يشكل الشعر الملحون من الوجهة الثقافية متنفسا شعبيا للذات والذائقة على حد سواء، ذلك أن الذات تبث أشواقها من خلال شكل شعري تجعله كلماته وعباراته في متناول العامة من الناس، دون أن يخلو من جماليات وصور قد لا نجدها في الشعر الفصيح.
تقديم:
إن التجاور الذي نشهده اليوم بين الفصيح والشعبي لا يكشف عن ثنائية ثقافية مثلما يزعم البعض، وإنما يكشف عن مستويين ثقافيين في الشريحة الواحدة. ذلك أن المتذوق للفصيح هو عينه المتذوق للشعر العامي، وإن كان جمهور الثاني أكثر عددا، وأكثر احتفالية بمادته، حفظا ورواية، خاصة في جنوب الوطن. بل وكثيرا ما يكون شاعر الملحون صاحب ثقافة فصيحة اكتسبها من دراسته للأدب العربي، وأن ورود كثير من أشماء الشعراء في شعره يعود إلى هذين المستويين في ثقافته. بل إن جنوح كثير من شعراء الملحون إلى ما يسمى اللغة البيضاء، إنما هو محاولة منهم لكسر حاجز المحلية أولا، ولتطعيم اللغة المحلية بكثير من الكلمات والعبارات الشائعة في الفصيح، حيث تتحول القصيدة بين أيديهم إلى لغة وسطى ترتفع عن العامي الكزيز المستغلق إلى الفصيح السهل الذي يمكن تداوله بسهولة بين الشرق والغرب.
1-الملحون: اللغة والأداء:
من تسميته نستشف أن هذا الطبع من الشعر الشعبي كان يُؤدى (يُنشد) في حلقة من الناس، مساء أو في الأسواق، وكان الشاعر يعتمد كثيرا على صوته ترنيما وتطريبا، وعلى حركاته أداء، يدفع به المعنى إلى قلوب الحاضرين وأفهامهم. إننا في هذا الفعل إزاء عملية مسرحة القصيدة. وهو الشأن الذي كان جار قديما مع القصيدة العربية منذ الجاهلية. حين كان الشاعر يقصد أسواق العرب ليعرض بضاعته الفنية قصد التكسب. ولم يكن العرض عرضا باردا فاترا وإنما كان العرض فيه كثير من الإغراء لاستمالة القلوب والأسماع. وقد فسر النقد القديم تزيين القصائد بالغزل في مطالعها على أنه ضرب من الاستمالة يبدأ به الشاعر ليلفت الانتباه إليه، فإذا ضمن الانتباه، شرع في عرض موضوع قصيدته. إنها احتفالية قائمة بذاتها لها طقوسها وأقوالها وحركاتها.. وكل شاعر يتفنن في الإخراج الذي يضمن له القدر الكافي من الفرجة والحضور. فقد أخبرتنا كتب التاريخ أن الخنساء كانت تلقي قصائدها من فوق كتفها تيها واختيالا، وأن حسان بن ثابت (رضي الله عنه) كان يعمد إلى لحيته فيخضبها بالحناء ليبدو حين الهجاء وكأنه والغ في دم. وكان آخرون يتكئون على أقواسهم وسيوفهم، وكان بعضهم يضعون الشارات الحمر على رؤوسهم.. وهكذا..
إننا مع الشاعر الملحون في شأن آخر.. إنه عادة ما يبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنه يدرك أنه في مجتمع متدين، وأنه حالما يسمع الحمد والصلاة سيلتفت ويترك ما في يديه ليقبل على الحامد المصلي.. ذلك هو تفسير المطالع الدينية في قصائد الملحون. فإذا آنس الشاعر من حضوره الإقبال والانتباه شرع في موضوعه سالكا الهيئات التي هي للشعراء في مختلف العصور. إنه ينشد شعره واقفا إذا كانت القصيدة للبطولة والفخر والجهاد والمصالحة.. ويلقيها جالسا متربعا إذا كانت القصيدة غزلية في مجلس سمر يستوجب الهدوء وانبساط النفس.. كذلك قصائد الزهد والحكمة وغيرها.
