تثار اليوم قضية الرواية والتاريخ.. وهل يجوز للرواية أن تكون بديلا للتاريخ؟ هل يجوز لها أن تعيد كتابة بعض أحداثه استنادا إلى خيال مبدعها؟ هل يجوز لها أن تحور في الأحداث بدعوى أنها مدجرد أدب؟ هل يجوز لها أن ترسم خلفيات لبعض الأحداث لتحولها عن حقيقتها...؟
أم أن الرواية ضرب من التاريخ الخاص الذي لا علاقة له بالتاريخ؟
لها أن تكتب تاريخها الخاص، ليسمجرد أحداث فقط وإنما شرائح حياةمترعة بالمشاعر والأحاسيس؟
وحين نعيد النظر في مقتل مولود فرعون.. ألا نرى وجها آخر للرواية أشد خطورة من التاريخ؟
وحين نعيد النظر في مقتل مولود فرعون.. ألا نرى وجها آخر للرواية أشد خطورة من التاريخ؟
إن الاستعمار لا يقتل جزافا...
تلك حقيقة يمكن أن ندرك فضاعتها اليوم حينما نراجع نص "مولود فرعون" الروائي.. لم يكن "فرعون" يكتب الرواية كما يكتبها جيلنا اليوم للشهرة، والتسلية، والجائزة، أو ليقال عنه أنه روائي.. كل ذلك لم يكن ليخطر على بال "مولود فرعون" لأن الكتابة في تصوره كانت تتجاوز حد المتعة الأدبية الخالصة إلى التسجيل التاريخي والشهادة الحضارية على وضع قائم، ستحتاج إليها الأجيال القادمة لتسجيل تاريخها من جديد. حينما تمتد إليه أيادي الطمس والمحو.. إن فصلا من "الدروب والوعرة" أو من "نجل الفقير" في لغته وتصوير مشاهده، يتجاوز بخطوات عديدة التسجيل التاريخي البارد الذي يكتفي بالعرض الشاخص للأحداث. ذلك لأن التاريخ يفتقد حرارة التوصيل العاطفي، بين الرواية تحمل شحناتها العاطفية في كل جملة وسطر، لأنها في واقعيتها ومتخيلها، إنما تحاول دوما أن تقتطع من الحياتي اليوم شريحة حية تنبض بحرارة المواقف المختلفة لترفعها إلى عالم الفن. ولا يفهم من ذلك أن الفن مجرد متحف تتكدس فيه هذه الشرائح الطازجة التي تقطر دما أو تنزع ألما، وإنما القصد أن يكون الفن شاهدا على فضاعة اللحظة، يخرجها من سيرورة الزمن الجاري الذي يرقبه المؤرخ، إلى زمن آخر تطل عليه حدقة الأدب. فتظل الذاكرة به حية لا يعتريها فتور ولا يتخونها نسيان.
إن الاستعمار قتل الرجل...
لأنه رآه يحول بقلمه الواقع الجاري إلى فلذات مشهدية يؤثث به عالم الفن ليخرجها من اليومي الذي سريعا ما تتراكم فيه أسباب النسيان إلى الكتابة التي تحتفظ بوقع الجريمة وفضاعتها تتكرر في كل قراءة، وتتجدد في كل بحث.. إن القارئ حين يقبل على "نجل الفقير" و "الدوروب الوعرة" أو غيرها من الكتابات، إنما يقبل على مواقف من حياة الجزائري في حقبة زمنية شديدة الحساسية، شديدة التوتر، اختلطت فيها الأصوات، وتداخلت فيها اللهجات.. وليس أمامه سوي المشهد الروائي يعيد عليه من جديد حركية المواقف باختلاف ملابساتها..
أما اليوم ..
