التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإرهاب في الرواية الجزائرية.مقاربة في الرؤية، والتوظيف، والآثار الجانبية. الجزء الثاني ..بقلم حبيب مونسي



6-الرواية، استهداف المثقف:


       كلما تصفحنا الرواية الجزائرية ، بدا لنا وكأن النص السردي لم يكتب للعربي، وإنما كتب لغيره من قراء الغرب الذي يريدون أن يعرفوا حقيقة الإرهاب. وأن اجتهاد الروائي إنما ينصب في خانة تحديد المسئول عن القتل والخراب..
فالمثقف الذي يقع ضحية الإرهاب العملي، يقع من جهة أخرى ضحية إرهاب "الرواية" التي تريده أن يعتقد اعتقادا أحادي الوجهة. ويتم ذلك من خلال:« وصف لحالة الرعب التي عاشها المثقف والصحفي، الذي كان مهددا في كل لحظة بالاغتيال من طرف الجماعات التي رفعت شعار قتل النخبة المفكرة في بلادنا. فكانت مثلا رواية "في الجبة لا أحد" "لزهرة الديك" وصفا لحالة الترويع والخوف التي يعشها الشخص المهدد. كما جاءت في رواية "وطن من زجاج" حكاية الصحفي الشاب المتحمس، والذي لم يستجب لتهديدات التكفيريين، فوضعوا حدا لحياته ببضع رصاصات خنقت حلمه إلى الأبد. كما تروي "ياسمينة صالح" تفاصيل مروعة للقتل الجماعي الذي تفنن فيه الإرهابيون في حق أبرياء عزل ذنبهم أنهم يعيشون في قرى فقيرة»([1]) وكأن مهمة الرواية الأولى والأخيرة هي وصف حالة الرعب، وتسمية المتسببين فيه.

         إن الناقدة الأدبية والصحفية الجزائرية، تتدرج هي الأخرى في شهادتها وفق هندسة محددة – فطنت لذلك التخطيط أم لم تفطن- تجعل التهديد بالقتل، وتنفيذه على يد "الجماعات".. وهي كلمة كثيرا ما تداولها الإعلام الجزائري والعربي، من غير أن يضاف إليها نعت يحددها، لأنها أصبحت واضحة الدلالة في أذهان القراء شرقا وغربا. على الرغم من أنها كلمة مبهمة يمكن أن تشير إلى أي جماعة كانت. بيد أن الكاتبة وهي تتحاشى تكرار الألفاظ في مقالتها تلجأ إلى مترادفات مخزنة في ذهنها، يمكن أن تستعيض بها عن لفظة "الجماعات" فحين تتحدث عن رواية "وطن من زجاج" تسميهم ب"التكفيريين" وهو نعت لا يترك مجالا للشاك في أن التعيين ينصب على "الإسلاميين" بحسب استعمال الروائي "رشيد بوجدرة" لأنه شاع عن هؤلاء أنهم يكفرون من يخالفهم الرأي، مادامت تهمة التكفير تجعل دم الضحايا دما حلالا مباحا على يد هؤلاء. ثم تنتهي الشهادة على نحو بيِّن يُسمي "الجماعات" و"التكفيريون" بأنهم هم "الإرهابيون".

         ولو عرجنا على الرواية العربية، فإننا نجد عين المنطق المتحكم في التحديد والتعيين، وكأن الآخر في الضفة الأخرى لا يرضى سوى هذا التصنيف، و أنه يتوجب على الناس قبوله بهذه الصفة لا بغيرها. إن هذا لعمري ضرب من تجاهل الحاسة النقدية لدى القارئ، وكأن همَّ الرواية أن تصب في روع قارئها "حقيقتها المعلبة الجديدة" دون أن تفسح له مجال التردد، أو الشك، أو السؤال.

