التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هؤلاء الشواذ الذين يصنعون المصطلح النقدي!! كتبه حبيب مونسي



barthes 
-        ماذا لو كانوا مثليين "homosexuel"   سادوميين  (نسبة إلى سادوم، قرية قوم لوط عليه السلام، التي أحدثت فاحشة إتيان الذكران.)

-         ماذا لو صدقت العرب في مثلها حينما قالت: كل إناء بما فيه ينضح!

-         ماذا لو أعدنا النظر في أساليب تعاملهم مع اللغة، في انتهاك حرمتها، والعبث بقواعدها، والتنكر لدلالتها، واخترام قدرها؟

-         ماذا لو رأينا في الجمل الطويلة الملتوية، المتوارية، الغامضة ضروبا من سلوكات الشواذ في حركاتهم وسكناتهم.. ؟؟


لقد لفت النتباهي إلى هذه المسألة حديث أم في الإذاعة وهي تتحدث عن الموضة التي يقتنيها كثير من المراهقين اليوم، من سراويل هابطة، وأقمصة بألوان زاهية، وكتابات غريبة، وشارات وثنية/ كنسية.. حين قالت: أحسب أن هذا كله رسالة يريد مخنثو الغرب وشذاذه وشواذه تمريرها إلى أبنائنا. لأن الذين يرسمون الموضة في الغرب كلهم -ومن دون استثناء-من هذا الصنف..  لقد كان لكلماتها في نفسي وقع الرعد المجلجل، والشهاب الحارق.. ثم ثبت إلى رشدي وأنا أتذكر عبارات قرأتها في كتاب الراحل" عبد العزيز حمودة" "الخروج من التيه" يتحدث فيها عن لغة النقد الحديث التي أخذت مسارا أيروسيا رطبا، يستعير صوره ومصطلحاته من العملية الجنسية الشاذة، دون أن يخفي ميله إلى المثلية الذكورية.

يقتبس "عبد العزيز حمودة" من التمهيد الذي كتبته "جيتاري سبيفاك"في مقدمة ترجتها لكتاب دريدا "grammatologie" قولها:« إن المصطلح الذي يستخدمه دريدا داخل الأسطورة الجنسية لإنتاج المعنى هو الانتشار"dissémination". فعن طريق قرابة لغوية زائفة بين علم الدلالة "semantics" وبين السائل المنوي "semen" يقدم دريدا الرؤية التالية للنصية: إنها عملية غرس لا تنتج نبات، ولكنها عملية متكررة بصورة لا نهائية، عملية إنتاج للسائل المنوي دون أن تكون عملية غرس بل نشر، بذرة تسال عبثا، قذف لا يمكن إرجاعه إلى أصله داخل الأب، إنها ليست عملية تعدد دلالة محددة، بل عملية توليد لمعنى دائم الاختلاف والتأجيل. »([1]) . إن المترجمة تدرك أن ثمة تحايل وتعالم كاذب في الجمع بين كلمتين متباعدتين ليس لهما رابط دلالي معلوم. غير أن المرجع المرضي الذي يغترف منه دريدا رؤيته ومادته الاصطلاحية، يدفعه للجمع بين الكلمتين: فيقرب بين "الدلالة" و"السائل المنوي". غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد وإنما يتسع للحديث عن "السفاح" ذلك الفعل الذي يتم فيه هدر "السائل المنوي" من غير رغبة في الإنتاج. وفيه تتجسد كافة العمليات الجنسية المحرمة.

