التخطي إلى المحتوى الرئيسي

هل السيميائيات مجرد تأويل؟وهل القراءة فهم وفقه؟ كتبه : حبيب مونسي


http://www.drodd.com/images14/art74.jpg


كانت موضى البحث منذ سنوات خلت تقتضي أن يشفع العنوان بتزكية من قبيل "مقاربة سيميائية" "قراءة تفكيكية" ليكون البحث حديث الموضوع حداثي المنهج ويكون صاحبة من نخب الطليعة التي تحسن الفهم عن الآخر وتحسن إجراء أدواته تنظيرا وتتطبيقا..
إن مراجعة بسيطة لعناوين الدراسات التي دفع بها أصحابها إلى المطابع تكشف عن ذلك الهوس. فهل أضافت هذه التزكيات شيئا إلى المناهج المسمات أم أن المناهج نفسها مجرد مساحيق براقة تغطي تجاعيد وجه أتلفته تجاعيد الزمان؟

يذهب "روبرت شولز" في مؤلفه "السيمياء والتأويل" إلى أن السيمياء تضع نفسها في منطقة الحدود المضطربة بين الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، تجد فيها الأولى كزازة الصرامة العلمية، بينما ترى فيها الثانية تراخيا (1واضطرابها ذاك يفتحها على التأرجح بين التفسير والتأويل. ففي حين يقف التفسير عند حدود الدلالة البيِّنة للدوال، يجنح الثاني إلى التهويم بعيدا عن سلطة الدال والمدلول معا. الأمر الذي يربك القراءة السيميائية كثيرا، وينتهي بها في كثير من المقاربات إلى ما يشبه النقد التقليدي المُجَمَّل بالرسومات والبيانات فقط. ذلك أن:« الناقد بدخوله حقل "القراءة" سيقع تحت وطأة الممارسة التأويلية، أو تحت سحر الاستجابة الشخصية، إلى أن تضيع المنهجية السيميائية المتماسكة في شراك التفسير القديم.» (2). لأن إغواء التأرجح بين المعارف الإنسانية والاجتماعية، يفتح أمام القارئ منظومتين معرفيتين، يمكنه استغلالهما استغلالا واسعا في استنطاق دلالات الرموز والعلامات. ومن ثم يكون طابع القراءة السيميائية طابعا انتشاريا، سهميا، يذهب في كافة الاتجاهات سعيا وراء الاحتمالات التي يمكن أن يومئ إليها الدليل في إطار العمل الفني.غير أن عمل العناصر السيميائية في سياق النسق الإبداعي، لا يمكن أن تُفَسَّر بعيدا عن الإطار الذي يكتنفها أصالة. تلك هي الفكرة التي يشدِّد عليها "ماتيس" حين يقول:« كل عمل فني هو مجموعة إشارات مبتدعة أثناء التنفيذ وحسب حاجات المكان. ولا تملك هذه الإشارات أي تأثير خارج الإطار الذي ابتُدِعت فيه. وتتحدد الإشارة بالنسبة للحظة التي استعملها فيها، والغرض الذي تسهم فيه.» (3) واعتبار العمل الفني –مهما كان وسيطه- جملة من الإشارات المبتدعة، يوحي لنا بارتباط العلامة الموظفة في النسق بالقصد الكامن وراءها، وارتباط هذا القصد أولا بأطر إنسانية واجتماعية يمتح منها مقوماته الدلالية. وكأننا إزاء الإشارة، والعلامة، والرمز، نقف أمام الأغراض التي صاغتها على نحو خاص، لتأدية المعنى المنوط بها. فإذا عزلت هذه العناصر عن نسقها ونظامها المبتدَع، أضحت عاطلة من كل معنى.