فالملحون إذا يأخذ شارته من الترنيم الحاصل عند الإنشاد أولا ويقيم القصيدة على ضرب من التوازن الداخلي الذي يسمح بإجراء بعض التلحين في مقاطعها. ومن ثم جرت هذه النصوص مجرى المقاطع التي يتغنى بها العامة في كثير من حركاتهم. ذلك أن الملحون يصاحب كل حركة تتصل بالجانب العملي من الحياة كالزرع والسقي والرعي والبناء والسفر. إنها على اللسان تصاحب الحركة وتسهلها، وتتصل بالموسم وتشرح ما فيه وما يجب له. إنها في حركات النساء في البيت طهوا وغزلا وغسلا، وفي حركات الرجال حرثا وزعا وحصدا. فهي ككلمات التعويذة التي تبعد سوء الطالع، وتؤمن الخير، وتدفع الضرر. وهي ذاكرة الأمة التي تحصي تاريخها، وأسماء رجالاتها، ووقائعها. فحين يجلس الشيوخ مساء يفتحون سجل الذاكرة من خلال قصيدة الملحون لتروي، لتعلم، لتشرح، لترغب، لتزهد.. لتفعل ما تفعله الثقافة اليوم بوسائلها مجتمعة.
إن الأداء هو الوجه الثاني لقصيدة الملحون، بل لا يجوز لنا تسميتها كذلك إذا لم يصح فيها جانب التطريب الذي يسهل مرورها إلى الفكر والذاكرة. فالأداء الذي نحدده صوتا، تنضاف إليه اليوم تلك الحركات التي يأتيها الشاعر أو الراوية ليسند بها النص، فيرفع معانيه إلى المشاهدة تمثيلا وتخييلا. ومن هنا اقترب الملحون من الأغنية. بل الأحرى اقتربت الأغنية من الملحون إذ لن تجد فيضا من الكلمات يسهل عليها استغلاله مثل شعر الملحون. إنها تقتات من غرسه، وتشرب من فيضه، فهي عالة عليه. وإذا تفحصنا جوقة الأغنية البدوية جيدا وجدناها، تتألف من (قصاببين) وناقر دف. وهي تشكيلة لها دلالتها في لتجاء الأغنية إلى قصيد الملحون، إذ يتفرد الشاعر أو الراوية بأداء النص، وتصاحب الجوقة ذلك الأداء محاولة إخراجه نغميا بواسطة الآلات.. وكأنها لا تقوم بشيء سوى تأثيث الصمت والانقطاع أثناء الأداء الشعري. من ثم حافظت الأغنية البدوية على نمطية واحدة تقريبا في كافة منجزاتها.
2-الملحون وأغنية الراي:
كثير من الناس يجدون في أغنية الراي انتكاسة للملحون، بل تشويها لحقيقته وطبيعته، وخروجا عن سننه وقواعده. ويرون أن ما يؤدى اليوم ليس قصائد للملحون، وإنما هي تركيبات قولية تفتقر إلى كل صفات فن القول، يكتبها شباب لا هم لهم سوى إخراجها في إيقاع معين يرتكزون فيه عل صخب الآلات وضجيج المكبرات. فلا يمكن أبدا أن يدعي أحد أن الكلمات التي يؤديها فلان هي من قبيل الشعر الملحون. وأول من يرفض هذا الربط هم الشعراء أنفسهم الذين يثورون ضد أناس امتهنوا هذا اللون الساقط من الكتابة، يبيعونها بأغلى الأثمان. ومعنى ذلك أننا أمام ظاهرة جديدة لا صلة لها بالقصيد الشعبي، ولا رابط يربطها به، وإنما هي ظاهرة اجتماعية يجب دراستها انطلاقا من نصوصها لمعرفة الرسائل المخبأة فيها، وما يريده الشباب منها حين التأليف، وحين الاستماع. لأننا سنكون بين طرفي عرض واستهلاك.. والعرض لا يخلو من توجيه وترتيب، والاستهلاك لا يخلو من استسلام وفراغ.