لا يجد القارئ في مثل هذه النصوص معرفة جادة، تسعفه في عمليات الفهم التي تسعىإلى شكف الروابط  الخفية التي تتم بين القارئ والنص أثناء فعل القراءة، لأنها ستنصرف به سريعا إلى حمأة المعاشرة الجنسية الشاذة التي تتقزز منها النفوس. غير أن نقاد الحداثة يوهمون السذج منا أنها أحسن وسيلة للحديث عن العلاقات الخفية التي تتم بين النص والقارئ، في عزلة من الناس. لذلك تستمر "جيتاري سبيفاك" في عرض أفكار "دريدا" مؤكدة على الطبيعة الجنسية لعلاقة القارئ بالنص. فعملية القراءة:« .. أو بالأحرى كل قراءة للنص، تمثل عملية فض "بكارة" أنثى أسطورية، فبمجرد "اختراق" غشاء بكارة  النص، يلتئم الغشاء من جديد لتعود المرأة عذراء لم يمسسها بشر، مرة أخرى عملية إنتاج السائل المنوي، وعملية قذف، كما يؤكد دريدا، خارج الغشاء.» ([2]).

قد يرى بعض المتحذلقين المتشبعين بزخم الحداثة ولغتها الخنثى، المنخدعين ببهرج صورها، أن ذلك التعبير من قبيل المجاز والتمثيل الذي يقرب المعنى وحسب، وأنه ليس يضر شيئا. فالقارئ اليوم يعرف كل شيء. غير أن التمادي في الاستعمال هو الذي يبعث الريبة في النفوس، ويدفعنا إلى التساؤل حينما نجد تفكيكيا مثل "هيليس ميللر" يصف العلاقة بين النص والقارئ :« باعتبارها علاقة فاعل جنسي في مفعول به، مستخدما المصطلح الجنسي الصريح نفسه، وإن كان الرجل يقلب الأدوار مشكورا، فيجعل الكتاب مفعولا به، ويحول القارئ أو الناقد إلى فاعل. ويرى الرجل في العلاقة الأخيرة الكتابَ وقد "فتح فنسه" أمام القارئ. أما الوضع الآخر، فإن الناقد يتخذ وضع الأنثى.. وفي هذه الحالة فإن الناقد أو القارئ السلبي "يفتح نفسه" أمام حضور فكر نشط يخترقه عنوة و"يمسك به" و"يمتلكه" و"يملؤه". إن النصوص التي تتم قراءتها اعتباطا ودون اختيار "تقذف محتوياتها" "دافئة" داخل فراغ القارئ أو الناقد »([3]).

بهذه اللغة وبهذا المنطق تنحت المصطلحات، وتحرر نصوص النقد الأدبي، وتكتب النظريات التي نرددها في شغف من المحيط إلى الخليج، نتشدق بمتعة النص، ولذة النص، والذروة، والانتهاك، والفتق.. وغيرها من الكلمات التي لا تصدر في هذا النسق عن سوي جاد، يجتهد في مضمار الفكر والنقد. وإنما يصدر حتما عن شاذ مريض، يريد تسويق شذوذه ورضه عن طريق نقد أقل ما يقال عنه أنه يزكم الأنوف برائحة الماخور.

مع رولان بارت:

كتب "فليب سولير" "Philippe Sollers "في نص سردي بعنوان "نساء" ". Femmes "مستعملا اسما مستعارا" Werth " للحديث عن "رولان بارت" " Roland Barthes " يقول:« ماتت أمه من سنتين.. حبه الأكبر.. الوحيد.. ترك نفسه ينزلق، أكثر فأكثر في  علاقاته المعقدة بالشباب.. إنه منحدره.. لقد تسارع فجأة.. لم يعد يفكر إلا في ذلك..  في ذات الآن الذي يفكر فيه بالقطيعة.. بالامتناع.  بحياة جديدة.. بكتب يكتبها.. ببدايات .. كان يعرف أن اللقب الذي يطلق.. والذي يلفظ همسا في السهرات الخاصة التي ينظمها أصدقاؤه من أجل تمكينه من اللقاءات هو "مامي" ».([4])

لقد كانت هذه الفقرة كافية في وصف الجو العام الذي كان "رولان بارت" يتحرك فيه، فقد عاش أكثر من ستين سنة في حضن والدته التي لم يفارقها أبدا، في غيبة "أب" فقده في مرحلة مبكرة من العمر. فقد مثلت له الأمُ، الأختَ والمرأةَ.. فلم يتزوج.. ولم تظهر ميوله المِثلية إلى العلن إلا بعد شهرته، وإن كانت تعود إلى ماض بعيد. غير أنها تفاقمت مع الفراغ الذي أحدثه فقدان الأم.. فلم يعد له من ملاذ سوى تلك الدوائر المغلقة التي تحدث عنها " فليب سولير " .