فلن ينفعنا أن نستعيد ذكرى استشهاد مولود فرعون لنكرر سيرته التي غدت على كل لسان، وإنما علينا أن ننظر في أدبه.. في تقنية كتابته.. في أسلوبه.. في رسالته.. ليعلم الجيل الذي يكتب الرواية اليوم.. أنه إن أراد أن ينجح على النحو الذي نجح به فرعون إلى درجة الاغتيال.. أن يجعل من الكتابة ذلك الشاهد على العصر الذي يتخطى المؤرخ المحكوم بالخبر والتوثيق، إلى رحاب بعث الواقع حيا متجددا مع كل قراءة.. وأخطر ما في الرواية أن تلبس هذا الرداء، وترتفع إلى هذا المصاف، لتطل على الواقع من شارف عال ترقب منه أسباب التحول الجارية فيه، فتسجل الحفيف الخافت، والدبيب الخفي، لتتنبأ بالآتي.. ألم يقل مولود فرعون يومها:"أكتب بالفرنسية، وأفكر بها، لأقول للفرنسي أنني لست فرنسيا". وهنا مكمن الخطورة في الفعل الكتابي..
كان الرجل يعلم...
يقينا أن فعله سيظل في أعين المستعمر فعلا إجراميا، وأنه سيُقرأ قراءة أمنية، وأنه سيُفسر في ضوء النبوءات التي يمكن للكتابة أن تضمرها في حروفها وبين أسطرها.. لذلك قال " لأقول للفرنسي" وهذا خطاب متعال، يتجاوز محض السرد الذي يصف حال الفقر والفقراء تحت نير الاستعمار، إلى الأثر الذي يبقى.. فالكتابة أثر.. وأثرها بالغ الحدة، حينما تعيد بعث الماضي بعثا حيا تضطرب فيه الحياة مجددا، وتتحرك المشاهد المأساوية مفعمة بأحاسيسها التي كانت لها من قبل.ويرتكب النقد مغالطة أخرى..
حينما يصنف كتابات "مولود فرعون" و"معمري" و"ديب" ضمن الكتابة الكلاسيكية للرواية، ويفوته حتما أن هؤلاء إنما كانوا يعاصرون التيارات الجديدة للرواية في اوروبا، ويخالطون كثيرا من كَتَبتها، أو على الأقل يقرأون عنهم في المجلات والجرائد. وأنه انتهى إليهم ميراث الواقعية، والرومنسية، والرمزية، وإرهاصات الرواية الجديدة.. وأن ذلك الخليط غير المتجانس، تبلور في كتاباتهم في شكل تيارات تخترق الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية ك "البوفارية" (نسبة إلى "غوستاف فلوبير" في روايته مدام بوفاري) مثلا و"البروستية" (نسبة إلى بروست في البحث عن الزمن المفقود).. وغواية الرواية الانسيابية.. ذلك ما نشهده في اللوحات المشهدية الرائعة التي رسمتها ريشة "مولود فرعون" في "الدروب الوعرة" و"ابن الفقير".. وكأننا أمام لوحات الانطباعيين بأضوائها، وحركتها، وصدق تعابيرها..
لقد استحالت الكتابة..
في ريشة "مولود فرعون" إلى ضرب من التصوير الدقيق المعبر الذي يتخير من الحدث أعلى ما فيه من التوتر والإثارة، ليعيده إلى الحياة من جديد. كما أننا واجدون في الحوار الذي يتخلل الحدث الروائي تكثيفا آخر، يرفع الحوار من بساطة الدارج اليومي، إلى ما يتخيره الروائي مُمَثِّلا للتواصل بين الشخصيات. ومن ثم فلا تجد ما تضج به الروايات اليوم من حوارات مسِفّة كان في إمكان الروائي الاستغناء عنها.. بل يركز "مولود فرعون" على العلاقة ذات الدلالة في الموقف العام والتي تجسد في لغتها وحرارتها كل حيثيات اللحظة المعاشة. ذلك هو سر نجاح "مولود فرعون" و"محمد ديب" و"مولود معمري"..