وربما فسر لنا هذا الوضع الخاص نفور العلوم الاجتماعية من السيمياء، كونها تجنح في التعامل مع العلامة إلى التأويل الذي يقلل من شأن الترابطات الواضحة داخل النسق الإبداعي، ويهوِّم في مجال الاحتمال الناشئ عن ترابطات أخرى أقل صلة بالقصد الذي أنشئت العلامة من أجله. فإذا هي عادت تتملى حقيقة الإشارات خارج الإطار الفني، لم تجد لها من أوشاج تربطها، وكأنها استفرغت من الدلالة الحية التي كانت للقصد أولا. وهو خطر يتهدد القراءة حين تروغ بعيدا وراء المحتمل من الظلال التي قد يسوقها التأويل قسرا. مادام التأويل مجرد مهارة :« تتضمن إجراءات صامتة وحدسية» (4) تجد في فسحة النص الأدبي المجال الذي يستدعيها، والطاقة الكامنة التي تستحثها، فتنساق وراءها. وأغرب ما في التأويل أنه لا يقوم إلا على هدم تأويلات سابقة، وكأنه يحتل في وسطها مركزا يخوِّل له ردَّها، وأن يوسِّع من خلال الرد موقعه الجديد الخاص به، ريثما يكون هو بدوره عرضة لهدم لاحق. وهي علاقة قائمة على العنف في عرف "ميشال فوكو" (5) وجوهر التأويل -عنده- أن يتمثل في مجموعة من المعارف والتقنيات التي تسمح باستنطاق الرموز واكتشاف معانيها. والجمع المعاين في "المعارف" و"التقنيات" يحيل العملية التأويلية إلى ضرب من الفهم الشمولي الذي تقدمه المعارف، ولون من التحليل الدقيق الذي تسمح به التقنيات. وكأننا في العملية التأويلية إزاء نشاطين: نشاط الفهم والفقه، ونشاط البلاغة والقواعد. وهما الصعيدان اللذان يشتملان على حقيقة الأثر الأدبي المنجزصعيد يتصل بالخبرة والتجربة الذاتية التي تمتد بعيدا في أغوار الغياب والماضي السحيق، مُلامِسة الميثي البعيد، وصعيد يتصل بالحضور القائم في الصياغة عبر الوسيط الفني وفيه شكلا.تلك هي عين النتيجة التي ينتهي إليها "سعيد علوش" حين يحدد المراد من القراءة على أنها الفهم أولا، وأن الفهم إنتاج لمعنى، والفهم الأدبي:« أن نتساءل عن استراتيجية الإنجاز السيميائي الذي يسمح بالعبور من مادة الكتابة إلى الدلالة، التي تظهر في شكل فعل القراءة. وهو فعل يظهر سهلا في الظاهر، إلا أنه معقد في عمقه.» (6) ذلك أن العبور –الذي تحمله العبارة أصلا في نعتها- هو الانتقال من مظهر الحضور الشكلي، إلى سمك الغياب الغيبي الذي تنطمر فيه خصوصية الذات المبدعة، وهويتها، وانتمائها، وثقافتها. فالاستنجاد بالتنوع المعرفي وتعدده ضرورة تمليها طبيعة الفهم والفقه، كما أن الإنصات إلى حدس القراءة ضرورة تستوجبها طبيعة الألفة بالنفس الإنسانية. ومن ثم يكون إنتاج المعنى مشاطرة بين ذاتين. ذات النص/المبدِع، وذات القراءة/المتلقي.

من كتاب. حبيب مونسي. شعرية المشهد في الإبداع الأدبي. ديوان المطبوعات الجامعية. الجزائر.2010.

نشر في الموقع بتاريخ : الأحد 13 ربيع الأول 1433هـ الموافق لـ : 2012-02-05

التعليقات

خثير عيسى

 أسناذي الفاضل سلام الله عليك

ألا ترى أستاذي الكريم أنّ النص العربي لا يمكن الوصزل إلبه أو التقرّب منه إلا بأدواته الّتي وضعت له ـ فلا يصلح حال النص الأخير إلا بما صلح أوله ـ فكل محاولة لالباس النص العربي القديم هرطقات البنائين واللحامين والنجارين ، هي محاولة لوضع نعش وتابوت لهذا النص والدفع بقارئه لبكون حفار قبور (عفوا حفار نصوص )، علينا أن نسأل سؤال ويحق لي أن أسأل ؟ أين فعل القراءة ؟ أين النقد الذي ينتج القراءة؟

 حبيب مونسي

 شكرا لمرورك الأنيق أيها الفاضل..

الغرض من مثل هذه الأوراق هو أن تنتج عند القارئ مثل أسئلتك التي من خلالها نعيد ترتيب أوراقنا فيم يخص النص وكيفيات قراءته.. أنا أتعمد في أوراقي استنطاق الغير ليقولوا في مناهجهم أقوالهم الحقة، ثم لنسأل أنفسنا بعدها ما السبيل إلى تذوق النص تذوقا سليما.. ماذا يريد مني المؤلف.. هل يريد مني أن أملأ الصفحات بالجداول والرموز؟ هل يريد مني ان أشرِّح نصه فأقول له فيه كذا أفعالا مضارعة وكذا أسماء مرفوعة وكذا جملا موصولة؟؟ هل المطلوب مني أن أفتح النص على كل الهذيانات التي قد تمليها علي حالات الشذوذ والتطرف التي أعرفها في القراء قبل أن أعرفها في الكتاب؟..ماذا يريد مني النص أخير بعيدا عن صاحبه.. أليس النص رسالة؟ أليست الرسالة دالة حتما؟..شكرا على وقفتك.. وفقك الله 