يتساءل الناقد "زهير محمد كتبي" في  قراءة له لمسار الرواية السعودية قائلا:« ما الذي جرى في نص الرواية السعودية، حتى أصابها فقر في الولاء للدين، وفقر في القيم، وفقر في المبادئ، وفقر في الأخلاق، وفقر في المثل، وفقر في الفكر المجتمعي. لقد انهار الكثير من نظام الخصائص، والمرتكزات، والأدوات.. التي أرساها كتاب الرواية السعودية الكبار، تحت ضربات معاول كتابة بعض الروايات السعودية في المرحلة الحالية... يؤسفني أن أقول: أن نص هذه الروايات وغيرها اعتمد على.. "استبلاه الناس".. و"احتقار معارفهم وأخلاقهم وقيمهم".. مع.. "الاستخفاف بعقولهم".»([2]) إنها مرارة التقويم الذي ينتهي عند عتبة انتهاك وظيفة الأدب، وتحويل وظيفة الرواية عن وجهتها التي أرساها فن السرد عبر العصور. فالذي يتهم هو جهاز القضاء، والذي يبحث عن الكيفيات هو جهاز البوليس، وليس من واجب الرواية أن تقوم بهذا أو ذاك، لأنها إن فعلت فقد استبلهت عقول الناس واحتقرتهم أيما احتقار.

لقد سبق للنقد الجاد، الذي يبحث في وظيفة الأدب والفن، في المتعالي الذي لا يلوث لغته بدعاية ولا تشهير، والذي يسعى إلى أن يكون للأدب كلمته فيما يخص البشر من قضايا تتصل بالحياة والموت، أن نعت "الغموض" في الطرح ضربا من "الاستخفاف بعقل المتلقي". وأنه حدد منذ البدء كيفية تعامله مع القضايا الإنسانية على أنها قضايا فوق السياسي والاجتماعي، تتمتع بالإنساني في دورانها في فلك المطلق.

إن الناقد السعودي حينما يتأسف، يفعل ذلك نيابة عن كل ناقد رأى في الرواية الجديدة انتهاكا لخصائص لم يسطرها الإنسان خطا، وإنما سطرتها طبيعته سلوكا وعرفا. فلا يجوز المساس بها خطا كما تصنع الرواية الحديدة. خاصة تلك التي لم تكتب للعربي، وإنما كتبت لإرضاء الآخر بكيفية أو أخرى.

فإذا قرأنا تعليق الصحفي ل"عماد عبد الراضي" على رواية «وضاء» للأديبة السعودية "مها عبود باعشن" والتي يقول عنها بأنها الرواية التي نالت تقدير خادم الحرمين الشريفين. والذي يقول فيه أنها:« أجادت في سرد الواقع الإنساني والعلاقات الاجتماعية بين أبطال الرواية.. الرواية تدور أحداثها في نيويورك بأمريكا حيث الدكتور سيف وهو أحد أفراد المجتمع السعودي الذي درس الطب بأمريكا، وتزوج من "فيض العربية" المقيمة بنيويورك من أسرة عريقة، رغم أن أسرة سيف كانت تفضل عودته والزواج من بلده جدة، ولكنه فضل الزواج والإقامة بأمريكا من «فيض» وأنجبا طفلة جميلة سميت بوضاء وحملت الجنسية الأمريكية.» ([3]) ومنذ البدء، فإننا إزاء شخصيات من نوع جديد. شخصيات تحمل الانتماء العربي الإسلامي، إلا أنها تنتمي إلى أمريكا، وتندمج في تكوين اجتماعي جديد يبتعد كثيرا عن الانتماء القومي في الجزيرة. وكـأن ما سيدور من أحداث، وما سيُبَثُّ من مشاعر، لابد وأن تكون له صبغته الأمريكية التي تجد في مثل هذه الشريحة ما يبرر وجودها في عين الآخر على الأقل. وليس أدل على ذلك من تعارض ألفاظ في هذا التقديم كتحديد الفضاء المكاني للرواية، ومدينة الإقامة، والجنسية الأمريكية.. ثم الأسرة العريقة في الجزيرة.

