1- تقديم:
يشهد كثير من الروائيين والنقاد، أن الرواية
ضرب من البناء والتشييد، وأن معنى "البناء" ينصرف أساسا إلى التخطيط،
والهندسة، والإعداد، واستجلاب المواد التي يقوم عليها التشييد، وأن
"التشييد" هو المرحلة التالية التي تجتهد في استعمال المواد المجمعة وفق
الهندسة المتفق عليها. غير أن "التشييد" يزيد على ذلك كله معاني المتانة
والجمال.. فحين نقول شيد فلان منزلا، فإننا لا نتحدث عن المواد المستعملة، وإنما
نشير إلى المتانة والجمال في استحكامهما مع بعض. ولن يكون المبنى رائقا إلا إذا
تميز بميزة "التشييد"، ولذلك لحق هذا الاصطلاح بالحضارات فقيل تشييد
الحضارة، والمجد، وغيرها من المعاني التي يراد الإشارة فيها إلى المتانة والجمال
الذين يُديمان بقاءها على الرغم من عاديات الدهر، والأزمنة، والأحداث.
والروائي "بنَّاءٌ" في حرفته، فنان
في تشييده.. فإذا كانت الحرفية تتطلب منه أن يكون الحرفي الواعي المدرك لطبيعة
المواد التي تصلح لحمل عالمه المتخيل، فإن الفنان فيه ينصرف إلى النسيج السردي
الذي يؤثث هذا العالم وينفخ فيه أسباب الحياة، ويمنحه القدرة على مزاحمة الواقع
المعطى بواقعه الخاص، الذي سيكون أكثر جاذبية ونفعا من الواقع الغلف الذي تقدمه
الحياة. ومن ثم كانت الرواية في الطرف المناقض للشعر أولا، غير أنها تقف على حدود
الفنون الأخرى، ترشح منها أساليبها المختلفة لإغناء قدراتها على التلون، والتجدد،
والتأثير.
فإذا كان الشعر تكثيفٌ وتقطيرٌ للمشاعر، ونقل
للتجربة عن طريق لغة مركزة تخضع لضرورات الفن الشعري وزنا وإيقاعا، فإن الرواية
بسطٌ واستفاضةٌ في العرض، تتيح للمواقف المختلفة نقل جزئياتها الدقيقة في لغة
الوصف، أو الحوار، أو التأمل.. ومن هنا كانت كتابة الرواية مغريةٌ بسهولتها، غير
أنها مربكةٌ بما يعتريها من حالات يتوجب فيها عليها أن تكون أكثر من الشعر تكثيفا،
وأشد منه تقطيرا للمشاعر، لألا تنساق وراء الثرثرة التي ستصيبها بالترهل والتضخم
المرضي.
واستنادا إلى هذا التمييز، سنحاول أن نقف مع
رواية "سييرا دي مويرتي" للروائي الشاب "عيساوي عبد الوهاب"
نُسائلها من زوايا "البناء" و"التشييد".. مبتعدين كليا عن
المقولات النقدية التي تحاول تأطير النقد الروائي الغربي أو العربي. تاركين للنص
أن يكشف لنا عن الأدوار المتبادلة بين البناء والتشييد، في مهمتهما لإنجاز العمل
الروائي الذي بين أيدينا.
2- الافتتاحية:
يدرك كثير من الروائيين أن البداية، أو
المفتتح الروائي، من الخطوات المهمة في الكتابة الروائية، وأن هذه اللحظة القرائية
بين يدي القارئ هي التي تقرر مصير القراءة، فتجعل القارئ يقبل على النص أو يغادره،
وهو يحمل في نفسه موقفا قد تشكل في لحظة اللقاء باللغة، أو الفكرة، أو المشهد..
وهي لحظة يراهن عليها الروائي كثيرا، لذلك ترى كثير منهم يشقى في اختيار المفتتح،
يثبته ويمحوه مرارا، أو يعرض نماذج منه على من يثق في صفاء حاستهم الأدبية،
ودربتهم في قراءة الرواية.
غير أن هذه المراهنة تدفع بكثير من الروائيين
إلى أن يتوسلوا عتابات، ونصوصا يفردونها في صفحات.. بعضها شعري، وبعضها الآخر
سردي، ينقلونها عمن يحسبون أنهم سيمهدون للقارئ شهية الإقبال على نصهم. غير أن هذا
الاختيار - كما يعلم كثير من النقاد- محفوف بالمخاطر إذا يسجل منذ البدء موقفا
فلسفيا، أو أيديولوجيا، أو دينيا.. يكون صادا صادما لنوع من القراء، أو يزرع وهما
لدى القارئ بأن النص الروائي سيتجه منذ البدء هذه الوجهة دون غيرها من الوجهات،
وأنه سيحد من التأويل والفهم، لأنه تأطير من نوع خاص يريد للقراءة أن تسير في ذلك
المسلك دون غيره من المسالك. وقد وجدنا كثيرا من هذه العتبات لا مبرر لها أساسا،
وأنها تشوش على النص الجيد أيما تشويش، وأنها في أسوء الأحوال تبقي الروائي الجاد
المجتهد تحت طائلها صاحب النص المقبوس، وكأنه أقبل منه درجة أو موهبة.
هذه نقطة يجب على النقد الروائي بحثها وتجلية
خطرها على الرواية، قراءة وتوجيها. لأننا نشهد عشرات من النصوص الجديدة تتوسل هذا
النمط من الافتتاح، وكأن أصحابها يعتقدون أن هذا الفعل سيرفع من شأن نصهم إلى مصاف
المقبوسات التي نال أصحابها بعض الشهرة.. وهذا الوهم لا يزول إلا إذا أدركنا أن
الإقبال على القراءة، مثل الإقبال على طبق الطعام الذي قد يشوش لذته شيء معترض لا
يجد الطاعم لحضوره على طرف الطبق من ضرورة أو معنى.
أما الذين يلجون نصوصهم من غير عتبات،
فأمامهم مهمة البحث في الافتتاحية، بحثا يجعلها في عرضها، ولغتها، ومادتها،
وتشييدها، طُعْما يعلق بذائقة القارئ ليندفع وراء الأسطر والصفحات بحثا عن
التعالقات التي تنتج وراءها في نسيج السرد المتشابك. ومن السهل على الناقد
والروائي مراجعة آلاف من الافتتاحيات التي زينت فواتح الروايات، التي شهد لها
القراء بالتميز والجودة، لمعرفة كيف صنع أصحابها ذلك الطُعم الجميل الذي يفتح في
المخيلة أسباب الاستزادة والقدرة على المضي وراء الصفحات، والرواية لا تزال في
بدايتها لم تكشف بعدُ عن عالمها الرحيب المتشابك..
