التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الفكر العربي المعاصر ومحاولات دنيوة النصّ القرآني والذات المعتنقة له: قراءة في المرجعيّات وفي المآلات. إعداد : إلياس قويسم

بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص البحث 
شكل التعامل الحديث والمعاصر مع كتاب الله (الوحي)المنزّل على قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،انعطافة مفصليّة في مستوى النظر إلى النصّ القرآني ومن خلاله إلى الذات المسلمة المعتنقة لمقولاته،على اعتبار أنّ العديد من المناهج التي تعاملت معه تنامت في حقل غير حقل الدراسات الإسلاميّة،بل ظهرت مع قراءة النصّ الأدبي من حيث هو منتج بشري /نسبيّ،من ثمّ يغد التكييف الإجرائي والمعرفي صعب المنال أو فعلا متعسّفا يأتي بنتائج في تضاد تام مع مقصود النصّ إن فهمت هذه المناهج على أنّها عقائد أو أطروحات إيديولوجيّة لا على أنّها آليّات مساعدة ورافدة لفهم أعمق وأكثر تقدّما من السابق،ولكن ضمن حدود نسبيّة الفهم البشري ومحدوديّته محدوديّة الآليّات الموظّفة في نطاق اشتغالها،نظرا إلى أنّ المحرّك ليس النصّ بقدر ماهي قبليّات القارئ وانتظاراته من دون اعتبار لوضع النصّ من حيث المصدريّة،لأنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ.
لذلك يغدو البحث في مرجعيّات القراءة المعاصرة للنصّ القرآني له شرعيّته المنهجيّة والمعرفيّة،لأنّه يطمح إلى محاولة تشكيل صورة أكثر وضوحا عن جهد القراءة العربيّة الإسلاميّة للتحيّز داخل حقل الحداثة وما بعدها.هذه القراءة التي ظلّت متعثّرة وتبحث عن ذاتها وسط هذا الكون من المناهج الوافدة علينا على السواء من الماضي ومن الحاضر،فهل تستطيع القراءة العربيّة الإسلاميّة المعاصرة أن تتجاوز هذا المأزق حتى تنحت ذاتها وتقدّم لنا قراءة تحافظ في الآن نفسه على قدسيّة النصّ القرآني وعلى الحداثة؟،كذلك هل تستطيع هذه القراءات أن توائم بين قداسة النصّ وحيويّته المضمونيّة والمعنويّة وبين حضور فاعل للإنسان إلى جانب فاعليّة النصّ المرجعي والحضور القويّ لمرسله/الله في كينونتنا وتاريخنا؟كيف السبيل إلى صياغة مناهج تساعد على إيقاع نقلة نوعيّة في مجال تعاملنا نصّنا المرجعي،من خلال حلقيّة الاستيعاب فالمواءمة فالتكيّف لجهود سلفنا في مجال علوم القرآن من أجل رسم صورة أكثر فاعليّة قادرة على الدفاع عن خصوصيّاتنا الإسلاميّة؟ فانطلاقا من وجه القراءة الذي تقدّمه هذه القراءات المعاصرة لمرجعيّاتنا عبر المواءمة بين مناهج السلف والمناهج الناشئة حديثا،سنكون أمام وضعيّة مصيريّة في مستوى علاقتنا بالنصّ القرآني المقدّس هل سنقدّم قراءة محيّنة دون مساس بقدسيّته وعلميّة وليست تلوينيّة؟والجواب المترتّب عن الاستفهام الآنف سيحدّد طبيعة حضورنا في هذا السياق التاريخي.
الفكر العربي المعاصر ومحاولات دنيوة النصّ القرآني والذات المعتنقة له :
قراءة في المرجعيّات وفي المآلات.