إن ما يتبع من أحداث وإن تعددت أمكنتها، إلا أنها تضع المرأة السعودية المقيمة بالجزيرة وجها لوجه مع الأخرى القادمة من الغرب، فيكون الصراع الخفي والجلي الذي ينتهي بفوز المرأة الجديدة، بعد أن دارت الأحداث:« بين شد وجذب في بعض الأحيان.. بين فيض وابنتها من جهة، وبين أخت زوجها المطلقة من جهة أخرى. ولكن تنتصر فيض في النهاية بحكمتها وحسن تصرفها»([4]) ويظل المراد من "الحكمة وحسن التصرف" موقفا غامضا في الصراع المستمر بين أطراف الحريم. وتنتهي الرواية بموت الوالد في أفغنستان ليسجل الإرهاب حضوره في الرواية.

7-الرواية،شخصية الإرهابي:


            قد يكون من المتعسر جدا على الناقد الأدبي العثور على سيمات بارزة لشخصية الإرهابي في الرواية العربية عموما والجزائرية خصوصا. لأن النص الروائي يترك انطباعا سمجا في النفس حينما يصادف التسطيح في الطرح، والسذاجة في ربط العلل والأسباب، فينتهي الحديث سريعا إلى فئة من الشباب لم تجد في حياتها اليومية فرص عمل، أو مرح، أو انفلات، أو تدين... فترتمي سريعا في أحضان التطرف الإرهابي. وكأن الميكانيكية الفكرية التي تشد هؤلاء، تجعل من كافة الشباب العربي إمكانية هاجعة لمشروع إرهابي قابع في النفوس.. إنهم إرهابيون بالقوة لا ينقصهم سوى الفعل للانتقال إلى الضفة الأخرى.

            والمتصفح لتصريحات الغرب ينتهي هو الآخر إلى هذه النتيجة، وكأن الشباب العربي القادم من الضفة السمراء، أو الذي نشأ في الحواضر الغربية، مشروع إرهاب مرتقب، يجب النظر إليه من هذه الزاوية فقط، وليس هناك مجال للحديث عن إدماج أو تدجين، أو غيره من الخطط الاحتوائية التي يتبجح بها الغرب.

 إننا في الرواية نصادف واقعا واحدا أبدا: فقر، عوز، حرمان، جهل.. ثم إرهاب. :« وهي التيمة المكررة المتناولة في النص الروائي الجزائري بشخصنة الرواية وتقزيمها ضمن مفاهيم ضيقة جدا، هذا ما يجعل انتشارها صعب، وأحيانا مستحيل »([5]) فالمراد بالشخصنة في هذه الشهادة، ينصرف إلى إيجاد صورة نمطية للشخصية العربية من خلال السرد، تستجيب للمواصفات التي يرى في الغرب صورة الآخر ويحكم عليه من خلالها. ذلك أن المخيال العربي حينما يتوقف عند حدود النظرة التسطيحية يخون قضيته أولا قبل أن يسدي خدمة لغيره مجانا، وهو يخال نفسه ينتج أدبا.

            إننا في حاجة إلى أدب يكشف لنا عن تعقُّد الشخصية العربية، لا أن يتَّهمها.. أن يفتح فيها نوافذ رؤية بناءة تصحح من خلالها أسباب انكسارها وانهزامها، لا أن يكرِّس فيها الانهزام لأنها فقيرة ومحرومة، أو ليجعل الإرهاب فيها تركيبة كيماوية إذا ما جُمعت عناصرها في سياق محدد انفجرت في وجه صاحبها أولا.

            لقد اهتدى بعض الروائيين الجزائريين إلى خطر التنميط في بناء الشخصيات الروائية، وسارعوا إلى معالجته عن طريق عرض صور كاريكاتورية لشخصيات لها وجودها الحي في الواقع، ولها تأثيرها الفعال في مجريات الأحداث.. فلم يكن أمامهم سوى أساليب السخرية يعرضون بها المواقف أكثر من عرضهم الشخصيات. فهذا "سفيان زدادقة" يتناول في روايته "سادة المصير" بأسلوب ساخر مسار شخص فاشل في الدراسة، قرر أن يصبح رئيسا فينضم للإسلاميين. ولما تبدأ الأحداث الدموية يصبح أميرا وقاتلا.. وإذ يرسم الروائي هنا ملامح هذا الشخص الذي يمثل ألاف المنضوين تحت راية الأصولية، والذين تحولوا إلى ناطقين باسم الدين، رغم أنهم لا يعرفون حتى القراءة » ([6]) لأن الروائي يحاول أن يرسم "نموذجا" للشخصية، تتقلب وجهاته في كثير من الرؤوس والعقول التي تستخف بالمواقف، وترى فيها مناسبات للرياسة والثراء. غير أننا لانعدم وجود ذلك الخطاب الغريب الذي مافتئ يكرر التهم نفسها ، ويستعمل المصطلحات عينها، ولا يتورع من قصر الإرهاب على جهة دون أخرى.