إنه الأمر الذي جعل الرواية، وهي تقف على
تخوم الفنون الأخرى، تمد عينها إلى إمكانات الاستثمار والتوظيف التي تتيح لها
تكوين هذا الطُعم الذي سيعلق سريعا بمخيلة القارئ. كان "ديل كارنجي"
يقول وهو يحدث أحدهم في عالم التسويق عن الطُعم الذي يجذب الزبون إلى السلعة، يضرب
مثلا قائلا: " إن صائد السمك لا يضع الطعم الذي تحبه هو.. إنما يضع الطعم
الذي يحبه السمك " وفي التمثيل حقيتان جوهريتان: الأولى: أن الروائي لا يكتب
الرواية لنفسه، وإنما يكتبها لغيره.. وهذا أمر قد يعجب منه الروائيون اليوم حينما
يسمعونه بهذه الصورة العارية.. فالغير هنا هم جمهور القراء على اختلاف مستوياتهم
وتوجهاتهم، وكل واحد منهم سيقرأ النص انطلاقا من هذه الخلفيات التي يقف عليها، وهي
التي ستحدد موقفه من النص ابتداء. لذلك كان على الروائي أن يكون في خبرة المُسوِّق
الذي يوكل إلى المصنع بيع سلعته، فيبادر أولا إلى معرفة جمهور المستهلكين،
وطبقاتهم، ومستوياتهم المعيشية، ليوضب نصوص عروضه على أمزجتهم، ومقاساتهم
الاجتماعية والثقافية.. وهي خبرة ضرورية للروائي الذي يتوجه في محيطه الثقافي إلى
شريحة واحدة أو إلى شرائح مختلفة من القراء.. فالروائي الذي يطمع أن تغطي نصوصه
أكبر عدد من الشرائح، يكون أدرى بواقعها وانتظاراتها، وما يؤثث مخيالها الثقافي،
وما يؤسس معيارها الجمالي. فيقدم لها ما تنتظره منه ابتداء حتى وإن كان في نيته أن
يحدث فيها تغييرا، وأن يكون لنصوصه فيها نقدا وإصلاحا.. أما من اختار أن يكتب
لشريحة ضيقة يقصدها بنصوصه، فأمره مختلف جدا، لأن وعيه بهذه الطبقة يجب أن يكون
وعيا حادا عميقا، كيلا يُرفَض بالجملة إن هم تأولوا وجهته أو نيته.. كالذين كتبوا
في إطار إيديولوجيات ضيقة، وسمحوا لأنفسهم بالقليل أو الكثير من الميل، يمينا أو
يسارا، فكانت ردود أفعال الطبقة قاسية حادة تصل إلى التجريم والتحريم.
أما الحقيقة الثانية: فهي إدراك حقيقة
انتظارات الجمهور.. وهذا الجزء لا يقدمه له إلا النقد الروائي الجاد، الذي يترصد
ردود أفعال القراء من خلال التعليقات والكتابات التي تسجل هنا وهناك، والتي تترك
انطباعا نوعيا عن النص الجديد.. فيستعين بها الروائي في تحسس وجهات القراء
واتجاهات القراءة.
قد يقول أحدهم أن هذا الرصد سيفسد على
الروائي حريته في التعبير والإبداع.. أبدا.. فإذا كان للروائي رسالة ومشروعا يريد
إنجازهما في زمنه والأزمنة التي تليه، فهو مثل صائد السمك حينما يقف أمام النهر،
وقد عرف أنواع السمك، ومواسمه، وطبيعة تغذيته وتكاثره.. وهو أمام مجتمعه الثقافي
يعرف فيه ذلك كله، ويريد أن يدخل عليه من هذا الباب دون غيره ليبث وراءه أفكاره
وتصوراته من خلال عالم يبنيه بمواد يستجلبها من ذلك الواقع، وأحاسيس يمتصها من تلك
الشرائح.
3- مع العتبة:
بدأت رولية "سييرا دي مويرتي" هذه
البداية التي لم تتكئ على عتبات نصية خارجية، وإنما استندت إلى عنوان داخلي على
هيئة عنوان الفصل: "بين سييرا وعين الأسرار" واكتفت من العنوان الخارجي
بكلمة "سييرا" التي أضحت معلومة لدى القارئ بأنها "دي مويرتي"
وعطف عليها "عين الأسرار" التي تفتح في مخيال القارئ الجزائري - على
الأقل- مشابهة بينها وبين مدينة داخلية قريبة من الجلفة يقال لها "عين
وسارة". ولسنا ندري هل هناك قرب بين كلمة "الأسرار" وكلمة
"وسارة" التي ذهب بعضهم إلى أنها سميت بذلك الاسم لأنها كانت عينا
يشرب من الأسرى.. ومهما يكن من أمر تسميتها فإن وجود حرف "السين" بجرسه
الحاد في الكلمتين يوحي بالشدة، والحدة، والقطع. وكأن ما يتصل بالمكان قريب من هذه
المعاني التي تحاول هذه العتبة الداخلية أن تحملها للنص وراءها.
وعلى الرغم من أن المكان الأول "سييرا
مويرتي" مكان متخيل، أنشأه الروائي من محمولات الجبال والموت، على خلفية
المقاومة الشيوعية للفاشية الفرنكية في إسبانيا، إلا أن "سييرا دي
مويرتي" موجودة في كل البلدان التي عرفت مقاومة الاستعمار والديكتاتوريات.
فالتسمية منتشرة في أمريكا الجنوبية وبشكل ملفت في الثقافة الشعبية، وإن كانت
غائبة حرفا من الخرائط الرسمية. وهي هنا في نص الرواية تمثل "الغائب"
مكانا و"الحاضر" المحفور في الذات المسجونة عبر النص كله. ولا يمكن
قراءة مكان "عين الأسرار" وجغرافيته وطبيعته إلا من خلال استحضار
"سييرا" في وجدان المساجين الإسبان الذي حملوا معهم "المكان"
عبر تحولاتهم بين المعتقلات الفرنسية تحت حكومة فيشي، وخيانتها للمناضلين
الشيوعيين قبيل الحرب العالمية الثانية.
وليس في مفتتح الرواية ابتداء أي دلالة على
الذي نقول الآن، غير ما توحي به الكلمين المتجاورتين، وهما تحملان معنى الجبال،
والموت، والأسرار، والعين.. وفي كل واحدة من الكلمات حقل دلالي يتسع ليتقاطع مع
حقل الكلمة الأخرى في دوائر تنداح مبتعدة عن المركز.. الجبال بقساوتها وشدتها،
وحضور الموت الذي يتخلل شعابها ووديانها في المواسم كلها حرا وبردا، وما يحمله
قاطنوها من السكان، والثوار، والأشرار، وعابري السبيل من أسرار، وما يترصدهم من
عيون.. كل ذلك مطمور في هذه التشكيلة الأولية من الكلمات التي صاغت هذه العتبة في
نظام يحتم علينا الانتقال من "سييرا" أولا إلى "عين الأسرار"
ثانيا. وقد سارعنا في موسوعاتنا نبحث عن "سييرا دي مويرتي" في إسبانيا،
ثم في غيرها من الدول الأمريكية الجنوبية.. ولكن هيهات.. ثم عدنا إلى "عين
الأسرار" لنبحث عنها في الجزائر فلم نصادف إلا "عين وسارة" بالقرب
من الجلفة.
ربما يريد القارئ التثبت أولا من المكان،
لينطلق من قاعدة صلبة معلومة تساعده على تجلية حقيقة الفضاء الذي ستدور فيه أحداث
الرواية، وتعينه المعرفة الخارجية على تأثيثه بما يمكن أن يكون مُعينا على تمثله
تمثلا صحيحا.. وأول اعتراض ينشأ من تجاور الكلمتين.. أن لفظ سييرا لا يطلق في
الجغرافيا إلا على السلسلة المتوالية من الجبال المتصلة مع بعضها بعض، على امتداد
معتبر وعلو محسوب. وتضاريس معروفة بمستواياتها المناخية. غير أن منطقة "عين
وسارة" منطقة سهبية منبسطة ممتدة الأفق، تترائى فيها سلسلة جبلية متواضعة
الارتفاع والحجم.. وكأن الانتقال من الفضاء الجبلي الحاد الكثيف الذي تغيب فيه
الرؤية خلف الأدغال، والأحراش، والغابات، إلى فضاء ممتد شاسع، ليس به إلا نبات
الحلفاء، وقليل من الشجر والماء، سيحدث في الذوات المتصلة به حديثا، تحولا وجوديا
لا يمكن تفسيره بسهولة دون الاستناد إلى محمولات ثقافية، وأخرى فكرية ودينية. وأنه
سيترك فيها حتما من الآثار التي تجعلها تُراجع واقعها القديم، مراجعة يؤثر فيها
الوقت المتطاول والمكان الممتد، والجو القاسي شتاء وصيفا، دون نفاق أو مواربة.
