق النفس. ومن هنا فقط ندرك قيمة هذه الأوصاف وارتباطها بالأخلاق العامة ، وأخلاق المؤلف خاصة .. إن فعل الكتابة عند "ابن قتيبة" فعل أخلاقي في المقام الأول.
هوامش:
1-
شوقي ضيف.البلاغة تطور وتاريخ.ص:42.
2-ابن قتيبة.أدب الكاتب.ص:16.
3-م.س.ص:17.
4-
م.س.ص:18.
5-
م.س.ص:18.
6-
م.س.ص:19.
7-
م.س.ص:20.
التعليقات
معروف محمد آل جلول
 أ.د.حبيب مونسي المحترم..
كما عودتمونا ..نستفيد المنهجية ،وطريقة استقصاء المضامين من الدراسات ،الواضحة في نمطية استخلاص العناوين الفرعية ..وفوق ذلك .. إحياء التّراث العربي القديم للدّلالة على قدرته البالغة في ترشيد النفسية المبدعة المعاصرة.. وإذا بالأخلاق عند قدمائنا مصدر كلّ نجاح ..والأخلاق عندهم لا تخرج عن التّصوّر المذهبي للأمّة.. دون الانبهار فيما ورد عن النقد الغربي الحديث الذي لم يبتعد كثيرا عن أطروحات قدمائنا المفكرين . جزاكم الله خيرا على هذا البعث النّيّر..
بالغ تقديري..  
جميلة طلباوي
 الأستاذ الدكتور منسي حبيب
شكرا على هذا الموضوع القيم و نتشرّف كثيرا بتواجدك معنا في أصوات الشمال فما أحوجنا الى قلمك الناقد ليتعامل مع النصوص بكل موضوعية و على أسس و معايير النقد خدمة للابداع الأدبي.
دمت ذخرا لنا
مجذوب العيد المشراوي
 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبكاته ..سيدي الكريم هذا موضوع ذو شجون.. سأسألك أيها الأخ الكريم الآن ..
هل اللغة منفصلة عن الحياة أم هي دالتها اليومية ؟
وهل ترى العالم الآن كما كان في زمن ابن قتيبة من حيث تباعد الأمم وتبعاد تجاربها وإبداعاتها للظروف التي نعرفها جميعا ؟
حبيب مونسي
 محمد-جميلة- مجدوب العيدالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد
سرني مروركم الكريم على المقالة.. وإني لا أريد أن أرد على أسئلة المجدوب لأن ذلك سيحتاج إلى صفحات طوال غير أني سأذكر أخي أننا اليوم في مفترق طرق جربنا فيه عطاءات الأخر الفكرية وتصوره للعالم والأشياء، وأدرجنا مفاهيمه في منظوماتنا الفكرية فكان لنا منها ما يشبه بابل وحالها في كل ميدان حتى أن بعض المستنورين عنون بعض كتبه ببابل النقد مثلا للتعبير عن الاضطراب الذي وضعتنا في آتونه تلك المفاهيم والنظريات.. أمامنا اليوم أن نلتفت يمينا ويسارا لتغيير الاتجاه.. وقد فعلنا ولكن النتيجة ظلت على حالها.. أمامنا أن نستثمر الإمكانات الهاجعة في تراثنا برؤية جديدة نستقيها من حاجاتنا لنصنع منها رؤيتنا الخاصة.. لغة اليوم لم تتغير عن لغة الأمس إلا في مرادات التعبير.. ما تريده أنت من لغتك تسعفك اللغة فيه.. إنها مجرد وسيلة طيعة في يدك.. لكن الأمر الذي يجب أن لا يتغير هي القيم المتصلة بكل ذات.. هذا ما نسعى للعودة إليه
دمت شاعرنا.. 
مجذوب العيد المشراوي
  كانت أسئلتي من منطلق ( أريد أن أعرف)
وما زلت أنتظر فهمكم في ما سألت لأنه نابع من أسئلة كثيرة ؟
مع أسمى آيات التقدير أيها الأخ الكريم  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،