"الوداع
للأدب" " L’Adieu à la littérature"( ) و"ما نفع الأدب؟" " À quoi
sert la literature ? و"ما
قيمة
الأدب؟" " Que vaut la
littérature ?" ( ) و"من
قتل الأدب؟ "Qui a tué la littérature" ( )
حينما تتصدر مثل هذه العناوين أغلفة الكتب، وصفحات المجلات، يدرك القارئ أن شيئا خطيرا على وشك الحدوث، أو أن بوادره الأولى قد خطت أسطر نعيها في نعش الأدب. وأن العد العكسي قد حرر بكرته لتتراجع سريعا عبر الأرقام إلى الصفر.. إلى السكون.. إلى الموت. بيد أن القارئ سيتساءل في دهشة عن الأسباب التي أدت إلى هذه الواقعة المريعة، وسيكون سؤاله عنوان غباوته التي ظل سادرا فيها قرابة النصف من القرن. تمر عليه الأحداث مرورها السريع براقة، تلتمع بألف لون ولون، وهو يحسب أنها في قوتها وضجيجها ترفع آيات الصحة والسلامة فيها. إلى الغاية التي تباغته فيها حشرجة بغيضة في عجلة سيرها، تنبئه بالعطب الوشيك والنهاية المأساوية.
منذ فترة تقارب النصف قرن، كتب "هنري مللر"
"Henri Miller" كتابه
الخطير.. كتاب النبوءة.. وأسماه
"زمن القتلة" ليتهم المبدعين بممارسة فعل القتل الجماعي للفن والأدب.
واستقبل القراء –يومها- الكتاب بشيء من الريبة وعدم الاكتراث، وبقيت صرخة المفكر
يدوي صداها في واد عقيم، بعدما سدت الحداثة بإحكام آذان المتلقين. واستمر التجريب
- بعدما أقصي النقد- في العبث التخريبي الذي ولَّد فتنة التخريب لدى البعض
ليتخذوها شعارا يمارسون من ورائها الإبداع المزعوم. وحين تتفرد اللغة العربية في
المقاربة الصوتية بين التجريب والتخريب، تدلنا على أن التجريب إن لم يكن له من
الحدود والموانع الضابطة، سينقلب سريعا إلى تخريب، يكون في فتنته أمتع من البناء
والتشييد.
ربما لا يستفيد القارئ من التعميم الذي نقدم به هذه
الحقائق، بقدر ما يستفيد من الشهادات التي ننقلها عن أصحابها وهم يعاينون مراحل
الجريمة، حين يضعون أيديهم على مواطن الألم في الأعضاء المصابة.
لقد بدأت معاينة "هنري مللر" من ملاحظة بسيطة،
تعدها الحداثة الشعرية اليوم من منجزاتها الفنية الكبيرة، غير أنها في عين المفكر
الناقد بداية التعفن الذي سيسمم العضو قبل أن يشله شللا مميتا. لقد لاحظ :« أن
الشاعر الحديث، يبدو وكأنه يدير ظهره لجمهوره، وكأنه يحتقره. وللدفاع عن نفسه،
يقارنها عادة بالرياضي، أو الفيزيائي، الذي انتهى به المطاف إلى استعمال نظام من الرموز
المستغلقة على الغالبية المثقفة. إلى خطاب باطني لا تفهمه إلا النخبة التي تنتمي
إلى طقوس الشاعر. إنه يبدو وكأنه قد نسي أن وظيفته تختلف كلية عن وظيفة أولئك
الذين يجابهون عالم الفيزياء أو عالم التجريد.» ( ) فالأمر إذا ليس بالملاحظة العابرة التي تسجل في دفتر
الانطباعات، وإنما هي حفر في أصول المشكلة التي نعاينها اليوم. إن الشاعر الذي
يدير ظهره لجمهوره، لا يفعل ذلك في حركة جسدية بسيطة، وإنما يبدأ الاستدبار من قطع
التواصل الذي يفرضه الشعر عادة بين الشاعر ومتلقيه، إذ ليس له من وجود إلا من خلال
ذلك الحشد المطل عليه، والذي ينتظر منه جديده كل حين. فالعلاقة بينهما علاقة وجود
واستمرار. فإذا أخل أحدهما بها كان الانقطاع وكان الموات. وا لشاعر الذي يدير
ظهره، يبدأ أولا بالتنكر للرسالة المنوطة به، ويعتبر نفسه في حل منها، وأن لا حاجة
له في وجود جمهور ينتظره بين الحين والحين، وأن بضاعته ليس للعامة من الناس، بل هي
خطاب للمريدين الذين يمارسون الطقس نفسه. ذلك هو منشأ الاحتقار والازدراء، وذلك هو
مبعث الغرور والوقاحة.