4- مع المفتتح:
أدرك الروائي "عيساوي عبد الوهاب"
منذ البدء أن عليه تحمل عبء الرهان الذي ربط به نصه، حينما جعل على رأسه هذه
العتبة الغريبة، أنه يتوجب على البداية أن تكون في المستوى المطلوب منها لولوج
النص مباشرة من غير مقدمات.. ومن المخاطرة أن ندفع بالقارئ من أول سطر في خضم
الأحداث من غير تهئية.. وهي مخاطرة محسوبة مدروسة، لأن الروائي يعوِّل عليها في
كشف التعالق الحاصل بين مواد العتبة وما يجري على أرض عالمها الافتراضي.. وهذه
التقنية أثيرة في الإخراج السينمائي الجديد، الذي يريد أن يدفع بالمشاهد إلى قلب
الأحداث من غير مقدمات، ليقف بنفسه على العناصر المشكلة للمشاهد يتعرف عليها
تدريجيا، ويتساءل عن كنهها، ومهمتها في الأدوار التالية. وقد أخذت هذه
التقنية حظها الأوفر من الصناعة في الأفلام السياسية، والبوليسية، التي تحاول الزج
بالمشاهد في آتون الحدث، عاريا من كل معرفة، لا يدري هل هو يتعامل مع أشخاص طيبين
أم شريرين.. إنه يشاهد الأفعال ابتداء، وهي أفعال يمكن حملها على الخير والشر
بالمقدار نفسه، غير أن توالي الأحداث سيتيح للمشاهد – تباعا- الاستقرار على رأي،
يشكله لنفسه في كل خطوة من خطوات السرد.
هكذا صنع "عبد الوهاب" حينما جعلنا
نقف على ثورة رجل لا نعرف عنه شيئا اسمه "بابلو" يرفع صوته صارخا وهو
يحدق في سماء مثقلة بالغيوم:
- "ثلاث سنوات قد مرت يا مانويل، أترى؟
.. إنها ثلاث سنوات قد مضت على سقوط برشلونة، ونحن هنا ما زلنا نجرف الثلج عن سكة
الحديد بجلفا.." (ص:3)
في هذا المفتتح القصير زج بنا الروائي في
عالمه السردي، ونثر بين أيدينا معلومات شحيحة، مربكة، محيرة.. توقد في مخيلتنا
مواقد الحيرة والتساؤل.. من هو "بابلو"؟ وماذا يصنع بجلفا من ثلاث
سنوات؟ وهل يشكل الثلج بجلفا عائقا حقيقيا للسكة الحديدية..؟ إنها منطقة سهبية
قلما يسقط فيها الثلج، وإن سقط فلا يشكل عائقا كبيرا أمام قاطرات السكك الحديدية!
ومتى سقطت برشلونة؟ وفي أيدي من سقطت هذه المدينة الإسبانبة؟ وما علاقتها بالجلفا؟
ثم يأتي رد "مانويل":
- "لا فرق،ألم تجرفها آخر مرة في
"سييرا دي مويرتي"؟" (ص:3)
فهل كان حال "بابلو" في
"سييرا دي مورتي" مشابها لحاله في الجلفة؟ وهل اقتصرت مهمته على جرف
الثلوج هنا وهناك؟ حتى صار أمر المكان غير مهم بالنسبة لمانويل؟ أم أن الزمن حفر
في مشاعر مانويل الاستسلام الذي غيب من مشاعره الفرق بين "سييرا دي
مورتي" و"عين الأسرار"؟ ثلاث سنوات في عمل واحد لا ينفك يتكرر،
خليق به أن يحفر في النفس أخاديد السأم والملل، وأن يسقيها كأس اللامبالاة. وحينما
تغيب الأمور الكبيرة عن حياة الناس، يلوذون بسفساف الأمور.. يقول الروائي معلقا
على ذلك الوضع الغريب: "ولكن اليأس وهو يتسرب إلى القلوب ينخرها، يجعل الرجال
يتعلقون بأشياء بسيطة، مثل الأطفال يخدعون بسهولة، ويصدقون الوعود التي يتفوه بها
أي شخص". (ص: 119)
وربما كان هذا الإحساس الذي لمسه
"بابلو" في نبرة مخاطبه سببا في رمي المجرفة أرضا، وأن ينظر إليه بغضب،
قائلا:
- اللعنة على جميع الشيوعيين أمثالك، الدفاع
عن إسبانيا بالنسبة لك كالحرص على جيب "كابوش"".
ثم يدفع الروائي ثانية بقدر يسير محير من
العلومات إلى القارئ، تستفزه.. لأنها ليست من المعلومات اليومية العادية التي
يثرثر بها الناس عادة، وإنما هي محملة بخلفياتها الفكرية التي تجعل القارئ يتساءل
مرة أخرى: ماذا يفعل هذا الشيوعي في "عين الأسرار" وما علاقته بسقوط
برشلونة والدفاع عن إسبانيا كلها؟
غير أن كلمة "الشيوعيين" تفتح في
معرفة القارئ المثقف كوة تاريخية لفترة زمنية عاشتها إسبانبا في مطلع القرن الماضي
حينما هب الشيوعيون، تحت تأثير أحزابهم في الداخل والخارج لصد الفاشية الفرانكية
المدعومة من طرف الألمان والإيطاليين، وأن هزيمتهم في أول الأمر كانت هزيمة نكراء
فشردوا، ونكل بهم، وقتلوا تقتيلا.. واكتظت بهم المعتقلات في إسبانيا، وفي غيرها من
المحتشدات التي عملت حكومة فيشي العميلة للألمان على تسييجها في عراء الصحراء
الجزائرية القاسي.. هكذا بدأنا نفهم سر وجود "بابلو"
و"مانويل" في "عين الأسرار" وسر العمل الرتيب الذي يتكرر من
"ثلاث سنوات".
إنهم معتقلون سياسيون..
إن حضور "سييرا دي مويرتي" المحفور
في ذواتهم لا يفسره إلا "المعتقل". وكأنهم يرفضون التخلي عنه،
لأنه يحمل المشروع الذي من أجله خرجوا على الفاشية، والذي من أجله تحملوا النفي
والإذلال. ف "سييرا" لم تعد مكانا تطأه القدم في عالمهم الجديد، وإنما
صارت "الحلم" الذي تُقاس عليه حقائق الأشياء التي تتعلق بهم اليوم على
تفاهتها ودنو شأنها.. إنها المعيار.. لذلك قال "مانويل" من قبل
"لافرق" ولذلك غضب "بابلو" فالفرق كبير بينهما.. فرق النضال
الحر، والبطولة الخارقة، والأخوة الصادقة، وبين الاعتقال، والذل، والإهانة، التي
استطاعت أن تتسلل إلى العواطف فتُميتها وإلى الكرامة فتئدها.. ويسأل
"مانويل" صديقه اليهودي البولوني "كورسكي" قائلا:
- "أيهما أكثر قسوة، أن تموت في حرب
خاسرة، أم أن تحيا في منفى بعيد؟".. فيرد اليهودي قائلا: " لا أدري،
ولكن ما أعرفه أن بعض الفجائع تصنع الفكاهة في عالم ينحدر إلى الجنون!". (ص:
84)
إن غضب "بابلو" مشروع هنا، لأنه لا
يمكن مقارنة "سييرا دي مويرتي" ب "عين الأسرار"! فهناك كان
"بابلو" يصنع مصيره بيديه، أما هنا فالمصير يصنعه سجان من جنسية أخرى،
ومن أيديولوجية أخرى.. والموت هناك حار، وحاد، وسريع،أما الموت هنا فبطيء، ومنافق،
وكذاب.. يتلذذ في إطالة العذاب، وتمديد الأعمار..: "أما العجوز الذي كان يكح
طوال الليل فقد أعفي من العمل، منذ اليوم الأول الذي وصل فيه إلى المعتقل، واعتقد
الجميع أنه لن يلبث ويموت، ولكنه تحمل كل الأيام الباردة التي وصلنا فيها، ثم دخل
الصيف، وقلنا حتما سيموت لن يتحمل الحر، وفي كل أزمة يفاجئنا بتحمله.. ذات يوم قال
لي «بابلو» مازحا وهو يحمل مخدة في يده: اللعنة على هذا العجوز إنه يستفزني بتمسكه
بالحياة.." (ص: 22)
وحينما يدرك "مانويل" فداحة الخطب
في إبقاء "سييرا دي مويرتي" حاضرة في الوجدان، وأثرها السيء على المعتقلين
الإسبان، يتوسل إلى صديقه "بابلو" قائلا :
- لسنا في حرب يا "بابلو""
لماذا لا تدع سييرا تذهب إلى حالها؟
فيجيب "بابلو" بعصبية وحيرة قائلا:
- كيف أدع سييرا؟ كيف لك أن تقول هذا؟ وأنت
الذي أغرقتنا بالأشعار عنها في "فارني" وحتى في الجبهة، أم أنك لا
تتذكر؟" (ص:47)
لم تعد "سييرا دي مويرتي" مكانا
يقع هناك، وإنما صارت نصا يُتلى، وأشعارا تُنشد، وثقافة يحملها كل مناضل على قدر
فهمه لمعنى النضال الذي من أجله حمل السلاح. لقد غدت قدرا لكل واحد منهم، يحمله
كما تحمل خشبة الصلب على الظهر. فسييرا: "آخر نبض في قلوبنا داخل الأرض
الإسبانية" (ص: 37). وهم الآن في الجنوب حيث هناك الصحراء التي يقول عنها
"كورسكي" اليهودي:" الصحراء حيث الله قريب جدا من البشر".(ص:
11)
إن تأرجح النص بين مكانين: مكان تحول من خلال
النفي، والمعتقل، والمصير الغامض، إلى نبض ينزُّ بين الضلوع، مع المشاعر والأحاسيس.
