التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القصة القصيرة ... كيف؟ معضلة المستقبل من الورقي إلى الرقمي! بقلم : حبيب مونسي


ليس غريبا أن يظهر جنس أبدبي تستدعيه ظروف خاصة، وتسرع في إيجاده، فيقبل عليه كثير من الكتاب، لأنه يناسب الوضعية التي يحيونها، من جهة ويناسب حجم المساحة المتاحة للنشر من جهة أخرى،
فإذا اختفت الدواعي المشار إليها فقد يختفي الجنس الأدبي كلية. وقد شهدنا ذلك على سبيل التمثيل في جنس الموشح في الأدب الأندلسي، حتى وإن استمر البعض في كتابة الموشح في أشكال أخرى من الشعر الحديث.
إذا كانت القصة القصيرة تساير ظهور الصحافة وتجد لنفسها على صفحاتها القليلة فسحة للنشر، فإنه قد تحتم عليها منذ البدء أن يكون لها من الخصائص الفنية والقواعد الكتابية: أسلوبا وعرضا، ما يناسب تلك المساحة في الصحف والمجلات. بيد أننا مع القصة القصيرة ننظر أولا إلى مجالها الخاص نشرا، قبل أن ننظر إلى طبيعتها باعتبارها فنا اكتسب من المقومات ما يجعله جنسا متفردا، يغاير القصة والرواية.
كانت هذه الطبيعة الخاصة في القصة القصيرة عاملا دفع برؤساء تحرير المجلات والصحف إلى التشدد في المعايير، فلا يسمحون إلا بظهور العمل الذي لن يزري بقدر المجلة، ولا يحط من قيمتها، فاستكتبوا أولا أسماء لها من الشهرة والمكانة الأدبية ما يدفع بالمجلة إلى أعلى أرقام المبيعات، كما عمد بعضهم إلى نشر قصص مسلسلة اتخذت في كتابة حلقاتها طابع القصة القصيرة محترمة التكثيف اللغوي، والاكتفاء بالفكرة الواحدة، والغوص عميقا في الدلالات المرتبطة بها. حتى لكأنك تحتاج إلى قراءات متعددة للنص الواحد لتلغ أقاصيه. وشكلت لجان قراءة من كبار الكتاب لمراقبة الوافد في الأقلام الجديدة.
لقد كان ذلك العمل الدقيق، الباب الذي فتح أمام العديد من الأسماء في أمريكا وإنجلترا وفرنسا، وغيرها من الدول التي انتهجت السبيل عينة، فعُرفت الأسماء الجديدة وأقبل عليها القراء من جهة، وشجعتها المجلات والصحف من جهة أخرى، وأجرت لها الجوائز والألقاب.. حينها التفت أصحاب دور النشر إليها، فكان إغراء التحول من القصة القصيرة التي هي بعض صفحات في مجلة إلى كتاب قائم بنفسه يحمل اسم صاحبة.. لقد كان الإغراء شديدا، وكان التحول سريعا.
هناك حقيقة أخرى لابد من الإشارة إليها.. ذلك أن المعايير التي وضعت للقصة القصيرة، معايير كلاسيكية، بمعنى أن واضعوها كانوا مرتبطين في تشخيصهم للجنس الجديد بالرواية العتيدة، فانتهى بهم المطاف إلى تسطير خصائص لا تبتعد كثيرا عن عما هو معروف في الرواية الرومنسية والواقعية وغيرها.. أما الإغراء الذي تقدمه الرواية فهو إمكانية التجريب خاصة مع الرواية الجديدة التي فسحت المجال أمام الكاتب ليتجاوز المتعارف عليه إلى إثبات ما يريده هو من الفن. بعيدا عن التقنينات والمعايير التي يراها البعض أنها تثقل كاهل الرواية، وترغمها على استكتاب نص واحد أبدا. وربما أغرى هذا الزعم كثيرا من الكتاب للتحول من القصة القصيرة إلى الرواية ظنا منهم أنهم سيدخلون مجالا سهلا يتمتع بحرية لا يحدها حد ولا يشترط فيها شرط. فكان هذا الوهم سببا في وجود كثير من السخافات التي تمتلئ بها صفحات الروايات اليوم بزعم أو بآخر.
هل يحق لنا أخيرا أن نسأل هذا السؤال؟ هل انتهت القصة القصيرة؟
إنني من الذين يؤمنون أن الموضوع الفني يختار شكله، وليس أمام الفنان إلا الاستجابة. فالموضوع الذي يريد أن يتمظهر في الرسم كان له ذلك لأنه لن يكون أكثر جودة وتأثيرا في غيره من الأشكال. والذي يختار أن يكون صوتا فلأن الصوت أنسب له من غيره. وهكذا.. صحيح أننا نستطيع أن نعالج الموضوع الواحد في الفنون كلها، ولكن الذي لا نستطيعه حتما هو أن نلمس عين الجوهر فيه ونحن نفعل ذلك. إن جوهر الفكرة في الفنون شبيه بالماسة التي تتعدد صفحاتها ولكل صفحة منها بريقها الخاص ولونها المتميز، فإذا زعم زاعم أنه أمام الماسة يشاهد وجوها واحدة قلنا له لقد فاتك ما في الماس من روعة التعدد في الجوهر. إني أخال الفكرة على هذا النحو يكتب فيها هذا فيجلي بريقا، ويكتب فيها ذاك فيجلي بريقا آخر. وهكذا دواليك من فن إلى فن. وتتجلى العبقرية في صفاء الرؤية ووضوح التجلية وهنا يتمايز الكتاب والفانون.. إنه مجال الصفاء واكتمال التجربة.