توطئة
اعتبرت عصور الحداثة في منظور هيغل،بما أنّها عصور جديدة تفتقر إلى أنموذج سابق للقياس عليه،فهي عصور مختلفة نوعيّا عمّا ألفته الذات الإنسانيّة فردا وجماعات،ومن ثمّ يغدو الحاضر المحاضر فترة انتقاليّة تستنفذ ذاتها في الوعي بنسق التسارع المحدث فيه،مع توقّع مستقبل مختلف نوعيّا عن الحاضر وجذريّا عن الماضي،بمعنى أنّ المنبثق الجديد يقوم في طور منه بداءة بإغراق المنظومات السابقة عنه في خزانة الماضي الذي قد مضى،مثل هذه الطفرة التي أحدثها الفعل الإنساني انتقلت به من وضع الإلفة والاطمئنان إلى وضع القلق الذي بات يداهم كلّ ما ظلّ باقيا من مكوّنات الأنموذج المفكّك،مثل هذا الإحساس الغامض بقدوم وضع جديد ضبابيّ الملامح هي الإرهاصات المعلنة والمهيّئة لهذا الظهور الأوّل لنموذج ما يعرف بعصور الحداثة،مثل هذا التأسيس لا يتسنّى له أن يستند إلاّ إلى أطروحاته الناشئة،بالنظر إلى وضع القطيعة الذي ارتأته مع جملة الإيحاءات والإلهامات المعياريّة للماضي التي هي غريبة عنه،وهو ما يطرح إشكال عثور عصور الحداثة على ذاتها أومشروعيّتها الخاصة من خلال صياغة ضمانات ذاتيّة بسبب غياب نماذج سابقة وجاهزة،ومن ثمّ غدا الفكر الغربي منذ لحظة الحداثة يتحدّث عن انفصامات وتعارضات وشروخ ملازمة للحداثة،لعلّ أبرزها تلك المتعلّقة بالتحلّل من قيم الماضي وأطروحاته وانشقاق دائرة المعرفة عن دائرة الإيمان وجملة توليداته المعياريّة والقيميّة النظريّة والإجرائيّة وخصوصا تلك المتعلّقة بحدث استقلال دائرة المعارف وانبثاق تمايزات داخل دائرة الثقافة،بمعنى إيقاع إجرائي لوضع استقلال الدائرة المعرفيّة عن دائرة الإيمان الميتافيزيقي-المتعالي،مثل هذا الانفصام الجذري بدأت تعبّر عنه المصطلحات المتداولة مثل الأزمة والتطوّر والتحرّر والثورة...وعليه تغدو سمة هذا العصر مميّزة في المعايير التالية: 
-العلم،باعتباره بحثا،وإسقاطا لتصوّرات قبليّة على الطبيعة بغية إدراكها رياضيّا.
-النظر إلى الأفعال الإنسانيّة من حيث هي تعبير عن ثقافة وحضارة. 
-غياب المقدّس وحضور التاريخ. 
-الخلفيّات الفلسفيّة للقراءات الحديثة والمعاصرة للنصّ: الدنيوة كظهور وتشكّل.
إذا جاز لنا اختصار جملة الآراء الواردة آنفا،فإنّنا نقف أمام عبارة "نهاية اليقين"(La fin de la certitude) معرفيّا يحيل مثل هذه المعنى إلى تجريد الحقيقة أو اليقين من "ألف لام" التعريف،فنغدو نتحدّث عن حقيقة أو يقين موقوت أو ظرفيّ قابل للنقض أو الاستبدال أو التجاوز بحكم طبيعة الفكر النسبي الذي نتحدّث عنه مع وضع الحداثة،فلم يعد بالإمكان الحديث عن المعنى الكوني أو الكلّي أو اليقيني،بل غدا الحديث عن دلالات متشظّية معبّرات عن خطابات أو مقولات تاريخيّة محايثة للممارسات الفرديّة أو الاجتماعيّة والأفعال والسلوكات ذات الطابع الظرفي-التاريخي،بحيث تدفع هذه الأفكار أو المناهج خارجها كلّ فكرة ثيولوجيّة تسعى إلى التحكّم في نظامها ونسقها بصورة متعالية عن المحايث أو التاريخي .بهذا المعنى نكون أمام نظام يقوم على أساس نسبويّة العقل والقيم والمبادئ،وفكر عدميّ يفكّك مكوّنات الحقيقة إلى حقائق متعدّدة ومتضاربة ومتداخلة،وويجزّئ المعنى إلى دلالات متشابكة ومتشظيّة،تلك هي دلالات تهافت اليقين وحلول عصر الارتياب والفراغ.باختصار تتعلّق المسألة بتبيان أنّ تاريخ الحداثة يكمن في فاعليّة العقل المنعكس حيث يسعى إلى إيقاع هامش مختلف بين وصف أصل ونشأة الأفكار وبين حركة إبداع الفكر النقدي.