ومكان ممتد ليس فيه إلا مدينة مسوَّرة، ومقبرة عارية، تناثرت فيها القبور من غير
علامات ولا تمييز.. فضاء، على اتساعه، يشعرك بالضيق وقد التقت فيه أجناس مختلفة،
وديانات مختلفة. يقول "مانويل" رادا على سؤال صديقه اليهودي، بعد جولة
سمح له بها في مدينة الجلفة:
- كيف قضيت رحلتك اليوم؟
- غريبة، ومليئة بالمتناقضات.. ثلاثة أجناس،
وديانات تحتل مكانا صغيرا.. وهدوء مريب.." (ص: 119)
وكأن التجاور قضاء آخر يضع كل واحد في امتحان
خاص ليتدبر موقفه من الحياة والآخرين. بل يجعل "المعتقل" على الرغم من
قسوته، ورتابته، وتباطئه، لحظة مراجعة يخلو فيها كل واحد إلى قناعاته التي أخرجته
من دياره للحرب والسلم. إذا لا يعقل أن تقف الأسلاك الشائكة في هذا العراء الموحش،
والامتداد الأغبر، لتحد من جموح المخيلة، وهي تذرع الحاضر والماضي، وتتشوف إلى
المستقبل.. إنها ستفقد حاسة الاتجاهات كلها، وتغيب عنها حدود الشر والخير، والصحيح
والخاطئ. عراء يصفه "مانويل" في لقائه الأول به قائلا: "
امتدت مساحة منبسطة من الأرض، سُيِّجت بالأسلاك الشائكة.. فزعت وأنا أرى العقوبة
وهي تتجسد.. ألتفت إلى "بابلو" الذي كان فاغر الفم، مشدوها يراقب المدى
المفتوح أمامه.. الفراغ هو كل شيء في ذلك المكان المسيج بالأسلاك الشائكة.. وتمتم
"كورسكي": " أتراها "سدوم" بعد ما نزل بها من
عقاب؟"(ص: 33).
فلم يعد للحرية في هذا الفراغ من معنى
كان لها قبل الاعتقال..: بل "أصبحت الحرية وحدها غير كافية، ربما كبداية،
ولكنها غير كافية.. " (ص: 40)
لقد استطاع الروائي "عبد الوهاب"
إقامة ضرب من التنافذ بين العالمين من خلال الأفكار والمشاعر، ولم تعد للأحداث من
قيمة يرويها، ولا للحوار من جدوى.. بل اكتفى بالشيء اليسير الذي يتيح للقارئ أن
يدور مع الفقرات، وهي تحاول لملمة شمل الأفكار والمعاني في نسق مقبول داخل ذهن
شوشه الاعتقال، ولعبت به رياح الإذلال والامتهان، فلم يعد يقوى على الاسترسال في
خطية واضحة.. بل يقيم صحوه على ضرب من العالق بين الأشياء التافهة، والمشاعر
الدفينة، التي تتراءى له بين الفينة والأخرى. تلك هي مأساة الداخل في مواجه
الفراغ، والواقع وفي مواجهة الأفكار التي لا تنفك تعود أدراجها إلى الوراء إلى
"سييرا دي مورتي".
5- مع الفقرات:
عمد الروائي إلى طريقة لا أجد لها تفسيرا
واضحا في البناء، غير أنها حاضرة في النص حضورا يجب أن تكون له دلالته في المبنى
والمعنى معا، أو في ما أسميناه بالبناء والتشييد. فقد جعل لروايته عتبة أولى بعد
العنوان الخارجي، وأسماها: "بين سييرا وعين الأسرار" ووزع المادة فيها
على عشرة مفاصل مرقمة من 1 إلى 10. ثم أضاف عتبة ثانية على رأس الفقرة 11 وأسماها:
"بلد المنفى" وبلغ بمفاصلها إلى العدد 16. وواضح من خلال الأرقام، أن
العتبة الأولى استأثرت بالشطر الأكبر من المفاصل، أما العتبة الثانية فكان حظها
منها أقل. غير أن القسمين متعادلين من حيث عدد الصفحات بمعدل (88 صفحة) لكل قسم.
حينها أدركنا أن التقسيم ربما كان مقصودا في مرحلة تالية من الكتابة، ولم يكن
مقررا من قبل عند الهندسة الأولية للنص.
ليس مهما من الناحية الدلالية أن نتوقف كثيرا
عند هذا المعطى الخارجي في الرواية، ولكن المهم جدا بالنسبة للقارئ، هو الكيفية
التي افتتحت بها هذه المفاصل في عمومها، وكذلك بعض الفقرات المحورية داخل المفصل
الواحد. لأننا ساعتها سنقف على لغة السرد، وهي تحاول أن تجر القارئ وراءها ليلج
المفصل بكثير أو قليل من الدهشة، أو الحيرة، أو الفضول.. وعدم الاعتناء بهذه
الشروط القرائية قد يُفوِّت على الروائي شطرا كبيرا من الإثارة، ويجعل الملل يتسرب
إلى الذائقة، لأنها تحتاج كل حين إلى قدر من الاستفزاز والإثارة، يُمَكِّن القارئ
من تجديد طاقته لمتابعة الأحداث والدوران معها في رحى السرد ودواليبها المتعشقة.
تتحرك آلة السرد فيما يشبه البطء المدبر
المقصود، ليوهم القارئ أن الذاكرة السردية مشحونة بقدر كبير من ضجيج الحياة الذي
يغطي بعضه بعضه، ويشيع كثيرا من الفوضى والغموض في محتوياتها. وأن الارهاق والتعب،
وعدم الجدوى، قد أثر فيها أيما تأثير.. يقول "مانويل" في مطلع فقرة (ص:
6): "هل كانت الثالثة أم الرابعة؟ لم أعد أذكر جيدا كل التفاصيل، بدأت
تغيب وتتقلص الذاكرة.." فبهذه العبارة يسمح الراوي لنفسه أن يتخير من
الأحداث ما يريده هو، لا ما تفرضه عليه الحكاية، وأنه سيسرد ما يراه مناسبا فقط،
وخادما لمراده فيما بعد.. لذلك لم نعرف عن الراوي "مانويل" شيئا كثيرا
لا في البداية ولا في النهاية.. لا سنه، ولا شكله، ولا مستواه .. كل ما عرفناه عنه
أنه:
- شيوعي (ص:3)
- وأن اسمه "مانويل" (ص: 14)
- وأنه يحمل نظارة طبية (ص: 30)
- وأنه كان مدرسا (ص:94)
- وأنه متزوج ويحسن الموسيقى (ص:100)
- وأن سبب اعتقاله هو مشاركته في مؤتمر شيوعي
(ص: 178)
لأن الراوي لم يلتفت إلى نفسه كثيرا، ولم يرو
همومه وأحزانه، التي تتصل به جسدا، وإنما كانت جولاته في فكره وفي أحوال أصدقائه
من المعتقلين. تلك الجولات التي فرضت عليه أن يسرد المشاعر بعدما يمهد لها بقليل
من الأحداث.. أو الحوارات..