إن أول خروج لأغنية الراي عن الملحون هو عدم الالتزام بالنص والتصرف فيه بحسب الأهواء، وكأن العبث الذي يطال نص الملحون لا يشوهه فحسب وإنما يشوه رسالته، ويبعده عن الغاية الثقافية التي أوجد من أجلها. ثم تأتي مسألة المزج بين اللغتين. فقد غدت أغنية الراي حلبة تتصارع فيها كلمات عربية وأخرى فرنسية في نسيج مضطرب مفكك، لا يكشف سوى عن تفكك في البنية الثقافية والأخلاقية التي تنتج هذا الضرب من القول. ثم تأتي مسألة العواطف والأحاسيس، ذلك أن الأغنية في جميع عصورها وعند سائر الأمم تروج للعاطفة النبيلة والإحساس الرفيع، ولا تتغنى أبدا بالرذيلة والشر، ولا تدعو إليها تصريحا أو تلميحا.. فكل غناء إنما كان ليرفع الصافي من الأحاسيس، ويعرض الغالي من المشاعر، فيكون تربية للأذواق، وتصفية للأنفس، وتهذيبا للمشاعر. بيد أن انحراف أغنية الراي عن الملحون، جعلها تركب الشاذ من الأحاسيس، والمتطرف من المشاعر، والمريض من الأذواق. وجعلت كلماتها كلمات رفض للصفاء والنقاء، وأنغامها زعقات في وجه الانسجام والتكامل.
إن الدارس حسن يضع بين يديه نص أغنية الراي فإنه يضع شريحة من الغضب، تتجسد في الكلمات النابية، وتتمظهر في المعزوفات الصاخبة، سريعا ما تظهر، وسريعا ما تنطفئ، وكأنها النار في الهشيم، تدفع بعنفوانها المشاعر نحو الثورة والانتفاض، ثم تخمد كما يخمد المخدر في مخدره، والسكير في سكره.. ثم تتوثب من جديد في كلمات أشد بطشا وتطرفا.. إنها دوامة لن تسكن إلا إذا تغير الوضع، وانتفت أسبابه. فالأغنية الأمريكية تقدم لنا الدليل الحي على هذا الثوران المستمر الذي سيأكل مادة الكلمات، ثم يلتهم مادة الأصوات ثم قد ينطفئ كما تنطفئ الجمرة في الماء. هل ستصمت الأغنية؟؟ نعم ستصمت الأغنية.. أغنية الراي أغنية الراب.. وكل أغنية تسوق الغضب لأن الغضب حطب ستأتي ساعة نفاده، فإن لم يجد ما يأكله أكل ذاته.
لقد خرجنا مع أغنية الراي من الفن من أضيق بواباته إلى عالم التجارة. لم يعد مطرب الراي فنانا يحس بخصوصية تفرده عن غيره من الناس بما يحمل من فن، وبما يخطط لفنه من تألق وصعود. بل إن مغنى الراي مجرد ترس في آلة جبارة تدر مالا، يديرها أناس لا صلة لهم بالمشاعر النبيلة والأحاسيس الجميلة، ولا هم لهم بدور الفن المهذب. إنما هم يعلمون أنهم كلما أشعلوا نار الغضب في الكلمات، وفتحوها على المجاهرة بالمكنونات، كلما تدفقت الأموال في جيوبهم. إن قيمة المطرب اليوم تقاس بالسهرات، وبحجم القاعات التي يمكنه ملأها، والوتيرة التي يستطيع تلبيتها للدورات. هناك من يسجن في حافلة متنقلة بين المدن. يأكل ويشرب ويحيا في الطرقات لأنه مربوط بعقود في سلسلة من المدن المتباعدة.
