حينما ألتفت إلى المناهج التي سطرتها الأقلام بين سياقية ونسقية.. أستعظم الأمر.. لأنني أدرك أن ما جاء في هذه المناهج من أفكار وأدوات نابع من معاشرة للفكر والتأمل، اتسمت في كثير من الأحيان بالعمق والجرأة،
كنت حينما أنظر إلى الحرفي في تعامله مع المادة التي يشتغل عليها، يتجنب دوما إكراهها على هيئة واحدة، وإنما يراودها ويقلبها بين يديه حتى تنصاع لرغبته وأدواته، ومن ثم لا تحس بمشقة في عمله ولا تتحسس ذلك الإكراه الذي تراه عند المتعلم الذي يحاول أن يقلده في فعلته. هنا وقف أمامي شخصان: الأول هو الميكانيكي والثاني هو الطبيب..
كان لقائي بالأول حينما أمرني ذات يوم بتشغيل محرك سيارتي، ولم يلتفت إلى أقوالي التي حاوت بها أن أشرح له العطب الذي يعاني منه المحرك.. بل راح بصمت يدور حول المحرك مرهفا السمع إلى حشرجته، متنقلا ببصره في أجزائه وهي ترتجف أمامه، ثم يمد يده يتحسس تلك الرجفات،وكأنه ينقل ذبذباتها إلى جسده، أو كأنه يريد مقاسمة المحرك شيئا من علته.. كانت كلماتي تضيع في ضجيج المحرك ولكن أذنه كانت تغوص في عمق الدواليب المتحركة داخل المحرك.. ثم رفع رأسه إلي وقال: ماذا كنت تقول؟
نظرت إليه في حيرة.. حاولت أن أستعيد الشريط من أوله، ولكنه قال: المحرك به كذا وكذا... عكس ما كنت أعتقد تماما.. وأنه يتوجب عليه تفكيكه.. بدءا من كذا...
تراجعت قليلا إلى الوراء.. ونظرت إلى الرجل الذي علمني الساعة – وبصمت- أفضل الطرق لمقاربة الموضوعات.. ولا أقول النصوص.. علمني فنا جديدا علي: هو فن الاستماع والتصنت.. لقد كلف الرجل نفسه مهمة حسن الاستماع إلى المحرك، ودار حوله، وفسح له مجال التعبير عن نفسه.. وعرف علته.. ومن ثم قرر طريقة التعامل معه، تفكيكا وإصلاحا..
وقفت بعيدا أتأمله - وهو يتخير من لوح المفاتيح المثبت على جدار المرأب- أنواعا شتى من الأدوات.. مختلفة الأشكال والأحجام.. تنتمي إلى أنواع وأجناس مختلفة.. منها ما له صلة بالكهرباء، ومنها ما له صلة بالبراعي الصغيرة، ومنها ما له صلة بالبكرات المستديرة والمسننة... كنت أنظر إلى ذلك الحشد غير المتجانس،الذي تجمع بين يديه، وأنا أتساءل في نفسي أن الرجل لم يكلف نفسه عناء البحث عن نسبة هذه الأداة أو تلك، وإلى أي حقل تنتمي،وما هي مرجعيتها.. المهم عنده هو صلاحيتها في فك هذا المستغلق دون ذاك، وأنها في هذه النقطة أداة فعالة لا يمكن لغيره أن يقوم مقامها. ولو تمادينا في استعمال غيرها لأفسدنا القطعة من المحرك ونحن نطمح إلى أصلاحها..لماذا لا يصنع الناقد مثل هذا الصنيع؟ لماذا لا نبدأ العمل النقدي بحسن الاستماع إلى حشرجات النص؟ لماذا لا نترك لكلمات النص أن توشوش في آذاننا رغبتها في أن تكون على هذه الهيئة دون غيرها من الهيئات التي سيفرضها عليها المنهج المُعد سلفا.. فكل نص من النصوص كائن عاقل، يصرخ بملء كلماته، وعباراته، وصوره، وأشكاله..