وحينما يطل الراوي على مقبرة الجلفا
(المجحودة) يفتتح فقرته بهذا التأمل المتفلسف قائلا: "نكهة الحياة تختلف من
مكان إلى آخر. وأعتقد أن نكهة الموت أيضا. وأن للمكان وجهة نظر فيها. في الجبهة
فكرنا بالموت ولكن بشجاعة، ليس مثل هذه المرة في جلفا. الموت عنى أشياء أخرى أكثر
رهبة.. لا أدري بالضبط كيف كان ذلك. يفر بسرعة بينما استطعت أن أقتنص الشعور الذي
يدهمني أحيانا وأنا متمدد داخل الخندق، وتضاء السماء فوق رأسي بالرصاص، ثم لا تلبث
أن تطفأ الأنوار من الجهتين، ونسحب موتانا، بكل بساطة نخرجهم من الخنادق، ندفنهم
دون شواهد واضحة، ثم نجتمع في الخيام ندخن سجائرنا ونشرب، نلعب الورق لأيام بعدها
دون أن يحدث شيء.. ربما كان ذلك منطق الحرب. ولكني اليوم أراه محض
جنون".(ص:7/8)
وكأن المكان هو الذي يملي المفتتح في الفقرات
ويختار لغته.. ويحدد مادة التفكير فيه.. خندق هناك في "سييرا دي مورتي"
مرهون بالحرب يقدم صورة للموت البطولي، وفضاء مقبرة ساكنة هنا في "عين
الأسرار" يكشف تفاهة أفعال الحرب والمحاربين ويلقي بها إلى حالات الجنون..
ويفتتح المفصل رقم 2 قائلا: إنها طريق
"ريفيسالت"... همس أحد المعتقلين الفرنسيين، ولم أعرف ما عنت لي بالضبط
الكلمة، إذ كانت المرة الأولى التي أسير فيها عبر ذلك الطريق، الذي شقته الشاحنة
في البداية ببطء.." (ص:10). ويتكرر الاسم في مواطن من الرواية دون أن نجد له
فيها تفسيرا. غير أن البحث عنه في مراجع خارجية يكشف عن معتقل رهيب في فرنسا
استعملته حكومة "فيشي" لتجميع الجمهوريين، والشيوعيين، واليهود، والغجر
)[1]( . ولم يجد
"مانويل" من تفسير لهذه التسمية العجيبة التي أطلقها الفرنسي على الطريق
الترابي الخشن المؤدي إلى معتقل الجلفا غير ترديد ما سمعه من بعضهم وهو يقول:
"أنتم الشيوعيون تخليتم عن الله فتخلى عنكم.." (ص: 12). ولذلك حشروا في غيطو
واحد مع اليهود.
أما القسم الثاني من الرواية، وتحت العتبة
المسماة "بلد المنفى" افتتح الروائي نصه قائلا: "مثل المسيح نزلت
من على الجلجلة، ورميت بالصليب بعيدا بعد أن حطمته..." (ص:89). حينها يساورك
شعور بأنك أمام حدث كبير يريد الروائي أن يؤسس عليه القسم الثاني من نصه.. فالراوي
الذي كان مصلوبا إلى خشبة المعتقل ليله ونهاره، حره وبرده، يتحرر من الصلب ويكسر
الصليب، ويخطو خطواته الأولى نحو الحرية.. ثم نقرأ بعدها بأسطر قليلة
قوله:"يسمح للسيد "مانويل" أن يتجول في المدينة على مسؤولية مدير
المعتقل، ويعامل مثل أي مواطن في المدينة".(ص:89). فندرك أنه قد نال
هذه الحظوة حينما صار مدرسا لابن مدير المعتقل. فيجعل من مجرد التجوال في المدينة
حدثا يضارع نزول المسيح عن الصليب حيا، متحررا من جبروت اليهود وسلطة الرومان.
ويتحول الخروج من المعتقل إلى نزهة مشروطة
ليعود بعدها إليه، إلى حدث يقلب الموازين، ويغير الرؤية إلى الواقع والأشياء..
وكأن التحول الذي حدث منذ حين بسبب ورقة يحملها بجيبه، وتصريح أمضاه مدير السجن،
تحولٌ يغوص عميقا في الذات المرهقة التي أشرفت على الاستسلام التام، متخلية عن
إنسانيتها وكرامتها، فيومض فيها بصيص من الأمل تعاود من خلاله ترميم ذاتها، وإعادة
الاعتبار لإنسانيتها المهدورة.. فتسمعه يقول محدثا نفسه:"ومررت إلى داخل
السور – سور المدينة- لا كمعتقل، وبدا عالمها الصغير مختلفا، ليس لأنها بالفعل
تغيرت، ولكن لأنني أنا الذي أراها كسائح، لا كمن يحمل الأغلال في يده، غير مضطر أن
يسمع صراخ الحارس فوق رأسه، مرعوبا من سوطه الحاد.. ودخلت "حاجا" إلى
المدينة بعد أن وهبني السيد "كابوش" هذه العطلة." (ص: 90).
هنا يمكننا أن نفهم سر هذه الغلالة
الدينية التي لمسناها في المفتتح، والتمثُّل لها بنزول السيد المسيح من خشبة
الصلب.. إنه الجو الروحاني الذي يكتنف الموقف على الرغم من كون "مانويل"
إنسانا ملحدا، شيوعيا باعترافه وإقراره.. غير أنه يجد في دخوله إلى المدينة فعل
"الحاج" الذي تخلص من أدران الحياة، وترك شقاوتها خلف ظهره.
أما المفصل 12 فقد افتتحه قائلا: "كان
اليوم الذي نزلت فيه إلى المدينة مختلفا، ليس لأني أحمل التصريح فقط، بل لأنه تلا
أيضا أحداثا لم تكن في الحسبان..." (ص:106). والجديد في هذا المفتتح استعمال
لكلمة "نزلت" وهي عين الكلمة التي استعملها في الحديث عن المسيح في
نزوله عن الجلجلة والصليب. ولا يمثل فعل النزول في هذا الجو الروحاني الخاص، إلا
معنى الطهر والتخلص من شيء كان عالقا بالذات، يمنعها من استكمال إنسانيتها،
والعودة إلى مسار الحياة الطبيعية. بيد أن المفتتح ينعطف سريع إلى كلمة تفتح في
نفس المتلقي شعاب التطلع والفضول، حينما يدرج في سياق العبارة كلمات "لم تكن
في الحسبان" وكأنها الطارئ الذي لا يد للإنسان فيه، وإنما يأتي هكذا
قدرا، لا يجدي معه التفكير المنطقي الذي يحاول ترتيب العلل، والتماس الأسباب.
إنها القدرية التي بدأ "مانويل"
يتعرف عليها من اختلاطه بالعرب واليهود.. فيسأل الحارس العربي عن سكان المدينة
فيجيبه الحارس قائلا:
- الجميع يسكنها، الأروبيون هم من يتحكم في
كل شيء، وتساعدهم السلطة الفرنسية، أما الطبقة الأخرى فهي من العرب واليهود.
- بدوا متأقلمين كثيرا.
- لا.. العرب هنا طيبون ومؤمنون بالقدر، إنهم
يرون أن كل ما يحدث هو من عند الله، وهو الذي سيقوم برفعه.