            إن الآثار الجانبية الناتجة عن مثل هذا الاستعمال، تجعل النص الذي اهتدى صاحبه إلى رؤية في غاية الدقة، يقع مجددا في "الآني الصحفي" الذي يرسل الكلمات على عواهنها. فهو حين يلتفت إلى الجهة الأخرى، وبنفس السخرية يرسم كذلك "شخصية العلماني" البعيد عن هموم شعبه، والغارق في أحلامه وتصوراته عن المجتمع الحديث، دون أن يكون لديه أدنى معرفة بخصوصيات هذا الشعب. » ([7]) ولكن الرواية – في النهاية-تقدم مجتمعا ضائعا بين طائفتين: مغامرون يلبسون الرداء الإسلامي لتغطية مطامعهم وطموحاتهم، وعلمانيون غارقون في غربيتهم لا يعرفون شيئا عن مجتمعاتهم. إنها الحقيقة التي تسوَّق عبر الفعل السردي إلى الآخر، من غير أن تكشف عن طبيعة البنيان الاجتماعي الجزائري. فهل الآلاف المنضوية تحت لواء الأصولية ممن لا يحسنون القراءة والكتابة؟ هل هم ممن يحب ويعشق الرياسة والقيادة؟ وهل هم ممن ينصِّبون أنفسهم ناطقين باسم الدين؟.. إنها كلمات كبيرة ما كان على الرواية أن تتحمل وزرها، وأن تئن تحت ثقلها. وكم تكون الرواية خفيفة الظل رشيقة القوام إن هي تركتها لغيرها من المعارف التي يحق لها البحث فيها.

            لقد مكَّن غياب النقد الجاد وجود هذا اللون من التجاوز في اللفظ والاستعمال، وفتح الباب واسعا أمام تسهيلات نتجت عنها كثير من الادعاءات، إن هي روجعت اليوم كشفت عن احتفاء الغرب بالرواية التسعينية مادة خاما، لا فنا يمكن أن ينظر إليه نظرة جمالية وحسب.

إننا إن راجعنا الرواية التسعينية نقديا باعتبارها:« لم تقارب كظاهرة، في شموليتها، من حيث القوانين التي حكمتها أو تَبَنْيَنَت وفقها، على الرغم من الاهتمام الكبير الذي واكب صعودها، سواء في البلاد العربية أو في أوروبا، أوفي فرنسا بالخصوص، وعلى الرغم من التأويلات الأيديولوجية التي ألصقت ببعض النصوص، جاعلة ذلك الترحيب الغربي لا يبدو بريئا تماما.» ([8]) فإننا سنصل إلى حقيقة أخرى غير التي يروج لها في الأندية الأدبية. ذلك أن عين الآخر لا تقع في النصوص الروائية العربية على الجانب الفني الجمالي، ولا ترى فيها تجارب أدبية يمكن أن تضيف إلى التجريب الإنساني جديدا ينوع التصور البشري للحياة والقيم، ولكن عين الآخر اليوم تطل على المجتمعات من خلال هذه النصوص باعتبارها مذكرات يكتبها الشباب عن هموم لصيقة بالواقع المتجدد في بلدانهم والتي ليس للغرب عبر قنواته الرسمية من سلطة عليها. إنه في الرواية ذات النسج السيري، يطل مباشرة على شريحة من الشباب المثقف الذي لم يجد سوى السرد ليدس فيه أشجانه وهمومة، ويطرح في تلافيفه فكره وحيرته.