إن الحلقة المفقودة في علاقتنا بالنص هي "حسن الاستماع إليه".. والدوران حوله.. هنا عنت لي فكرة عجيبة وأنا أنظر إلى الرجل يباشر عمله في صمت.. هل للاستماع من مدة؟ هل له من عدد؟ حينها تذكرت سعي أمنا "هاجر" عليها السلام بين الصفا والمروة، بحثا عن الماء إغاثة ولدها العطشان.. كان يكفيها أن تطل من الصفا مرة أو مرتين لتتأكد من خلو المكان من الماء في هذه الجهة، وكذلك أن تطل من المروة مرة أو مرتين .. لكنها أصرت وعاودت الكرة سبعا.. هذا الإصرار الذي "أقتنصه" لأجعل من العدد "سبعة" أقصى ما يمكن للقارئ من مرات يناوش فيها النص، وكأنه يقوم بمسحه مرة تلو أخرى.. وفي كل مرة يرهف السمع أكثر إلى نداء من نداءات النص، ويتصنت على حفيف من حفيف الكلمات، ويتطلع إلى ظل من ظلال المعاني..
قد يكتفي القارء العادي بالقراءة الواحدة مسحا.. قد يعود إلى فقرات بعينها في النص.. لكن الناقد يتحتم عليه أن يجتهد ويصر على العودة مرات عديدة منقبا، مستكشفا، متسائلا.. وليس من أداة بين يديه سوى حسه الأدبي، وذوقه، وخبرته... إنه في مرحلة الاستماع يقف متجردا من الأداة.. متجردا من الحكم القبلي.. متجردا من المعرفة المسبقة.. إنه يبقي كل ذلك معلقا على لوجة المفاتيح على جدار المرأب كما يفعل صاحبنا الميكانيكي.
وحينما يرفع رأسه عن النص يكون النص قد أفضى إليه بخبره، وأفشى إليه بأسراره، ودله على مداخله.. لقد نشأت بينهما علاقة حميمية، واتصلت بينهما أوشاج من القرابة والقربى. وسيلتفت الناقد إلى لوحة الأدوات ليلتقط منها الأداة التي تناسبه في التولج عبر المداخل التي صار يعلمها يقينا، ويدرك حقيقتها وما يناسبها من أداة وفكرة.. هكذا ستتجمع بين يديه مجموعة من الأدوات غير المتجانسة ظاهريا لانتسابها إلى حقول معرفية متباعدة، ولكنها في تلاحمها وتآزرها ستقوم بمهمة واحدة هي التعبير عن مكنونات النص حق تعبير. منها سيتشكل المنهج الذي نقارب به هذا النص دون غيره من النصوص التي تشبهه أو تقترب منه.. إنه منهج لا يصلح إلا له..
كذلك كان أمري مع الطبيب!.. كان يتجاهل ما كنت أصفه له من وجع وألم.. وكان ينتقل بمسمعه على صدري وظهري، يُنصت إلى هسهسة العضلات، ويتصنت على دقات القلب، وعلى زفير الهواء في الرئتين، وعلى الحشرجة في الحلق.. كان يدق بأصابعه على المعدة ليتفقد انتفاخ القولون.. كان يراقب لون البشرة، ويتحسس ترهل الخصر.. ثم يرفع رأسه عني إلى ورقته ليشكل عليها منهج العلاج.. إنها أدوية غير متجانسة.. بعضها ينتمي إلى المضادات الحيوية، وأخرى مسكنة للآلام، وبعضها لحماية المعدة، وأخرى لتهدئة الأعصاب وتنظيم نبضات القلب..
كانت الوصفة بين يديه هي التركيبة التي ستعود بالخير على الجسد، بعدما أفضى الجسد إلى الطبيب بأدوائه وآلامه... إنها وصفة خاصة لا تنفع غيري أبدا.. إنها لي وحدي.. حتى ولو شابهت علتي علة أحدهم، فلا يجوز لي بتاتا أن أجريها عليه... وربما قد تكون الوصفة هي هي، ولكن الجرعات ستكون حتما مختلفة نظرا لاختلاف موضوع الفحص.
لقد تعلمت من الرجلين كيف أحل أزمة المنهج الذي قسمه الدرس النقدي بين سياق ونسق، يتبادل الطرفان فيه شتى التهم، يقلل فيه المتأخر من قيمة المتقدم، وبخسه حقه في الوجود والمعرفة.. تعلمت منهما أن الأدوات هي حصاد المعرفة الإنسانية في شتى حقولها ومجالاتها، ومن الإجحاف أن نتركها لقدمها أو تقدمها.. أن نتركها لأننا ركبنا موجه فكرية جديدة، ولا نريد أن نوصف بالرجعية.. أن نتركها لأن جمهور القائلين النافذين اليوم يتحرك سيميائيا، وتفكيكيا، وما بعد حداثة...إن الأداة تقاس بفاعليتها وصلاحيتها، لا بجدتها أو قدمها... وأن الحدس الإبداعي هو الذي يستدعيها لملاءمتها للموقف. وأن المنهج أخيرا هو تجميع لهذه الأدوات في وصفة تناسب هذا النص في هذه المرحلة القرائية، وقد لا تناسبه في مرحلة قرائية أخرى.. لأننا اتفقنا أن النص كائن حي، وأنه يتأثر بالأزمنة، والأوساط، والأنساق الثقافية التي تكتنفه من حقبة لأخرى.. وأن له في كل حقبة أصوات متجددة يتوجب علينا الانصات إليها من جديد.. هكذا تتجدد عطاءات النص الإبداعي، وهكذا يتجدد شبابه مع كل استماع ومقاربة..