- وأنت بماذا تؤمن؟
-أنا أيضا أنتظر قضاء الله. (ص:110).
أما في المفصل 13 فيكتب في سطر واحد ثم يعود
إلى السطر الثاني جملة.. "لقد نزل الحلفاء.."
ويترك الجملة من غير محددات للزمان أو المكان
وكأنه ينقل ما يجري في لحظة ارتفاع أصوات المعتقلين بهذا الصراخ.. لأن نزول
الحلفاء حدث كان منتظرا في أعماق كل ذات دون أن تجرأ على التصريح به. غير أننا
نتابع استعمال الروائي لكلماته فتجده مرة أخرى يستعمل كلمة "نزل" وكأنه
يريد أن يستمر في ذلك الجو الحالم الذي نشأ من تمفصل الرواية الجديد في قسمها
الثاني، وكأنها تحمل رياح التغيير التي ستحول مصائر المعتقلين، أو على الأقل
ستبدِّل نظرتهم إلى الحياة بأمل جديد. ونزول الحلفاء في أي مكان من إفريقيا له
دلالة تاريخية وسياسية كبيرة.. إذ لم تعد الحرب الكبيرة تجري هناك وراء البحر على
الضفة الأخرى من القارة، وأنما صارت هنا في هذه الصحراء الممتدة.
لم يكن نزول الحلفاء في منطق المعتقلين إلا
كما قال أحدهم:
-نزلوا منذ أيام وأنهم حتما سيأتون إلى هنا
لتحريرنا.. (ص:126)
غير أن الخبر وحده كفيل بأن يزلزل الحياة
الرتيبة للمعتقل، وأن ينفخ في جذوة الأمل الخابي، وأن يثير في النفس البائسة موجات
من الترقب والأمل.. ومهما كانت حقيقة الخبر إلا أنها تستعطي للروائي إمكانية
الدوران مرات ومرات في أغوار كل ذات لتكشف عن مخبوئها من المشاعر والآمال، وأن
تفتح في ترقبها نافذة يطل منها بصيص من نور كانت أيام المعتقل وليليه قد قتلته منذ
زمن بعيد..
هذا الانعطاف في الفقرات على هذا النحو يزيل
عن السرد رتابته، ويعطيه إمكانية التجدد، والقفز على المراحل التي لو سايرها
الروائي لثقلت وتيرة السرد، وغدت وئيدة فارغة فراغ الصحراء.. إن الطارئ الجديد ولو
كان مجرد خبر طائش إلا أنه في المعتقل سيدور دورات بين المعتقلين يحللونه، ينظرون
في ممكناته، ويرسمون طرقه ومواقيته.
ويفتتح المفصل 14 بهذه العبارة التي يخبو
معها الأمل ويتراجع فيها الترقب: "شهر مر على نزول الحلفاء ولم يحدث
شيء" وسيكون لهذا الشهر الذي لم يكن المعتقلون يأبهون به في حياتهم الأولى
وقع جديد ثقيل، لأنه شهر كغير الشهور التي ألفوها من قبل.
إنها العبارة التي ستتيح للروائي تتبع مقادير
الخيبة التي تسكن النفوس وتهدم ما بناه الأمل في لحظات الترقب. وهي العبارة التي
ستعطي للروائي إمكانية مراجعة كثير من الأفكار التي يؤمن أو لا يؤمن بها
المعتقلين. وهي أفكار ستظهر في حواراتهم المقتضبة القصيرة.. التي لا يجرؤن على
الاستمرار فيها لأنها ستزيد من بلبلة اليقين المتبقي الذي يتشبثون به.
6- مع الحوار:
دأب كثير من الروائين على الاسترسال في
الحوارات، إفساح المجال أمام الشخصيات لتعبر عن نفسها في لغاتها الخاصة. فيطول
الحوار لصفحات، وربما يتسع لفقرات في حديث الواحد منهم، حتى يبلغ مقدار الثرثرة
الفارغة التي لا تقدم للقارئ مادة للتفكير والتأمل. بل قد يتجاوزها ولا تؤثر في
الأحداث شيئا. لذلك كانت المقادير التي يختارها الروائي من الحوار ذات أهمية كبيرة
في البناء والتشييد معها. لأنها لا تساق لبسط الأقاويل، وإنما تساق لتحديد المواقف
والأفكار. وإذا تم دورها تترك المجال للغة السرد حتى تستخلص منها ما تراه مناسبا
للسياق العام للرواية.
لذلك وجدنا عند الروائي "عبد
الوهاب" هذه التقنية المتميزة في إدارة الحوار القصير المركز. إذ لا تجد في
روايته حوارا تجاوز مقدار الصفحة الواحدة .. بل هي ثلاثة فقط (ص:91/94/97/99) وهي
حوارات لها ما يبر طولها في السياق الخاص من المفاصل السردية. كما أن الحوار لا
يدور في العادة إلا بين اثنين فقط تتخلله فقرات من التأمل التي يجريها الروائي في
الفكرة، على لسان الراوي تعليقا أو تفسيرا..
هذه التقنية التي تختصر عدد المشتركين في
الحوار إلى اثنين تجعل التركيز على الأفكار ممكنا في حالات خاصة، وكأن الروائي
يتعمدها حتى لا يشوش على مراده في السرد، فيقدم المتحاوين في نسق خاص من الأحداث
يُمَكِّنهما من تبادل القليل من الجمل لتأثيث الأحداث التي يرويها على قلتها هي
الأخرى في المعتقل. وكثير منها يأتي عن طريق التذكر والتداعي الذي تصنعه المصادفات
في حياة المعتقلين.
كان الحوار الذي افتتح به الروائي روايته،
مثلا واضحا على طبيعة الحوارات التي سيصادفها القارئ في الرواية، وعليه أن يتعلم
كيف يستخلص منها مادته المعرفية التي سيكوِّن بها العالم الذي يحاول الراوي نقله
إليه من خلال ضباب الذاكرة، وتعالق الأحداث وتتابعها. وغنى الحوار يتأتى من حجم
المعلومات التي يبثها على لسان المتحاورين.. فمثلا حينما يقول "بابلو"
في مفتتح الرواية:
- ثلاث سنوات قد مرت يا مانويل، أترى؟ إنها
ثلاث سنوات قد مضت على سقوط برشلونة، ونحن هنا ما زلنا نجرف الثلج عن سكة الحديد
بجلفا. (ص:3).
يُمَكِّننا الحوار من ثلاثة معلومات كبرى:
الأولى الزمن الذي أمضاه المتحاوران في مكانهما (جلفا)، والحدث الذي يهمهما (سقوط
برشلونة)، والعمل الذي يقومان به في مكانهما (جرف الثلج). كما أنه في المقابل يفتح
أمامنا أبواب التساؤل الكبرى لنسأل عن جملة العلاقات التي يمكن أن تكون بين
(برشلونة وجلفا) و بين (السقوط وجرف الثلج) وهي الأسئلة التي تفتح أبواب الفضول في
ذهن القارئ فيتابع السرد لاستجلاء حقيقتها.
من هنا يمكننا اعتبار الحوار آلية سردية، لا
تنتهي مهمتها في رفع كلام المحاورين فقط، وإنما تختار كلماته لتكون هي الأخرى مادة
يستثمرها السارد لتأثيث الرواية، وتطوير أحداثها، وفتح باب إمكاناتها الاحتمالية
في تطورها.. إذ يجد القارئ نفسه مضطرا إلى بناء العالم الموازي لعالم السرد حجرة
حجرة. فالراوي في الحكاية يبدو أنه - هو الآخر- لا يعلم المستجد من الأحداث، وأنه
يتلقاها في جدتها كما يتلقاها القارئ تباعا، ولكنه يعلم ماضيها الذي يرتد إليه
كلما دفعته الضرورة السردية إلى الاسترداد والاسترجاع.