إننا لن نفهم حقيقة الاحتفاء والجوائز التي توزع هنا وهناك، والنصوص التي تترجم إلى أكثر من لغة.. إلا إذا نظرنا إلى الرواية التسعينية باعتبارها مشيرا إلى تحولات تسكن الواقع العربي، وتغوص عميقا في وجدانه. فتبدي ما يعتمل في صلبه من تململ وحيرة وطموح.. لأن هم الكتابة تجاوز اليوم مطلب المتعة والتعبير إلى ضرورة التنفيس والتحرير. وكأن فضاء الكتابة فضاء اعتراف المريض في عيادة المختص، يستقبل فيه الطبيب كل الكلمات على أنها رموز وإشارات تحتاج إلى تأويل وتفسير. إن إهمال النقد الأكاديمي الجاد لتلك الظاهرة، - إلى حد الآن على الأقل، وفي حدود علمنا طبعا- لم يخفف من غلوائه إلا الاهتمام الصحفي الذي واكب تلك الظاهرة، معرِّفا بمعظم النصوص الصادرة، وبكتابها، ولاسيما أولئك الكتاب الذين تزامنت تجاربهم الروائية الأولى مع مرحلة المأساة الوطنية، أو تلك التي دفعها الوضع المتردي إلى اللياذ بالكتابة درءا للجنون أو الانتحار» ([9]) وليس أمام النقد الصحفي المحدود بمساحة الأعمدة، وعدد الكلمات، إلا الإشارة والتلميح فقط. كما أنه ليس نقدا متخصصا يمتلك أدوات المعرفة التي تفتح أمامه أبواب الحقائق التي تتصل بسنن التحولات في المجتمعات العربية وغيرها.

8-الرواية،الانحراف ومسؤولية النقد:


إننا أمام معضلة جديدة بدأ فيها "الإهمال" من تخلي الأدب عن وظيفته، إلى تجاوز الرواية لحدودها الفنية، إلى غياب النقد واختفاء مسؤولية الناقد. لقد أصبحت الجبهات عورة، مفتوحة أمام كل التجاوزات. فإذا فقد الأدب وظيفته فليس من الحق أن نطالبه بأن يكون أدبا مسؤولا، وإذا تعرت الرواية من خصائصها الفنية والجمالية فليس من حق أحد أن يطالبها بأن تلتزم حدا من الحدود إذا هي اخترمته. وإذا اختفى النقد فقد هانت الرقابة، وتلاشى ذلك الشبح المَخُوف الذي ظل يؤرق المبدعين طوال العصور.

فإذا نحن أرهفنا السمع إلى مبدعينا أمكننا أن نسمع في أصواتهم نبرة التبرم من الانفلات المتكرر على كل الجبهات. فهذا "واسيني الأعرج" في حوار معه يقول:« كثيرا ما نرى مواهب تبرز ولكن سرعان ما يأكلها الداءان المعروفان: داء النسيان وداء الغرور. عندما أقرأ ما يكتب اليوم، وأنا متابع للحركة الروائية الجزائرية والعربية، أشعر بالحزن لأننا نملك طاقة متميزة، خميرة حقيقية، تسمح لنا بالعبور بالنص الروائي الجزائري إلى دوائر أوسع، لكن ينقصنا الإصرار والمثابرة والتواضع الأدبي. النص لا يصنعه الخطاب كيفما كان، ولكن يصنعه الجهد الروائي المجتهد باستمرار. الكثير من شبابنا يريدون اختصار المسافات والوصول بسرعة، وهو أمر مشروع، ولكن أي جهد لا يبنى على أرضية حقيقية مآله الزوال والموت.»([10]) إن ما يقيمه الروائي الجزائري على ثلاثية: الإصرار، والمثابرة، والتواضع الأدبي، وإن كان تعبيرا أدبيا عن حالات نفسية تصاحب المبدع أثناء رحلته الإبداعية، وليس من قبيل المصطلحات النقدية التي تُعتمد في التنظير الأدبي، إلا أننا حين نتملاها قليلا تنتهي بنا إلى ما يجب على الأديب الناشئ التحلي به أثناء ترقيه مراقي الإبداع. فالإصرار هو المعاودة المستمرة للفعل الإبداعي مراجعة ومتابعة واستكمالا، فلا يقنع الأديب بما انتهى إليه بمجرد الانتهاء من الكتابة، وإنما تبدأ المعاناة الفعلية مع المسودات التي تتوالى في الصنيع الأدبي زيادة وحذفا، حتى تختفي منها تلك اللغة المجانية التي تزجي بالألفاظ كيفما اتفق، وذلك التساهل الذي يدفع بالعبارات محملة بالمعنى وضده في آن. إن الإصرار إذ ينصرف إلى تحكيك العمل الفني، يراد منه - من جهة أخرى- التمرس في أدوات الفن والتفنن فيها فكرا وإجراء، والتعمق في أدواتها بما يتاح من تنظير، وما تدفع به التجارب من إنجاز. إن الإصرار معاودة تريد للفن أن لا يبقى حبيس الارتجال والاستعجال، بل يتخطى عتبة الزمن ليطل على المطلق من خلال ملامسته للإنساني في طرحه وقضاياه.