لم تعد حاجته إلى الآخر، نزوات تراوده وتعاوده بين الحين والحين، وإنما تسارعت وتيرتها بشكل ملفت صارخ، حتى سدت أمامه كل طرق العودة، وحالت دون تحقيق كثير من طموحاته الأدبية، وأسبغت لونا جنسيا على عناوين كتبه وبحوثه.. بل اختار من النصوص التي يدرسها ويكتب عنها، ما له صلة بالمثلية وزنا المحارم. فأعاد بعث "المركيز دي ساد" "m. de sade"  و"بروست" "proust"  وكانت تعليقاته على الموضة والرموز، والإشهار تمتح مادتها من تلك الميول والنزوات.

نشر "هارفيه ألغلاروندو" " Hervé Algalarrondo " سيرة عَنْونها ([5])-على استحياء- ب"الأيام الأخيرة لرولان بارت" ". Les Derniers jours de Roland B" غير أننا لن نجد فيها من" الحياء" غير العنوان، ويبدو أن المؤلف يتحمل مسؤولية المحتوى حين يعلن ابتداء من المدخل :« أنه سيدع  "بارت للبارتيين، لينفرد برولان" " laisser volontiers Barthes aux Barthésiens pour [se] consacrer sur Roland " ويطلب من الذين لا ينتسبون إلى "رولان" أن يحجموا عن قراءة السيرة.» ([6])  فكون القارئ "رولانديا" " rolandien" معناه  - بحسب المؤلف- أن يعمل على إعادة بعث الجانب الإنساني في ذلك الذي يدعوه عبر الكتاب كله بالمعلم " le maître " . والفكرة الأساس للسيرة تتمحور حول كون "رولان بارت" مثليا، يحب الشبان الذين يحيطون به. وهو الملمح الذي يطوره المؤلف في الكتاب كله، مركزا على أن "بارت" كان يفضل صحبتهم على كل صحبة أنثوية. ([7])

كتب "إريك مارتي" " Éric Marty" يقول:«في اليوميات التي كان يبعث بها إلى دورية " Nouvel Observateur " وجريدة " Le Monde "  ابتداء من 1978 كان"بارت" يتحدث كثيرا عنهم (الشبان). وكما جاء في يومية يناير 1980 - أسابيع قليلة قبل وفاته- والتي عنونها بكل بساطة "جنس" Sexe "، كتب يقول: انتابني ضرب من اليأس الشديد.. وبي رغبة في البكاء.. كنت أرى بجلاء أنه يتوجب علي التخلي عن الشبان، وأنه يعد لهم رغبة في.. وأنني كثير التدقيق، أو غير لبق في فرض رغباتي عليهم.» ([8]) ذلك هو المنزلق الخطير، الذي تحدث عنه "فليب سولير"  من قبل والذي سد كل منافذ الإبداع أمام "بارت". غير أننا نلمح من حديثه عن نفسه، مبلغ الألم الذي كان يعانيه في وحدته، ومبلغ فداحة الورطة التي وقع فيها..  لم يعد يشعر أنه لا تليق به مثل هذه الأفعال المنحطة، وأنها تزري بمكانته.. بل الذي يؤرقه أن الشبان لم تعد لهم رغبة فيه.. وهذا أمر مخزي إذا ما قيس بالهالة التي توجته بها الحداثة.