كما يبدو الحوار من جهة أخرى تعلة يدفع بها
الراوي حدود الاختيار إلى مسافات سيتثمرها في بيان حقيقة الشخصيات ومصائرها، وتراه
يقول في حوار آخر:
-لماذا يحدث لنا كل هذا؟
-إنها ضريبة كلمة لا.
-لقد خدعونا وقالوا لنا بأننا معكم، ثم ها هم
يأخذوننا إلى إفريقيا. (ص:8).
إنه حوار قصير بين "بابلو"
و"مانويل" وهما على عتبات معتقل "فارني" بفرنسا أمام الشاحنة
التي ستنقلهما إلى الميناء. ويمكننا أن نستشف من الحوار المكثف حقيقتين تتصلان
بشخصية الراوي وصديقه الاسباني. إذ يبدو الأول بسيطا في تفكيره، ينظر إلى الأحداث
الجارية من حوله، ولا يدرك عمقها ولا خلفياتها. لذلك يتساءل مثل ذلك السؤال
الوجودي البسيط.. وهو الذي خرج محاربا من أجل إسبانبا ضد الفاشية بمباركة فرنسا
وحلفائها.. ثم ها هو الآن في معتقل "فارني" في فرنسا الفاشية مع حكومة
"فيشي" يجد نفسه يُنقل من معتقل إلى آخر وراء البحار..
إن في كلمة "خدعونا" تكمن مرارة
الخيبة السياسية الكبرى، والأمل الذي روج له الجمهوريون من قبل، ثم انتهى بآلاف
منهم في معتقلات "ريفيساليت" و "فارني" وأخيرا "عين
الأسرار". وهي خيبة سجلها تاريخ أوروبا في ملايين المشردين المهجرين، الذي
انتكست أحلامهم بسبب تهور السياسات، ودمار الحرب الكبيرة. لذلك يعلق الراوي بمرارة
شديدة قائلا: "لم أستطع يومها أن أفسر له ما كان الكل يعرفه، وما كنا أيضا
نخجل منه. إنها اللعنة التي أصابتنا وجعلتنا نتقاتل داخل "برشلونة"
متناسين أن "فرانكو" كان في كل يوم يقترب، ثم ما لبث أن طردنا
منها..الآن يستطيع الفرنسيون أن يسخروا منا ويضحكوا حتى الضجيج.." (ص:9).
ومنذ البداية، ندرك أننا أمام راو مثقف، عالم
بأبعاد اللعبة السياسية، وخفايا الحرب. وأنه مثله مثل الآخرين آمن بحلم وخدع به،
ولكنه الساعة بدأت تتكشف أمامه مسافات الخيبات المتوالية التي يجرها وراءه من خلال
جر سلسلة جبلية بثقل "سييرا دي مويرتي". فكلمة "لا" التي أرسلها
ردا على «بابلو» لتكون "ضريبة" للواقع الاعتقالي الذي يعانيه الاسبان
اليوم.. ليست مجرد كلمة يتفوه بها، وإنما هي "فعل رفض" وخروج عن السلطة،
وحمل لمشروع التغيير في الذات الثائرة.
وفي حوار آخر قصير جدا يفتح الراوي نافذة
أخرى للتأمل العميق في المصائر التي تقاد إلى المعتقل.. ففي الحين الذي كانت فيه
الشاحنة تتعثر في الطريق الترابي الخشن المؤدي إلى المعتقل ب "بعين
الأسرار" قال اليهودي "كورسكي" بعد أن لفظ اسم
"ريفيسالت" من قبل:
- نحن متجهون إلى الجنوب.
- وما الجديد، أعرف أنها إفريقيا.
- إنها مختلفة، هناك الصحراء حيث الله قريب
جدا من البشر. (ص:11).
ويسود الصمت بعدها فاسحا المجال لكل واحد
منهما أن يتأمل وجه الصحراء، وأن يعيد قراءة الحقيقة الجديدة على وجهه.. الراوي
يعرف أنها إفريقيا وتقع جنوبا.. وأنها معتقل جديد.. إذن الأمر سيان بالنسبة إليه..
ولكن "كورسكي" ينظر إليها بمنظار تخالطه لوثة توراتية.. فالسماء هنا
قريبة من الأرض.. والأرض هنا كأرض المنفى القديم الذي سارت فيه قبائل بني إسرائيل
مع موسى خروجا من مصر.. أو كأرض كنعان سيرا وراء جحافل "بختنصر " [2] وهي تقودها إلى
أرض العراق.. ففي الطريقين لم يكن هناك فاصل بين السماء والأرض..
غير أننا حينما نرتفع عن الشرط التاريخي،
ونتأمل القول نجد أنفسنا أمام تعريض فيه كثير من الحسرة على الذي يحدث الآن.
فالناس في المحتشدات والمعتقلات الأوروبية لا يجدون سبيلا إلى الله، فهو بعيد
عنهم، وسماؤهم محجوبة دوما لا تمكنهم من رؤية الله. وهنا إشارة لما يحدث في
معتقلات الألمان، والفرنسيين، والإيطالين، والروس.. وملايين من البشر يساقون إلى مصائر
مجهولة، يأكلها المرض والجوع الامتهان. فلم يعودوا بشرا حتى يهتم بهم الله.
ويضيف الراوي أن "كورسكي" كان
يتذكر : "كل التفاصيل وكأنه كان يعيها منذ آلاف السنين، أو كأن كتابه المقدس،
وحروفه اليديشتية الغريبة، نبوءات مستقبلية لنهاية العالم، أو لبدايته. الصحراء
التي رددها أمامي مثل آية أو تعويذة يطرد بها الأرواح الشريرة وتجعله قريبا من
الله." (ص:12). فهو يقرأ واقعه من خلال نصوصه القديمة، ويسقط ما استطاع من
تأويلاتها على حاضره المجنون. إنه في الصحراء يشعر بالأمان أكثر أي مكان على وجه
الأرض.. فصحراؤه القديمة كان يؤطرها عشرات من الأنبياء في مسيرات الهجرة والسبي.
لم يكن وحده أبدا، ولم يشعر بغيبة الله عنه.. أما اليوم فالاتجاه جنوبا يوفر له
قدرا كبيرا من الأمن يعيده إلى تأملاته.. لذلك قال عنه الراواي: "شعرت للحظات
أننا نسير ببركة هذا الكاهن، ولكن الحرب جعلتني أكره كل الكنائس، وألعن أولئك
القساوسة الكاثوليك الذين لم يفكروا فينا لحظة.." (ص:11).
لم يكن الراوي ملحدا رافضا لوجود إله، وإنما
كان يرفض الوسطاء الذي لعبت بهم السياسات، واستخدموا في كل الجبهات لتبرير القتل،
والخراب، والاعتقال.. ولذلك السبب كانت الحوارات التي دارت في الرواية في جملتها،
يقف فيها الراوي بين شخصيتين: شخصية "بابلو" المزارع البسيط الثائر الذي
آمن بالحلم الجمهوري، واليهودي "الغامض" "كورسكي" الذي يجمل
في صدره ثقل التاريخ القديم، وخيبات الحاضر المرير.
أما هو فلا يزال مثل صديقه "بابلو"
يحمل في أخاديد ذاته "سيير دي مويرتي" لا باعتبارها مكانا، وإنما
باعتبراها جرحا وخيبة. لذلك نجده مع مدير المعتقل وهو يستلم أوراق حريته يرد على
مدير المعتقل الذي قال له:
- بماذا تفكر يا سيد "مانويل" في
هذه اللحظة؟
- في سيير دي مورتي.
- ولماذا؟
- ربما لأنها الخيبة الأولى.
- وهل هناك خيبات أخرى.
- أجل، ولكنها ليست بنفس القسوة.
- و"عين الأسرار"رأيتها أكثر قسوة
من "سييرا دي مورتي" في وجه "بابلو" والذين سِرتُمْ بهم إلى
"كافارولي".
- غدا سيعودون.. لا تهتم لأمرهم.
- هذا جيد.