فإذا شعر الأديب أن فكرته لا تحتاج إلى كثير من الثرثرة، ولا إلى واسع من البسط، وأنها إن خرجت مكتنزة ممتلئة كانت أكثر تأثيرا في قارئها اختار لها شكل القصة القصيرة، واستجاب لداعي التكثيف فيها، واقتصد في اللفظ، وأخرج الجملة على مقاس العبارة، وجعل الأساليب خادمة لا مخدومة، وانتهى به المطاف إلى فكرة تتحدث بنفسها عن نفسها، قلنا له هنيئا إنك من كتاب القصة القصيرة.
وللقصة القصيرة على صفحات المواقع والأندية ما كان لها في الصحف والمجلات شريطة أن تحتفظ لنفسها بطابع الصرامة الذي اكتسبته من قبل وأن لا تسف باعتمادها لغة الشعر الحديث، في سج جمله، وإغراقه في الذاتية النرجسية المريضة، التي لا تتعدى الحديث عن هو وهي. وكأن العالم وهمومه قد اختصرت في هذا الفضاء الخلابي.. إنها الورطة التي وقع فيها الشعر الحديث والسجن الذي سجنه فيه كبار شعرائه ابتداء من نزار وانتهاء بآخر قصيدة يكتبها شاب في مخدعه.
إن القصة القصيرة لا تصلح أبدا لمثل هذا التأنيث المريب لأنها أشبه بفلسفة فكرة رأت أن تتمظهر في ثوب القص.
مجذوب العيد
 قرأت واستمتعتُ هنا بهذه الرؤى التي تترصد المستقبل بكثير من القلق على خوف السقوط ... القصة القصيرة هي عصارة حكيم و عظيم و أديب حقيقي إنها تشبه الهايكو في اختصارها وكنوزها . أعجب ممن لم يكتب يوما قصة ولا رواية ولا خاطرة كيف يقدم على جنس أخطر على جميع النواحي !!!!  
حبيب مونسي
 أخي الكريم.. وأنت الشاعر تحس بأنين اللغة وهي تعتصر اعتصار من أجل احتواء معنى في شرنقة وزن وتراها تراوده بالتشبيه والاستعارة والكناية، وتداريه بالاستفهام والتقرير وتجاريه بالبسط والاسترسال، وتنكص عنه بالتركيز والاختصار، وتلوذ بالإيجاز والمجا...ز.. إنها تفعل كل ذلك من أجل التكثيف.. وإنني حين أنظر في القصة القصيرة أجدها مثل القصيدة ..شأن واحد وهم واحد وخصائص واحدة.. إنها شعر النثر.. لذلك فهي أعوص من الرواية وأسلس من الخاطرة.. نعم تتوسط بين هذه وتلك لتفسح مجالا أمام المبدع ليقول فيها ما لا يحسن قوله فيهما مجتمعتين. 
السعيد موفقي
 الأستاذ الأديب حبيب مونسي
تتبعت موضوعك باهتمام و راقني موقفك الصريح و الموضوعي في شأن االقصة القصيرة التي أصبحت تتدافع عليها الكتابات بوعي أو بغير وعي ، و المسألة أكثر من أن يكتب عنها أو فيها ، و أشاطرك الرأي عندما يتحول الأمر إلى مجرد كتابة و نشر لدى كثير ممن يظنون العملية اسما أو حضورا في الفضائين ، الواقعي أو الافتراضي...
الورقي أو الاليكتروني...و بالتالي يثير هذا الأمر تخوفا مما تؤول إليه العملية الإبداعية عموما و جنس القصة القصيرة خصوصا ... 
عبد الحفيظ بن جلولي
 تحية طيبة،،
القصة القصيرة ككل الفنون السردية تمتح من القراءة، وكلما تخلف فعل القراءة تخلف فعل الكتابة، حيث نجد مارغريت دوما ترى أن القراءة تعني سبقيا الكتابة، بمعنى أن فعل القراءة سابق لفعل الكتابة، وعدم القراءة هو ما أدى إلى استسهال التثبت بهويات إبداعية وهمية في الحقيقة.
شكرا العزيز مونسي على هذه الإضاءة الإفاقية..
تحياتي واحترامي.

حبيب مونسي
 عبد الحفيظ تحية طيبة
أحيي فيك اجتهادك ومثابرتك وأقرأ لك في هدوء.. وأرى فيك مخايل الناقد الأدبي الذي لم تثقله أوزار الأكاديمية ولم تكبله أباطيلها العبثية.. والقارئ الحر مثل الطائر الحر ينزل على أي فنن يختاره هولا الذي تختاره له اعتبارات خارجية.. كأن يقرأ لفلان لأن الناس يقرؤن له، وأن له حظوة عند هذا وذاك.. أن تغردخارج السرب خير لك من ترطن مع الرتل البليد..
أنت في قراءاتك تمثل جيلا جديدا له ذائقته الخاصة أسأل الله أن لا تتلوثبالمقولات الحداثية الفارغة.. إقرأ تلذذ ثم قل بلغتك وأسلوبك ومعاييرك لماذااستحسنت هذا ولماذا مججت ذاك ودع عنك قول فلان وفلان ممن لا يحسنون سوى ترديد مقولات غيرهم.. كم هممت بالتعليق على قراءاتك ولكنني أحجمت، وقلت أترك الأمر للقاء ودي بيني وبين حفيظ..أسمع منه، وأرى ما يرى.. ثم نتحاور..
دم طيبا كما عهدتك.. حييا كماتحمل قسماتك بصدق.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،