وكما يفصح الإصرار على ضرب من العنت والمشقة، تكشف المثابرة هي الأخرى على المواصلة وعدم الاستسلام للفرحة الطفولية التي تصاحب الإنجاز الأولي.. إننا مع المثابرة في مكابدة الفن على جميع الأصعدة: فكرا وإجراء، دربة واقتدارا. كذاك الذي سأل أستاذه في الرسم قائلا: متى أعتبر لوحتي منتهية؟ فأجابه أستاذه قائلا: عندما تقف أمامها وتقول في قرارة نفسك مندهشا متعجبا: أأنا فعلت هذا؟ هنا يتجاوز الإبداع صاحبه ويتحرر من ربقته. هنا تتخطى الأعمال الفنية حواجز الزمن لتدخل إلى الخالد الذي يطاول البلى.

ولا يختلف حال الناقد السعودي مما تبرم منه المبدع الجزائري، حين يقول "حامد بن عقيل": «إن قراءة روايات كاتبة مثل "قماشة العليان" تظهر جليا غياب كل ما يدل على معرفتها لأي من نظريات جماليات التلقي في حدودها الأبسط ... فالقارئ موعود بتلقي حكايات بسيطة في تراكيبها وهشاشتها اللغوية كرواية "أنثى العنكبوت" التي تقصي المتلقي وتغيبه عن فضائها السردي. ويمكن قياس ذلك على جميع ما كتبت الروائية، إذ لم تشكل كتابتها في البداية اختراقا لأي شكل سابق. كما أن التراكم الكتابي خلال مسيرتها إلى الآن لم يشكل فيه أي عمل لاحق إضافة أو تجاوزا لسابقه.»([11]) فربما كان الداعي لمثل هذا النقد تلك السرعة التي تحدث عنها "واسيني الأعرج" لأن المبدع اليوم يتعجل قطف الثمرة قبل نضجها. الأمر الذي حول الرواية إلى نصوص خام فيها كثير من الأفكار الحسنة والرؤى العميقة الصائبة، إلا أنها لم تعرض فنيا، ولم تكتسب عمقها الإبداعي الذي يؤسس فيها حقيقة التجربة الإبداعية. إنها نيِّئة مثل المقالات الصحفية التي تدفع بالخبر عاريا من كل عمق، ليس فيه إلا رغبة إفشاء الأسرار. وكأننا في الرواية نفصح عن شيء موجود فينا ولكننا لا نمهله لكي يتخمر في هدأة من الوعي الشاخص الذي يتفحص فينا امتدادات التجربة الشعورية الباطنية.