مجذوب العيد

 الموضوع جد مترامي ودقيق في مراميه وحدوده ... كنا ولا زلنا نعتقد باللغة و حمولاتها عبر زمن حياتها كدلالات بينة لأصحاب هذه اللغة لا غير ... تشعر بغريب عن اللغة عندما تجده يخنق لفظة ما في سياق لا ينبغي لها لما عرفته هذه اللفظة من انزياحات لمعانيها عبر عصور وعصور وعبر حاجة الإنسان وعبر الوحي والسنة ... قد تسرد منظومة من الألفاظ في نص واحد كلها تقترب من بعضها في الترابط لكن ليس منطقيا أن نستخلص من ذلك النتيجة الحتمية من صرورة المعنى الكلي لأن النّص غالب في دلالاته وقد يعصف بكل تلك المجموعة من الألفاظ وينثرها في سياق آخر لا علاقة له بمعانيها المتقاربة أو ما يجمعها لذا قد يفعل التأويل فعله السلبي في الاعتماد على منطق المجموعات اللفظية ذات البنية الواحدة ويفرغ النّص من وجهته الحقيقية التي يذهب إليها حتما عند حذاق اللغة .... سيدي مونسي أنت تحفر في بئر اللفظة والمعنى وهذا رأس الأمر كله والذي أرى أن النظريات الحديثة حطّمته لصالح الاحتمالية اللعينة التي قتلت النص وحثّت الكاتب على تهويماته بحجة وجود ما يبررها من مدارس ..... شكرا مونسي  

حبيب مونسي

 أخي الشاعر مجدوب العيد.. إن مشكلتنا اليوم كما وصفت وأجدت.. إنها في انزلاقنا نحو التعدد والانفتاح اللامحدود للتأويل.. إنه البالوعة التي تزدرد طاقة اللغة وتفوت فرص التواصل الحق بين المبدع والمتلقي.. من أجلها قتلوا الرقيب المتمثل في الناقد الأدبي ومن أجلها كذلك قتلوا المبدع.. ليستفرد بالنص كل ناعق يلتقطه كما تلتقط الورقة الملقاة على قارعة الطريق.. كائنا لا أبا له ينافح عنه ولا حارسا يحرس كرامته.. إنه مجرد ورقة تهان هنا وهناك ويصفق الجميع ويمضون في رتل القراء المزعومين الذين يخيل لهم أنهم فهموا وأنهم أحسنوا الفهم.. إن الفوضى التي نشهدها اليوم في ساحات الإبداع هي وليدة ذلك الاهمال الشنيع لشرعية الأبوة في النصوص.. قتل الأب معناه فتح الباب للسفاح الأدبي.. الذي تروج له الحداثة اليوم.. قتل الأب معناه تفكيك أسرة الأدب.. قتل الأب معناه محو القيم التي كانت تلجأ إليها الكتابة في لحظات قلقها واضطرابها..

أنت على حق أخي المجدوب.. إن فتنة التأويل.. لا يوقفها إلا الحجْر

مجذوب العيد




  مونسي الأنيق كنت ُ أتحدث مع أحدهم وكان يثني ويعيد على درويش رحمة الله عليه ويؤكّد شاعريته المتفرّدة ... كنت ُ أسمع وأحاول تفهّم صاحبي وبعد قليل تلوت ُ عليه أبياتا للمتنبي فجأة فسكت ... قلت ُ هات أربع أسطر مما تحفظ لدرويش الآن .... فاعتذر على نسيانه ووعدني بفعل ذلك في مقابلة أخرى ... وحفظ ما شاء ثم ّ أتاني ليتلو َ ذلك أمامي قلت بشرط أن تشرح لي مفادها في سياق النّص ككل ّ فغضب مني وانسحب كأي جيش منهزم .... المعضلة يا مونسي هي في الببغاوات التي تردّد ما لا تفهم .... وفي إعلام يبحث عن تحطيم القيم داخل الأنفس .... تخيّل منذ الأربعينات من القرن الفارط والأمة لا تفهم ما يقول هؤلاء الشعراء ههههههههههههه .... فظيع والله .... ( غفر الله لي أنا أيضا

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،