ويواصل ""إريك مارتي" " Éric Marty" وصفه لشبكة المثليين التي يتحرك فيها "بارت" والتي تبدأ من شقة يملكها شخص غامض يدعى "يوسف" وتمتد إلى بعض الشوارع الباريسية، من الحي اللاتيني، يقصدها مع:«  "بارت" المعتدل سياسيا، البسيط في المأكل، ولكن "بارت" المثلي الذي يعد حبه للشبان مشكلة» ([9]) "فرانسو فال" " François Wahl " الناشر في مطابع "Éditions du Seuil"  وصديقه الروائي "سافيرو ساردوي" " Severo Sarduy" وعدد من الطلبة الذين صاروا فيما بعد أصدقاء.

يبين "مارتي" أن هذه الشبكة لم تكن بادية للعيان، وأن: « حياته الجنسية ظلت لوقت طويل، غير معروفة، حتى ليصاب كثير من الناس بالذهول حينما نكشفها لهم. وقد بقيت آعماله إلى غاية 1975 صامتة عن ذلك .. فقد كان ذوقه في الأدب كلاسيكيا، وكانت ملاحظاته تبعث بشيء من الشك، ولكن المقدمة التي كتبها  ل " Tricks de Renaud Camus " عام 1979 أزاحت كل غموض عنها.»([10])

وحين نراجع بعض أقوال "بارت" النقدية والتنظيرية، يتبين لنا مدى تأثره بمثليته وهوسه الجنسي. فهو يقول  -على سبيل التمثيل في كتابه "لذة النص" " Le plaisir du texte" :« إن النص الذي تكتبه، يتوجب عليه أن يعطيني الدليل على أنه يشتهيني. هذا الدليل موجود، إنه الكتابة، الكتابة هي شهوة  و "متعة" اللغة »([11]) وليس أدل على ذلك من التأرجح بين  لفظتي "اللذة" و"المتعة" وكأن اللذة في ما تُعطي والمتعة فيما تأخذ.  ثم يتمادى بعيدا ليقول في موقف آخر:«أذهب إلى حد التلذذ بتشويه اللغة، ويضج الرأي الآخر، لأنه لا يريد أن نشوه الطبيعة» ([12])   وهو اعتراف قد نقرأ من خلاله ما اعترى اللغة والأساليب من تشويه على أيدي أتباعه ومقلديه، فقد غدا انتهاك اللغة والتلذذ بتشويهها من جنس التلذذ بالأجساد وتعذيبها أثناء الممارسات الجنسية الشاذة.  وكأن التعذيب والتشويه يعبران عن استعصاء التملك الذي يسعى إليه المثلي ليكون هو الآخر في نفس الوقت: فاعلا ومفعولا.  وهو الأمر الذي يفلسفه "بارت" على نحو  عجيب غريب، إذ يقول: «الرغبة.. التوق.. إننا نتحدث دوما عن الرغبة " Désir"، ولكن أبدا عن اللذة " Plaisir"،قد يكون للرغبة كرامة إبستمية،أما اللذة فلا.» ([13]) مادامت الرغبة هي الاشتهاء الذي يكون طبيعيا لدى الأسوياء من الناس، فهو موجود فيهم يدفعهم إلى البحث عن اللذة، كما أنها تمتلك تاريخها الخاص في أحوال البشر.

إن بارت لا ينظر إلى النص على أنه صنيع فني تتجسد فيه عبقرية الأداء، وإنما ينظر إليه دوما على أنه شخص مِثْلي نزق، يسعى دوما إلى التمرد، وكسر الأعراف. فيتمثله في صورة شاب مستهتر طائش، يصفه "بارت" قائلا:« إن النص "ويجب عليه أن يكون" هو ذلك الشخص الذي يكشف عن مؤخرته للأب السياسي.»([14]) فللتمرد صفات وأشكال وأفعال، كان يمكن للكاتب أن يختار منها ما يعبر به عن الانقلاب والرفض، ولكنه لا يجد سوى صورة شاذة لم تجر في عرف لا تقليد، ولا عرفت في مجتمع من المجتمعات، يختارها من واقعه المثلي، ويشحن دلالتها من مرجعيته الخاصة، ليقدم بها النص على الهيئة التي يقدم بها الشواذ أنفسهم.