فإن نحن جئنا إلى الرواية.. ذلك النص الفسيح الذي يتمدد في كل الاتجاهات، المفعم بكل الأصوات، المسكون بالهواجس والمخاوف والآمال والتطلعات... والحامل لرسالة تريد أن تعيد صياغة الواقع على هيئة رآها المبدع مناسبة لظرف، أو مشاكسة لوضع، أو مسائلة لفهم ووعي.. يقدمها في شريحة اجتماعية تعج بالحياة، تتجاوب فيها رياح المشاعر والأحاسيس جيئة وذهابا، وتعصف بها الأهواء غداة ورواحا.. فليس أمامنا إلا حسن الاستماع إلى النص.. حينها سيحدثنا النص من خلال النسق الثقافي الذي نطل به عليه، حديثا نجد فيه بغيتنا من الفهم والفقه عنه. فإن كان للتاريخي هيمنة دلتنا مداخل النص على مسارد التاريخ ورؤاه، وإن كان للنفسي حضور دلتنا المداخل على فيوض الأحاسيس والمشاعر، وإن كان للغوي صدى أوقفتنا المداخل على اللغة .. وهكذا دواليك إلى أن يكشف لنا النص في هذه الجولة بُعدا من أبعاده، قد يقتلها تعنتنا حينما نقبل عليه بمنهج مُعِد سلفا في كنف تفكير لا يعترف به النص الإبداعي جملة وتفصيلا.
لقد قتلت المناهج الواصفة الإبداع، واجتثت جذوره، ومسحت عنه عنصر المفاجأة، وأحالته إلى تركيبات سفسطة، يكثر ضجيجها ويقل طحينها.. ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى قراءة تعرفنا بالنص ورسالته، وتكشف لنا عن خطابه، بعيدا هن التنظيرات الغارقة في التشقيقات اللغوية، والفذلكات التعبيرية، والحذلقات المتعالمة، التي لا تنتج سوى الضياع وسوء الفهم.
نشر في الموقع بتاريخ : الأحد 18 شوال 1434هـ الموافق لـ : 2013-08-25
التعليقات
الشيخ قدور بن علية
أستاذنا المحترم ، الأخ/ حبيب مونسي ،لاشك أن نصكم هذا له مثقاله المعلوم في المجال النقدي ، وقد أبدعتم من خلاله في كيفية جعل قرائكم يتذوقون رحيق تجاربكم النقدية العاكسة لسعة اطلاعكم واحتكاككم بمختلف النصوص قراءة وتشريحا ، لكني وأنا أفرغ لتوي من قراءة هذه الوصفة الدقيقة ـ للأمانة ، لم أقرأها سبع مرات ـ ، أستحضر شخصيتكم المُبدعة وشخصيتكم الناقدة في آن معا ، فضلا عن وزنكم المعرفي ، وأجدني عاجزا عن تفضيل إحداها فيكم عن الأخرى إلى درجة تساؤلي ، هل بإمكان أستاذنا مونسي أن يعود فيقف من نصه هذا موقف الناقد ، ما دام قد استمع وتحسس وأنصت لحشرجاته قبل البوح به على هذه الشاكلة ؟؟ وإلى أي مدى يُمكن للمبدع الناقد أن ينتقد ذاته بكل تجرد وحيادية ؟؟ أم أن الفصل بين الذات المُبدعة /الناقدة يظل ضربا من المستحيلات ؟؟؟ ، هل من وصفة لهذا الرأي الذي قد يوافقني فيه غيري ،أستاذنا المحترم؟؟
خالد تواتي
صحيح أستاذ نحن بحاجة إلى غربال جديد، معظم تلك الإجراءات النقدية تبعدنا عن النص، والأدهى من ذلك تجعلنا نتهم عقولنا ونشكك ذائقتنا، وتوهمنا بأنها علم وهي مجرد هرطقات. أعتقد أن أصحابها هم أول الكافرين بها.
تعليقات
إرسال تعليق