- ألا تريد المغادرة من هنا يا
"مانويل"؟
- أتصدقني لو قلت لك إن روحي التي تنشد
الرحيل، تأسف وهي تعلم أنها ستضيع في العالم، غير قادرة على دخول إسبانيا.
(ص:186/187).
كان ذلك هو الحوار الأخير بين طرفين.. يحضره
"بابلو" بشبحه ومصيره المجهول، ويغيب عنه "كورسكي" بكتابه
المقدس وحروفه اليديشتية. غير أن نص "سييرا دي مويرتي لا يزال محفورا
في صدر "مانويل" وهو يكابد منفى آخر أكثر اتساعا وغموضا.
7-مع الملاحظات:
حينما يقف المتأمل لعمل فني على مسافة منه، بعد أن يكون قد أنهى التفحص في دقائقه،
يحاول أن يجعل من المسافة الفاصلة بينه وبين الأثر بُعدا يُمَكِّنه من إلقاء نظرة
تشمله في كليته، أولا وفي وجوده في الوسط الذي ينتمي إليه جنسا وأثرا. كذلك الشأن
في الناظر إلى اللوحة الفنية، فإنه لا يتمالك نفسه من التراجع خطوات إلى الوراء،
ليتيح للعناصر التي شكلت اللوحة أن تجتمع من جديد في تشكيلها الفني المتكامل،
لتكون بدلك حقا لوحة فنية. لأن التعرف على العناصر في الأثر الفني والتيقن من
أدوارها لا يكفي للحكم على العمل الفني في جملته أبدا، بل إن التشتت الذي يصيب
الذائقة جراء الفرز، يقتل المتعة الجمالية التي يمنحها الأثر الفني في جملته.
وانطلاقا من هذا الوعي، وبعد التأمل الشامل،
كان لنا جملة من الملاحظات، نحاول أن نسردها في نقاط متتالية ليسهل الوقوف عندها:
1- الموضوع كبير: لأنه يتصل بأشخاص في
ظرف سياسي عالمي حرج، شكل مأساة عالمية لا تزال آثارها باقية إلى اليوم لم تندمل
لا على الأماكن، ولا في النفوس. إلا أن الروائي مر عليها مرورا سريعا ولم
يعطها حقها من الحفر والتجلية. وبذلك مرت كثير من الوقائع التي كان يمكن استثمارها
بقوة في حبك الحكاية وتمكينها من بعدها الدرامي العالمي. ويمكن رد ذلك
إلى أن الرواية كان يجب أن يسبقها بحث تاريخي معمق في الأحداث، وأن يكون
لها مراجع تعود إليها للتثبت من الوقائع والاستزادة في معرفتها. لأن موضوع
المعتقلات في ألمانيا وفرنسا لا يزال يثير كثيرا من الأسئلة تتعلق بمصائر الناس،
والجماعات، والشعوب، والأديان، والأيدولوجيات..
2- الحكاية بسيط جدا: على الرغم من
أنها تتصل بمصير شخصيات ثورية حاربت في الجبهة ضد فرانكو، وتحاربت فيما بينها، إلا
أن الرواية لم تنقل شيئا عن ذلك الهم إلا بعض الأخبار الباهتة التي
تشبع نهم القارئ إذ يجد نفسه في كثير من الأحيان يعود إلى المراجع الخارجية ليعرف
عنها ما يؤثث به قراءته. فالأشخاص ينقلون من معتقل إلى آخر من غير سبب واضح،
وأنه يساقون إلى مصائرهم من غير تفسير، وأنهم في النهاية يرضون بالواقع
رضا مريبا. فالحكاية كان يمكن أن تتأزم أكثر لو ركزت على البعد الإنساني في
تجلية العلاقة بين الشخصيات وذويهم، وأصدقائهم، وأفكارهم، ونظرتهم للعالم من
حولهم.. فقد أثارت الرواية كثيرا من ذلك إلا أنها لم تستمر فيه إلى حدوده
الدرامية وربما يرجع ذلك إلى عدم التريث والمراجعة وإقبال الروائي على نصه بعد
إتمامه قارئا كغيره من القراء.
3- لغة الرواية بسيطة: على الرغم من
أن كون لغة الرواية بسيطة وصافية، إلا أنها كانت في حاجة في كثير من الأحايين
إلى أسلبة خاصة نحس من خلالها التفات الروائي إلى الأساليب السردية، ومعالجة
العبارة معالجة أدبية تعطي للنص بعده الأدبي والجمالي، خاصة من المقاطع
التي يخلو فيها الراوي للتأمل وتحليل المواقف النفسية والمشاعر المحتدمة في
المواقف الصعبة. غير أننا في الرواية نحس بوتيرة واحدة في الكتابة، ونفس واحد
من بدايتها إلى آخرها. وبرما يعود هذا الأمر إلى التسرع قليلا في تقديم
النص للنشر. لأن الأسلبة كما هو معروف نشاط تلقائي يتمكن منه الروائي
بالممارسة، ولكنه في الأعمال الأولى يحتاج إلى معاودة ومراجعة.
4- بساطة الاعتناء بالشخصيات: على
الرغم من التنوع الذي وجدناه في الشخصيات التي أحضرها الروائي في سرده، إلا أنه أهملها
من حيث التأثيث، فلم تحظ إلا بالقليل من الأخبار والقليل من التقديم، وتعامل
معها وكأن القارئ يعرف عنها ما يعرفه هو. ومن ثم مرت شخصيات في أدوارها ولم نعرف
عنها إلا النزر اليسير مع أنها ذات وقع في الأحداث: كالحارس العربي،والرابي يعقوب،
وكروسكي اليهودي، السلمي... وتأثيث الشخصيات في مثل هذه الروايات التاريخية ضروري
لأنه يقوم بالتأريخ لمناطق لها وجودها المكاني والتاريخي.
5- ملامح المكان باهتة: فات الروائي الاعتناء
بالمكان عناية خاصة. فمدينة الجلفة لا تحضر إلا من خلال صور قليلة باهتة،
وشارع، وجسر، ومقبرة.. بل كانت المقبرة أكثر حضورا من المدينة المسورة. وغابت
أسماء الجبال المحيطة بها، كما غابت أسماء أعشابها،وحيواناتها.. كان للرواية
إمكانية تقديم صورة عن الجلفة في تلك الأزمة، خاصة وأن وضعها الاجتماعي كما وصف
الروائي كان يقدم ثراء وخصبا في اجتماع ثلاثة ديانات وثلاثة أجناس بساحتها..
فكان من الممكن رفع حقيقتها عن طريق عرض مشاهدها من خلال السرد الروائي خاصة وأن
الراوي خرج إليها مرات وتجول في شوارعها وقابل بعضا من أهلها.
[1] - dit « camp de Rivesaltes », a été
fondé en 1935. De 1939 à 2007, ce camp
militaire a accueilli diverses structures de regroupement de civils ou de
militaires vaincus.- Officiellement ouvert 14 janvier 1941, le
camp de Rivesaltes passa sous le contrôle des autorités civiles du régime de
Vichy. Il était affecté au regroupement familial d'Espagnols, de Juifs. Des
Tziganes, indigents et opposants politiques, "étrangers ennemis,
indésirables ou suspects pour la sécurité nationale et l'ordre public" y
furent également détenus. D'une capacité de 18 000 personnes, le camp
accueillit 21 000 détenus entre 1941 et 1942. Il fut fermé le 22 novembre 1942
-
[2] - بوخذنصر
أحد أقوى الملوك الذين حكموا بابل وبلاد ما بين النهرين، حيث جعل
من الإمبراطورية الكلدانية البابلية أقوى الإمبراطوريات في عهده بعد أن
خاض عدة حروب ضد الآشوريين والمصريين، كما أنه قام بإسقاط مدينة أورشليم ( القدس) مرتين الأولى في سنة 597 ق م والثانية في
سنة 587 ق م، إذ قام بسبي سكان أورشليم وأنهى حكم سلالة داؤد.
تعليقات
إرسال تعليق