فإذا كان النص "شخصا مثليا"  فإن القارئ لابد أن يكون كذلك حتى تستقيم الفكرة في ذهنه، ويتم له مراده من النص. إذ لم تعد القراءة مسألة عقلية، وإنما غدت عند "بارت" جسدا يتحرك.. يفكر.. فهو يقول:« لذة النص، هي اللحظة التي يتبع فيها جسدي أفكاره الخاصة.» ([15]) وربما يبرر البعض أن هذا الضرب من التعبير بأنه شبيه بحالات الشطح الصوفي الذي تحتاج فيه اللغة إلى المجاز، والصور الغريبة. وإننا لنقبل ذلك شريطة أن لا يكون التركيز دوما وأبدا على الجنس والشذوذ.  كنعته اكتشاف المعنى الذي يشبهه بالقذف وبلوغ الذروة، قائلا:« إن متعة النص" jouissance du texte " مبكرة، لا تأتي في وقتها، ولا تخضع لأي نضج،إنها تثور دفعة واحدة.»([16]).

إننا راجعنا كتابات بارت على هذا النحو، سنكتشف مقدار الزلل الذي وقعت فيه لغة النقد الحديث على أيدي هؤلاء، وكيف أنها تشبعت بالهوس الجنسي الشاذ، وكيف فتحت باب الاصطلاح النقدي على مفردات الشذوذ والشواذ. تقول "فاطمة البوعناني" " Fatima EL BOUANANI"  في ختام مقال لها عن "بارت" :« سواء تعلق الأمر بلذة النص، أو بلذة الجنس، بمتعة النص، أو بالمتعة المثلية، أو أي ميل آخر كان يؤرقه، فقد استطاع بارت أن يؤسس نظرية تفسر  لماذا يسيل لعابنا أمام نص، بنفس القدر الذي يسيل به أمام طعام شهي، أو أمام جسد جذاب.»([17]) .

مع ميشال فوكو

"مراسيم جنازة بسيطة.. بحضور أقرانه وأقاربه.. على الرغم من  شهاداته والتزاماته السياسية، فلم يكن "ميشال فوكو" بطلا قوميا، وإنما هامشي مشهور.. مشاكس، مثلما كان "أندريه جيد" وبنفس الطريقة دس جثمانه في تربة مقبرة ريفية".

 تلك كانت مقدمة المقال الذي خصصته جريدة "العالم" "Le Monde"  لعام 2000. تحت عنوان مثير :" Foucault et Hervé Guibert, le compagnon d’agonie" ومثل "جيد" تماما كانت نهايته مثيرة للجدل. فأصدقاؤه يستنكرون صدور مقال قصير في جريدة "ليبيراسيون" " Libération" يكذب فيه صاحبه أن يكون "فوكو" قد مات بسبب "السيدا" "داء فقدان المناعة" وهل من عيب أن يموت بالسيدا؟ أي أن يعلن عن شذوذه الجنسي. " Quelle honte y a-t-il à mourir du sida - c’est-à-dire à afficher son homosexualité ?, protestent-ils  " وقد كان الرد من رفيقه الذي لازمه حتى النفس الأخير حادا إذ يقول:« سرقوا منه موته، وهو الذي أراد أن يكون المعلم.. وسرقوا حتى حقيقة موته، وهو الذي كان معلما للحقيقة.. لم يكن مسموحا قط ذكر اسم  الجذام..»([18])

انعزل "فوكو" في سنواته الأخيرة تدريجيا، غير أنه كان يحب رفقة الفنانين الشباب الذين لم يكونوا لا زملاء عمل ولا رفقاء لذة، فقد كان يفضل كما يقول الكاتب الأمريكي "إدموند وايت" " Edmund White":« الأمسيات الرجالية.. كلهم روائيون.. كلهم مثليون.. كلهم وسيمون بأشكالهم الرشيقة والغامضة.. قريبا من أولئك الممشوقين النحفاء الذين كانوا يحيطون ب "أفلاطون" في لوحة "تيودور شاسيريو" " Théodore Chassériau ". » ([19]) بيد أن الإحالة على "أفلاطون" لم تكن على لسان الروائي الأمريكي محض مصادفة. فقد كان "فوكو" في تلك الأثناء يشتغل على "تاريخ الجنس" " Histoire de la sexualité " ويهتم كثيرا بصداقات "أفلاطون" للشبان في المجتمع الإغريقي الذي أولى اهتماما بالغا بالجسد، تجاوز فيه حد التقديس.