لن يكون الشعر رموزا تجريدية مستغلقة.. ولن يكون حديثا كهنوتيا مشبعا بالظلال والظلمة.. ولن يكون تلاوةً يُرزَّم بها في دوائر مغلقة، في عتمات الأقبية الرطبة. فشعراء اليوم – يضيف هنري مللر:« يتهربون.. يتلفعون بخطاب كهنوتي يزداد غموضا يوما بعد يوم. وبما أنهم يتعتَّمون الواحد بعد الآخر، فإن المجتمعات التي شهدت مولدهم تسعى حثيثا إلى نهايتها.»( ) إنهم يتهربون من المسؤولية التي ألقاها الشعر على عاتق الشعراء منذ أن كان الشعر شعرا، منذ البدايات الأولى التي وجدت فيها الذات حاجة البوح بالقول والإفصاح به ليشاركها غيرها حرارة الموقف ولفحة المشاعر. وكأن الذي يتهرب من مثل هذه المسؤوليات، يعلم جيدا أن ما تحمله جعبته ليس بالجوهر الذي تلتمسه الجماهير المترقبة، وأنه دعيًّ ينتحل ثوب غيره، لذلك يسارع حثيثا إلى الغموض يلبسه رداء سميكا يحجب به الخدعة التي يركبها.
لن يكون الشعر رموزا تجريدية مستغلقة.. ولن يكون حديثا كهنوتيا مشبعا بالظلال والظلمة.. ولن يكون تلاوةً يُرزَّم بها في دوائر مغلقة، في عتمات الأقبية الرطبة. فشعراء اليوم – يضيف هنري مللر:« يتهربون.. يتلفعون بخطاب كهنوتي يزداد غموضا يوما بعد يوم. وبما أنهم يتعتَّمون الواحد بعد الآخر، فإن المجتمعات التي شهدت مولدهم تسعى حثيثا إلى نهايتها.»( ) إنهم يتهربون من المسؤولية التي ألقاها الشعر على عاتق الشعراء منذ أن كان الشعر شعرا، منذ البدايات الأولى التي وجدت فيها الذات حاجة البوح بالقول والإفصاح به ليشاركها غيرها حرارة الموقف ولفحة المشاعر. وكأن الذي يتهرب من مثل هذه المسؤوليات، يعلم جيدا أن ما تحمله جعبته ليس بالجوهر الذي تلتمسه الجماهير المترقبة، وأنه دعيًّ ينتحل ثوب غيره، لذلك يسارع حثيثا إلى الغموض يلبسه رداء سميكا يحجب به الخدعة التي يركبها.
لقد سجل التاريخ هيئات الكهنة الذين استغفلوا الناس
واستعبدوهم بحيل من هذا القبيل، وهم لا يملكون شيئا من القدرة التي يدعون. إنهم
يهولون.. يتوعدون.. يطلقون ألسنتهم
بكلام صفيق يلوكنه في غمغمات مبهمة. فإن صدَّقهم المجتمع في مزاعمهم، ساروا به إلى
نهايته المحتومة. كذلك الأمر بالنسبة لهؤلاء الشعراء، إن صدقهم الجمهور سارعوا به
إلى نهايته.