إنها "ثرثرة" أو ما يسميه البعض بامتعاض شديد "إسهال لغوي" لأن إفشاء الأسرار وبلوغ أقصى الجرأة فيها يوهم كثيرا من روائيينا أنهم يحسنون صنعا، وأن فن الحكي، هو أن تشغل القارئ بفيض من النصوص تطل عليه في رأس كل صفحة، حاملة أخبارا طفيلية تتناسل هنا وهناك عبر الفقرات. فيكون فيها من اللغو ما يجعلها تلقي في النص بكثير من الفوضى الفكرية التي تتخطى حدود العرف، والدين، والسياسة.. ثم يظن بعضهم أن في فعلهم ذلك هدم لطابوهات لم تجرؤ الرواية العربية القديمة على تخطيها، وأنهم يتجرؤون على فضحها. بيد أن الثرثرة والحديث الماجن، والتصريح السياسي، والإعلان عن الشذوذ.. ليس كسرا للطابوهات، وإنما الكسر في فك مغالقها، وفتح منافذها على الحوار الجاد البناء. وأن نقول فيها قول العارف الذي يحمل في رؤيته مادة التجديد وليس معول الهدم. لذلك يعلق الناقد السعودي على هذه الوضعية الغريبة قائلا:« تبقى معضلة تحميل الرواة لرواياتهم بكثير من الاستطرادات، والقصص الجانبية التي لا تفيد العمل في شيء، سوى إطالة عدد الصفحات. قد يكون النموذج الأبرز للتدليل على ذلك روايات «عبده خال»، فهو على امتداد أعماله الروائية، غير قادر على التنازل عن فكرة تحميل عمله بشروحات، وقصص، واستطرادات، لا تضيف إلى الرواية، بل قد تؤدي إلى ترهلها. ويمكن ضم رواية "هند والعسكر" الصادرة مؤخرا للكاتبة "بدرية البشر" إلى اعتماد فكرة التطويل من خلال اعتمادها على حكائيات طارئة على روايتها، دون أن تضيف إليها شيئا سوى إشعار قارئها بالملل، وإيهام المتلقي البسيط أنه يقف أمام رواية!.» ([12])

ربما يكون من المفيد لدى علماء الاجتماع وعلماء النفس، الالتفات إلى هذه النصوص المعترضة التي هي من قبيل إفشاء الأسرار للنظر فيما تحتويه من خبر يمكن استثماره في إطار التعرف على الوجهات الجديدة في أفكار الجيل الجديد. وهو عين ما تقوم به دوائر خاصة لدى الغرب، حينما تلتقط معلوماتها من الاستطرادات الهامشية التي تحمل: "رغبة إفشاء مكنونات الذات، ولغو الثرثرة، وعجب الحديث العاري.." ذلك هو الانزياح الذي يسجل في لغة الرواية وعدولها إلى ضرب من اللغة الشعرية الحالمة التي جعلت السرد الروائي عرضة لانحرافات كثيرة، لأن اللغة:« كائن حساس جدا، وعلينا ككتاب التعامل معه بحذر، وأيضا بذكاء. لأنها هي التي تطوّع مراحل وزمن السرد، وهي من تمنح النص ثقله، فاستخدام اللغة الشعرية يحوّل النص إلى ثرثرة لا جدوى منها عند القارئ مهما كان مستواه، وتقتل البلاغة التي تساهم بشدة في تحريك النص، ومنحه أبعاد وقراءات متعددة.. هذا ما لا نجده بصراحة في النص الروائي الجزائري عموما.»([13]) وهي التي تُرهِّل جسد الرواية بثقل يصرف القارئ عن النص، ويفتح ملف تدني المقروئية التي يجتهد كثير من النقاد في البحث عن أسبابها.