كان "هارفي جيبرت" ينتمي إلى الدائرة الضيقة من الأصدقاء التي تحيط ب"المعلم" تربطه به علاقات يختلط فيها الأدب باللذة. يقول "إدموند وايت" " Edmund White":« وربما كان أفضل صديق ل"فوكو" لم يتجاوز الثامنة والعشرين من العمر، فيه شيء من الجدية،وشيء من الهذيان.. » ([20]) كان فيه شيء من الشحوب إضافة إلى بياض وجهه، مما يضفي عليه هالة ملائكية. غير أن هذا الملاك المقرب كان شيطاني المزاج والروح. وذلك ما أغرى "فوكو" وشغَّفه فيه.

يروي "هارفي جيبرت" لقاءه الأول مع "فوكو" عام 1977 مع صدور كتابه "الموت دعاية" " La Mort propagande" فقد أُخِذ "فوكو" بذلك النص -الذي اتسم بعنف سادي يقف على حدود المحتمل- أيما مأخذ، وهو الباحث في "تاريخ الجنون في الزمن الكلاسيكي" " l’ Histoire de la folie à l’âge classique." فقد كان النص ضربا من الهذيان حول تدهور الجسد، والمتعة الناجمة عن الألم والتشويه. يقول "هارفي جيبرت" :« إن جسدي مختبر  أقدمه عرضا، إنه الفاعل الوحيد، والأداة الوحيدة لهذيان أعضائي.. تنويعات وتزيعات.. من الجنون.. من الألم.. على قطعة من اللحم.. أرصد كيف  يشتغل.. أسجل إنجازاته..»

ويبدو أن النص الأقرب إلى مزاج "فوكو" هو من دون شك نص "العميان" " Des aveugles" الذي نشر بعيد وفاة المؤلف، والذي أهدي إلى "الصديق الذي مات" "« A l’ami mort »" إنه النص الذي يعطل فيه "هارفي جيبرت" حاسة البصر، ليتخيل أجسادا في مؤسسة للعميان، يحوِّل فيها الشبان أجسادهم إلى آلات لإنتاج الأوهام والخيالات السادية، وتجاوز حدود اللذة والألم.  إنها القصة التي تجسد فكرة اعتبار الجسد مختبرا حيا، تزاول فيه شتى أنواع التشويه والتعذيب.

 ربما نتساءل من أين أتت تلك الغواية التي يمارسها هذا الملاك المتشيطن على الأستاذ البارز؟ فيقدم لنا "هارفي جيبرت" نفسه الإجابة في نصه الذي خصصه لمرضه، والذي نشر أربع سنوات بعد موت "فوكو" والذي عنونه بعنوان غريب " إلى الصديق الذي لم ينقذ حياتي" " A l’ami qui ne m’a pas sauvé la vie " فهو عبارة عن رواية سيرية يظهر فيها "فوكو"  تحت ملامح "الأستاذ موزيل "Muzil" والذي يميط فيه الروائي الحجاب عن شخص ثان، مسكون بنوبات عنيفة.. له جانب أسود، صار يستسلم له طوعا ويتلذذ به أكثر فأكثر. فمن نافذة "هارفي جيبرت" الذي كان جارا له.. يراه يغادر مساء في جولات إلى الحانات الباريسية المريبة.. « وقد وجدوا  في بيته بعد موته كيسا كبيرا محشوا بالأسواط، والأقنعة الجلدية، الأرصنة، والألجمة، والأصفاد..»