التعليقات
sidahmed
جميل جدا استاذ ان يسلط الضوء على مثل هذه الامور خاصة عندما يتعلق الامر كتابات مولود فرعون التي عدت بحق ارهاصات اولية للرواية الحديثة
جميل جدا استاذ ان يسلط الضوء على مثل هذه الامور خاصة عندما يتعلق الامر كتابات مولود فرعون التي عدت بحق ارهاصات اولية للرواية الحديثة
بشير خلف
أستاذي الفاضل
أنت رائع في تعرضك إلى هذا المبدع الرائع مولود فرعون في رواياته الرائعة التي هي بقدْر ما هي نصوص فنية رائعة، ولوحات جميلة إلاّ أنها وثائق تاريخية إثباتية لبشاعة الاستعمار الفرنسي..إن رواية " الدروب الوعرة" في كل مرّة أقرأها أشعر بأني وكأني أقرأها لأول مرّة ..رواية " نجمة" لكاتب ياسين هي رائعة من روائع الأدب العالمي..وماذا لو نتكلم عن روايات محمد ديب التي تمتع بها الجزائريون قبل سنوات كمسلسلات ..المخيال الجزائري الذي لم يعايش الحقبة الاستعمارية، وشاهد تلك الأحداث على الشاشة لا أحسب أنها ستنمحي من ذاكرته ..صدقت أستاذي فالرواية شاهدة على العصر ..مزيدا من مثل هذه الدراسات القيمة التي تؤسس لثقافة جادة تعوض " ثقافة النسيان" وتعمل على إبراز رجالات هذا البلد ..روايات صارت تُحسب من الروايات العالمية دمتم في خدمة المعرفة.
حبيب مونسي
سيد أحمد .. شكرا على قراءتك .. سعدت بتفاعلك مع الموضوع المطروح خاصة وأن الجيل الجديد لا يحمل صورة واضحة عن جرائم الاستعمار ولا يعرف بحق كيف كانت معاناة الشعب.. حتى أنا لم أعايشها واقعا وإنما عشتها ثقافيا من خلال الرواية.. لذلك أكتب عن مولود فرعون ومحمد ديب.. عن العين التي شاهدت والجسد الذي عانى .. ثم صب كل ذلك عبر الحرف.. شكرا أخي الكريم
حبيب مونسي
حبيب مونسي
أساذي الكريم.. أهلا وسهلا.. إن مرورك شرف لي وتكريم لورقتي.. إنني مثلما قلت لسيد أحمد لم أعايش الفترة الاستعمارية ولا أذكر منها شيئا وإنما عشتها ثقافيا من خلال الحرف من خلال النصوص وعاينتها من خلال الشهادات وكتبت عنها من خلال المخيال الحي الذي استطاع أن يستقي من الرؤى المختلفة صور المآسي التي عاناها الشعب.. الرواية سيدي خير شاهد على العصر لأنها قطعة حية من حياة الشعوب شرط أن يكون كاتبها في المستوى المطلب وأن يترفع عن السخافات الشكلية التي تتعثر فيها الرواية الجديدة.. إن الرواية مسؤولية ومسؤوليتها في هذا العرض الأمين للفكر والمشاعر والأحاسيس.. شكرا لك أساتذي الكريم..
د.نافذ الشاعر
استاذ حبيب مؤنسي موضوع رائع علاقة الرواية بالتاريخ، ولن تجد اتفاقا في هذا الموضوع..لكن هناك فرق بين التاريخ والأدب، فيبقى التاريخ تاريخ لا يجوز التلاعب فيه ولا التزوير، وكلما أمكن للروائي أن يصيغ رواياته وفقا للتاريخ الصحيح، فيكون قد جمع بين الحسنيين ، يعني من يقرأ رواياته يكتسب بلاغة ويكتسب معرفة بوقائع التاريخ، ولا مانع أن يسد الروائي بعض الفجوات الناقصة في كتب التاريخ، لكنه أيضا يسدها استنادا إلى المنطق وسنن الاجتماع أيضا..هذا هو رأي في الموضوع وشكرا لك على إثارة هذا الموضوع
حبيب مونسي
د.نافذ الشاعر.. تسعدني إطلالتك البهية على ورقتي وأجد فيما تطرحه خيرا كثيرا وعلما واسعا.. وقد أفدت من رؤيتك خير الإفادة.. أوافقك الرأي.. نحن من خلال هذه الورات نحاول إعادة صياغة بعض المفاهيم وتصحيحها لنجدد رؤيتنا لها ونحدد كيفيات التعامل معه في كتاباتنا ومن ثم يعاد الطرح.. خاصة وأن الرواية التاريخية اليوم تقتحم التاريخ لتبث فيه شكوك جهات معينة ولتعيد رسم الأحداث وفق رؤيتها الخاصة لترفع من تشاء وتضع من تشاء.. وتسلب الضعيف حق الركون إلى حقيقة كان يحسبها ركينة.. شكرا أستاذ على قراءتك النيرة..
تعليقات
إرسال تعليق