لقد نعت بعض الكتاب "النقد الأكاديمي" الذي تزاوله الجامعات في رسائلها الجامعية ب"النقد المنافق" لأنه لم يجرأ في يوم من الأيام بأن يقول قولة حق في هذا الأديب أو ذاك. بل هرع إلى المناهج الواصفة التي استقاها من الغرب على أنها مناهج حديثة لا تحفل بأحكام القيمة، وأنها تكتفي بوصف كيفيات اشتغال النصوص، غير أنها عاجزة عن أن تقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت. لأنها أول ما لفظت من قاموسها ما أسمته ب "النقد المعياري" الذي يستند إلى أحكام وقيم جمالية. ورحبت بالتجريب الذي يفتح الفن أمام كل جريء في مقدوره أن يقول للناس لكم أدبكم ولي أدبي. والحال أننا في الرواية العربية الجديدة أمام حالة يمكن تشخيصها بالمرضية، حينما تغدو الكتابة تنفيسا داخليا لا يحفل بالقيود، جمالية كانت أم أخلاقية، مادامت الكتابة تروي إلى الآخر معاناة الذات مع واقعها الخاص لا الواقع المُعطى. لأننا في كثير من النصوص أمام واقع الراوي الخاص الذي نجد صلاته بالواقع المعطى ضعيفة، أو شاذة، أو غير صحيحة.. لذلك نجد الناقدة السعودية "سمر المقرن" تشير :« إلى اتجاه جديد في الكتابة السعودية حيث اتسمت بالجرأة في اختراق التابوهات، والخوض في فضاءات سوداوية تفيض بالقمع، والعدوانية، والتعذيب، باختلاف البيئات الواردة في الروايات، مشيرة إلى أنه لا يمكن إنكار هذا التنفيس الذي استشرى في بعض الأعمال، فجاءت فضائحية وضعيفة فنيا.» ([14]) . ذلك الاتجاه الذي يجعل من الرواية تتخطى المطلب الفني لتصب مباشرة في ما أسماه "ألبيرس" ب"انتهاك الضمير"  وفتح السريرة على المكشوف. وكأن ذلك الفعل سيكفل لصاحبها شيئا من الراحة الفكرية والوجدانية. بيد أن تضيفه الناقدة السعودية يكشف عن خطر آخر يجب أن ينتبه إليه النقد الجاد، فهي تأسف:« لعدم ظهور الروايات الناجحة من رحم البيئة المحلية السعودية، موضحة أن معظم هذه الروايات ولدت في الخارج، إذ إن الوضع الطبيعي هو أن يولد الإبداع في بلده وأرضه.»([15]) وكأننا في كل أحوالنا الإبداعية إنما نكتب أنفسنا للآخر ونتعرى أمامه ليقرأنا على مهل.







[1] - آسيا موساوي: رواية الجيل الجديد في الجزائر. الخصوصية والطموح . http://www.arabicstory.net

[2] -زهير محمد كتبي. الرواية السعودية.. قراءة نقدية. المجلة الثقافية. الاثنين.18شوال 1428.العدد:220.

[3] - جريدة اليوم 17 شعبان 1428هـ.

[4] -نفس.

[5] - آمال بشيري. (روائية جزائرية مقيمة بالإمارات العربية المتحدة، صدر لها ''سفر الخطايا'' ''فتنة الماء'' و''آخر الظلام''..)الرواية الجزائرية أي مستقبل؟الجزائر نيوز يوم: الأربعاء 24 نوفمبر 2010 م، الموافق لـ 17 ذو الحجة 1431 هـ

[6] - آسيا موساي: رواية الجيل الجديد في الجزائر. الخصوصية والطموح http://www.arabicstory.net

[7] -نفس.

[8] - عبد الله شطاح. الرواية الجزائرية التسعينية..كتابة المحنة أم محنة الكتابة. يومية الحوار الجزائرية 16/12/2009

[9] -نفس.

[10] - وسيني لعرج. حوار مع. جريدة الخبر 11/06/2009 .

[11] - حامد بن عقيل. منجزنا الأدبي بين الحكواتية والتعريفات المدرسية. الرواية السعودية بوصفها نموذجا للأعمال العربية.. الرديئة! عكاظ. الخميس 10/06/1427هـ 06/ يوليو/2006  العدد : 1845.


[12] - نفس.

[13] -مال بشيري. (روائية جزائرية مقيمة بالإمارات العربية المتحدة، صدر لها ''سفر الخطايا'' ''فتنة الماء'' و''آخر الظلام''..) الرواية الجزائرية أي مستقبل؟ الجزائر نيوز يوم: الأربعاء 24 نوفمبر 2010 م، الموافق لـ 17 ذو الحجة 1431 هـ

[14] - سمر المقرن. الرواية السعودية النسوية، نبش الواقع.الجريدة. العدد:445. لجمعة 07 نوفمبر 2008 ,09 ذو القعدة 1429.


[15] -نفس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،