لقد اعتاد "فوكو" أثناء إقامته المتكررة بالولايات المتحدة الأمريكية، زيارة الأحياء المثلية ل"سان فرانسيسكو" وعلبها السادية. «لقد كان يعشق الجنس الجماعي في الحمامات البخارية» لقد بلغ "فوكو" مرحلة من حياته امتلك فيها جرأة مواجهة شذوذه الخاص، وشياطينه الداخلية.. لقد وجد في "هارفي جيبرت" الوسيط الذي مثله لا يجرؤ فقط على أن يعيش تجاربه الشاذة، بل يتجرأ فيتحدث عنها.. إنه المترجم الذي يحوِّل تجاربه إلى مادة لكتبه. فقد جسد في نهاية الأمر "واجب الحقيقة" " devoir de vérité " ذلك المفهوم الذي كان يلاحقه "فوكو" في  "تاريخ الجنس".

يواصل "هارفي جيبرت" - الذي كان يعلم أنه سيقضي بمرض السيدا هو الآخر- وصف احتضار "فوكو" وتدهور حالته الصحية في المستشفى، يصف ألمه.. وكذلك مرحه الشجاع أمام الموت. فقد كان "هارفيه" وهو يشاهد احتضار صديقه، يشاهد موته الخاص يُجسد بين بيديه في جميع أشكاله.

لقد أحدث نشر هذا الكتاب أثرا عاطفيا كبيرا في عام 1990. فقد تساءل الناس بأي حق  يجوز نشر أسرار الموتى الذين عرفناهم عن قرب؟ بيد أن جوابا يفرض نفسه! إن للموتى الحق أولا في الحقيقة! لم يكن "فوكو" يخفي نفسه! لقد كان إنسانا حرا! والواجب على أصدقائه أن يظهروه في حقيقته، وليس عليهم إخراجه في حنوطه. لقد صور "هارفيه" "فوكو" في ملامح الأستاذ "موزيل" لأن فوكو كان يحب الأقنعة، ويسعى إلى الخفاء. ربما كان سعيدا أن يختفي في جلد "الانسان عديم الميزات" " l’homme sans qualités" غير أن الناس تعرفوا  على "فوكو" تحت قناع "موزيل".

لم يكن "موزيل" الذي كان يخرج مساء في بذلته الجلدية السوداء ليصطاد في حانات المثليين، أو يتعرض للجلد في  "سان فرانسيسكو" إلا شخصية هاذية من الشخصيات التي  تسكن عالم "هارفيه" المليء  بالأطفال المنحرفين، والعشاق المعذبين، والأطفال المنتهكين، واللواطيين الجوعى. ولم يعامل الكاتب "موزيل" بطريقة مختلفة عن هؤلاء المحبوبين المكروهين.. الموصوفين من غير  حياء ولا وقار في الكتاب الذي عنونه "هارفي" ب "أبواي" " Mes parents".  

كان "هارفيه" يحلم بأن يصبح كاتبا كبيرا.. كان يبحث عن عراب مرموق يكون له تابعا ومريدا. لقد اتصل أولا ب"رولان بارت" " Roland Barthes " بعد صدور كتابه الأول "الموت دعاية" " La Mort propagande " عام 1977. إذ يقول:« أحببت بارت.. كانت لي رغبة في بارت.. ولبارت نفسه..» ثم ترك نسخة من كتابه في بيت "المعلم" في  شارع "سارفونديني" " rue Servandoni". لقد أثر هذا الكتاب المثير في الأستاذ الشهير.. فيرد عليه "بارت" كتابة، مقترحا عليه اقتراحا غريبا..:«أريد أن أتحدث معك في العلاقة بين الكتابة والاستيهام والرغبات الخفية.. ولكن من غير أن أقابلك..» وبذلك تبدأ مراسلات مشبوهة.. ولم يبطل سحر ذلك التراسل الأدبي بينهما إلا يوم أن كشف "بارت" عن أوراقه، حينما طلب من "هارفيه" نصا. يقول "هارفيه" :«لقد جعلني أكتب نصا.. وكان عليه أن يكتب مقدمته.. ولكنه اشترط شرطا.. أن أعاشره.. ولكن ذلك محال بالنسبة لي.. في تلك الفترة لم أكن لأقدر على أن تكون لي علاقة برجل في مثل سنه. »