إننا حين نقيم مقارنة بين الكاهن والشاعر، لا نقيمها من
قبيل التشبيه وحسب، بل الشاعر عندنا ضرب من الكهنة، الذي يعرف كيف ينشر المطوي من
النفوس، ويرتقي بها في علياء المكارم. فيجعل البخيل كريما، والجبان شجاعا، والغافل
يقظا.. إنه النَّفَس الذي ينفخ في جمرات النفوس فيؤجج نارها، ويبعث حرارتها. فإن
أساء الفعل، وأخطأ الوظيفة انتكست على يديه الجموع التي تتبعه، وفقدت أحاسيسها،
واعتراها الذبول والموات. ذلك هو التهديد المزدوج الذي يوشك أن يعصف بالشاعر
والمجتمع. فالشاعر:« لم يكن مهددا أكثر من اليوم.. ويوشك أن يختفي كلية»( ) إن
اختفاءه في تضييق الدائرة التي تلتف حوله، وتزعم أنها تفهم عنه أقاويله، وتلتذ بها
وتطرب. وكلما انسحب منها فرد انفرط العدد، وتبدد الشمل، وانتهى الشاعر سجين الصمت
والعتمة. إنه يقتل نفسه في كل نص يكتبه على الهيئة التي تقصي المتلقي وتزدريه،
وتدير له الظهر. فشعره:« المستغلق الكهنوتي أودى بحياته( )
لم يكن الشاعر أبدا واحدا مثلي ومثلك. إنني وإياك نعيش
في دائرتنا الصغيرة وحسب. غير أن الشاعر لا حياة له إلا من خلال جمهوره الذي يجده
في كل نص من نصوصه غضا طريا، متجددا مع كل تجربة يبثها في الكلمات والأوزان. إنه
يجده على هيئة الروح الساري في القصيدة، المتوثب بين النصوص، الراكض في حقول التجارب
وراء السنين. لا يعترف بالزمن ولا يشيخ. ولا يحسب للمسافات حسابها، ولا للأجناس
انتماءها. إنه فوق ذلك كله ينثر بعضا من ذاته يقتات عليه الآخرون. تلك هي الميزة
التي أبقت لنا طرفة بن العبد، وزهير، والمتنبي، وأحمد شوقي، والشابي، ومفدي زكرياء
أحياء غير أموات، يتجددون فينا وبنا، كلما صوَّت حرف من أحرف قصائدهم شاهدا أو
إنشادا. فإذا فقد الشاعر هذا التجدد فقد حكم على نفسه بالموت.
إننا منذ فترة ليست بالقصيرة :« بدأنا نشيد على جثمان
"رامبوا" "Rinbaud" الشعري قلعة بابل»( ) إنها الكناية التي لا تسمي الأشياء
بأسمائها تجنبا لفضاعتها. غير أنها الكناية التي تحتفر عميقا في الضمير الجمعي
حقيقتها، عساها تجد من يربط بين الصورتين ربطا يستحضر التاريخ والوقائع. لقد أصبح أهل
بابل يوما يتحادثون، ولا يفهم أحدهم عن الآخر شيئا. لقد تبلبلت الألسنة، وفقدت
اللغة خاصية التوصيل، وعمت الفوضى. فلم يجد أهل بابل أمامهم سوى الانزواء بعيدا في
مجموعات صغيرة، يبدو أنها نفهم بعض الفهم عن بعضها بعض. إنه موت أعقبته حياة
بدائية تتعثر في خطواتها الأولى من جديد. عليها أن تصنع لغتها الخاصة.. أن تنحت
لها من واقعها الجديد كلماتها الجديدة.. عليها أن تتلعثم كثيرا قبل أن ينطلق لسانها كما عهدته من
قبل. إنها اللعنة التي صبت على رؤوس أهل بابل لمَّا لم يشكروا نعمة التواصل
والوضوح.. نعمة تسمية الأشياء بأسمائها التي هي لها أصالة. إنها اللعنة التي سارت
في مسلك هواهم.. استغلقوا فغُلِّق عليهم.. وتَبَلبَلوا فبُلبلوا..
إن واقع الشعر اليوم - إن أصر على السير في مسلك الغموض
والاستغلاق والسذاجة والتسطيح- دفع بين يديه أسباب الكارثة التواصلية التي شهدتها
بابل في عصرها الأول. لأننا لم نتساءل عن وظيفة الشعر.. عن دوره.. عن مساره..
عن جمهوره.. لقد تركنا الدوائر
تضيق شيئا فشيئا حتى أوشكت أن تصل مراكزها. فإن هي وصلت عم الصمت أرجاء القلعة، حتى وإن امتلأت
ضجيجا وصراخا. إنه التوصيف الحق لواقع العصر الذي ينتهي إلى كون:« الناس لا
يتحاورون فيما بينهم.. إنها مأساة العصر الحديث. لم يعد المجتمع منذ زمن مجتمعا
جمعيا، لقد انفرط إلى ذرات خرقاء..»( ) بل إن المجهود الوحيد المطلوب منه اليوم هو:«
أن يفتح عيون بصيرته، وأن يمعن النظر في قلب الواقع، وأن لا يخبط في مستنقع
الأوهام والأخطاء.»( )
أليس في مقدورنا اليوم أن نتريث قليلا، وأن نعيد النظر
في كل منجز باغتنا وأمطرنا بوابل من صوره الخلابية، ودفع بنا وراء إغراء السهولة،
ننشر العفن في تربتنا الإبداعية، فنأتي على الغض واليابس، ونمزق أسباب التواصل
بيننا؟.
تعليقات
إرسال تعليق