إن ما يراه الناس فيه من (نعمة) إنما هو بهرج سريعا ما يزول كلما أسدلت الستائر وخفتت الأضواء، ووجد المطرب نفسه على غرار جمهوره منهكا بالتعب والمخدرات، مضطرا للعودة إلى نفس الدورة الجنونية، صراخا وعويلا وشتما.وو... هذا الضغط هو الذي يصنع التجاوز في الكلمات، وهو الذي يولد التطرف في المواقف، وهو الذي يخرج للناس أخيرا هذا الذي يسمى أغنية الراي.كم يكون من المفيد دراسة مغني الراي دراسة تتتبع اليومي عنده، في علاقاته مع ذاته والآخرين، في شكل المستقبل الذي يطمح إليه، في ما جناه في صعود نجمه وتألقه، وفيما حصده في أفوله وانحداره. حينها سنجد البون شاسعا بين مطرب الأغنية البدوية في بساطته وتراثيته وبين مطرب الراي في تفككه وانتفاء هويته.
إن أغنية الراي جرس إنذار لا يزال جرسه يعلو ويصم الآذان، لعل الدرس الاجتماعي والنفسي يلتفتان إليه قبل فوات الأوان.
نشر في الموقع بتاريخ : الجمعة 17 صفر 1432هـ الموافق لـ : 2011-01-21
التعليقات
معروف محمد آل جلول
الأستاذ الدكتور ..الوقور..حبيب مونسي..
لقد كتبت فأفصحت..وفسّرت فكشفت..واقترحت فأصبت..
حيث يقف المتلقي لهذا المقال بنفسه على الفوارق الأزلية الكامنة بين الشعر الفصيح،وجاره الملحون..ومدى تقارب دوافعهما ،وتواتر آثارهما وغاياتهما السامية ..
ثم الفوارق المتباعدة بينهما معا وبين الراي..
وإذا بالقارئ اللبيب يطرح سؤالا على نفسه:
هل كان الظرف أثناء فترة الاستعمار أحد دوافع التوجه الفلسفي القاضي بالتمسك بالأصول قصد المناوءة والنكاية في المستعمر ،والرّغبة الجامحة في بذر فكرة التحرر ،بتوعية الأجيال المعاصرة للفترة؟؟
فكان هذا التوجه ـ في حد ذاته ـ ضرب من المقاومة والتّصدي..؟؟
فكان هذا التوجه ـ في حد ذاته ـ ضرب من المقاومة والتّصدي..؟؟
وهل دعا الظرف بعد الاستقلال إلى بحث سبل الترف بكل أطيافه وألوانه ..وتغيرت الوجهة بتغير الظرف ،وترك هذا التغير بصمته واضحة على المبادئ والقيم ،فكانت الهزيمة داخلية ،فتحت الأبواب أمام فكر دخيل مناهض للتراث وأصوله؟؟فكان الغزو الفكري؟؟
قد تتكرمون ـ أستاذنا الجليل بتفصيل هذا القول بلغتكم الفصيحة فنفهم أكثر..ولكنني أقر أن هذا اللون الهجين الدخيل لن يجد له مكانا مستقبلا..
قد تتكرمون ـ أستاذنا الجليل بتفصيل هذا القول بلغتكم الفصيحة فنفهم أكثر..ولكنني أقر أن هذا اللون الهجين الدخيل لن يجد له مكانا مستقبلا..
وتبقى الأزمة أزمة ثمار فاسدة مُرَّة جناها الشباب/الذي لم يحظ بوفرة علم / ـ عبر رواد الراي ـ فشكل ظاهرة الانبهار السلبي..
وكم يبقى مفيدا فهم هذا الموضوع بمختلف أبعاده
بالغ تقديري..
تعليقات
إرسال تعليق