لقد صدمت رواية "هارفيه" "فوكو" الذي استجاب وطلب مقابلة المؤلف. ووجد فيه هذا الأخير ما لم يجده في "بارت" : «معلم.. تأثير معنوي.. » وبينهما نشأت علاقة قائمة على ضرب من الفتنة المتبادلة. كان "فوكو" يتمتع بسلطة ثقافية معتبرة.. لقد صنعت منه الشهرة الإعلامية ل"الكلمات والأشياء" " les Mots et les Choses" المعلم المفكر الجديد للأنتليجنسيا الفرنسية. وأعطته تدخلاته لصالح السجناء، والمغتربين، والمثليين.. نفوذا معتبرا في نفوس الشبيبة الطلابية. إنه بحق وريث روح ماي 1968. وإنه إلى جانب ذلك صاحب قلم باهر..

عندما التقى "هارفيه" ب"فوكو" كان هذا الأخير قد أصدر تباعا سلسلة من الدراسات.. "المراقبة والعقاب" " Surveiller et punir" حول مجتمع السجن، و"إرادة المعرفة" " La Volonté de savoir" الذي قدم على أنه الجزء الأول من سلسلة طموحة عن تاريخ الجنس. لقد كانت أعمال "هارفيه" كلها مخصصة للجنس.. إنها اعتراف متسلسل عن مطالب.. وآلام.. ونداءات المثلية. فكل لذة، وكل انتصاب، وكل متعة، إنما تشكل حقيقة الرغبة.. فهي الدليل الوحيد على الوجود.. والكتابة عنها ضرب من الاستمناء الطويل.. فالكتابة، والحياة، والجنس، بالنسبة ل"هارفيه" و"فوكو" حقيقة واحدة. ووجود الجنس في كل الخطابات المعاصرة، ليس دليلا على "تحرر" كما يحلو للبعض رؤيته، وإنما هو من قبيل الشعور بالذنب في المجتمع.

لقد مات "فوكو" في سرير المستشفى وفي يده قلم يصحح به كتابه الأخير "هاجس الأنا" " Le Souci de soi.".







 - عن عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه. ص:39. علم المعرفة. الكويت. ع:298. نوفمبر2003[1]

- نفس. ص:40.[2]

- نفس.ص: 40.[3]

[4] - Philippe Sollers. Femmes. p. 145-154, Gallimard, 1981, Folio.
[5]- une biographie pudiquement intitulée  .
[6] - Hervé Algalarrondo. Les Derniers jours de Roland B. p.14. Stock 2006
[7] -http://www.parutions.com/index.php?pid=1&rid=6&srid=64&ida=7693
[8] -. Éric Marty, ROLAND BARTHES. LE MÉTIER D’ÉCRIRE. Paris, Seuil, 
coll. : «Fiction et Cie», 2006, 333 p. 
[9] -ibid.p :333.
[10] - ibid.p :333.
[11] - Roland Barthes, Le plaisir du texte, éd.du Seuil, 1973, Paris, p.13-14
[12]- Ibid, p.61
[13] - Ibid,p.91
[14] - Ibid, p.84
[15]- Ibid, p.30
[16] -Ibid, p.84
[17] -Fatima El Bouanani . Le plaisir du texte - Roland Barthes. http://www.e-litterature.net/publier2/spip/spip.php?page=article5&id_article=948
[18] - Hervé Guibert.  Les Secrets d’un homme, figurant dans le recueil Mauve le vierge. nouvelle publié en 1988.
[19] - Foucault et Hervé Guibert, le compagnon d’agonie.7 mai 2000 (Le Monde)
[20] -Ibid.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،