إذن،تبرز الانعطافة التاريخيّة في وضع الحداثة،من خلال المواجهة بين الإنسان والإله،حيث ترتبط إمكانية الاختفاء والاغتراب التي تجعل من التاريخ الفكري مغامرة ضمن الأفق الوجودي للإنسان،حيث فاعليّة النفي التي تنفي الحلقيّة المنعكسة للمحاكاة الأصليّة"إنّني أنا الإله" بحيث تتحوّل لعبة المحاكاة والنفي إلى صراع بين الإنسان والإله ينتهي بتأسيس عالم هجره الإله وتلخّصها العبارة الإنجيليّة " مملكتي ليست في هذا العالم" .لا يمكن التردّد في إثبات المتولّد عن مثل هذه التصوّرات وهي تلك المتعلّقة بتأسيس تاريخ جديد للإنسان وتحويل مساره خارج إطار الإنسان المتديّن المنشدّ إلى المتعالي.فالنسيان هو وضع يروم تحويل مجرى الذات وتأسيس انعطافات فكريّة ومفهوميّة ومعرفيّة مخالفة لتلك التي كانت سائدة وفاعلة،ومن ثمّ نفهم من خلال النظر في تاريخ الأفكار طبيعة المعرفة المنعكسة التي تسعى إلى تأزيم المفاهيم الكبرى للثقافة الغربيّة،ومن ثمّ نثرها في الأطراف: أزمة فكرة الإله وأزمة النصّ وأزمة الذات وأزمة الحقيقة...
وعليه يكون المشغل الرئيس هنا،في مشكل البداية،بمعنى البحث عمّا هو أوّل،عمّا يأتي في المقام الأوّل، لأنّ النظر في هذه المسألة تترتّب عليه معايير وضوابط معرفيّة في مستوى النظر ومعالجة القضايا الكبرى المحايثة لفكر الإنسان والملازمة لسيرورته،من ذلك مسألة مصدريّة النصوص الثيولوجيّة أو الدينيّة في ظلّ واقع غربيّ يقوم على أساس الصراع بين الإنسان والإله،أي جدل الظهور والخفاء،بدل وضع الجدليّة والتواصليّة المثبت في المنظومة الدينيّة الإسلاميّة والكتابيّة،بحيث نلحظ في الواقع الدنيوي الناشئ نوعا من اللاتناسق بين الإلهي والإنساني،وضمن هذا المسار يغدو الوجود "في" العالم هو الأساس الذي تقوم عليه فلسفة الظاهريّات الحديثة ،وبهذا تكون عبارة أنّنا نعيش في العالم ونجرّبه هي البداية الحقيقيّة،ويترتّب عن ذلك أمر ثان تتمثّل في أنّ كلّ العبارات والمفاهيم التي تقال عن العالم مستمدّة من التجربة،أي من تجربتنا بالعالم وفي العالم ومعه أيضا،وكلّ فهم دورانيّ ليس إلاّ تفاعلا وإنصاتا له، وما عدا ذلك يغدو من قبيل المجاز العقلي من دون أن يعني مجاوزة ضوابط الوجود الأرضي-المادي.
تتطلّب مثل هذه الخيارات الفلسفيّة،أن تكون كلّ العبارات المعبّرة عن العالم وجملة المفاهيم الحافة أن تكون متخارجة من رحم هذا الوجود،أي من تجربة الذات في العالم وبالعالم،هنا يكمن المعنى الحقيقي للفكر الظهوراتي-الإمبيريقي في مطالبته بالتخلّي عن أيّ افتراض مسبق. ومثل هذا القول عن تحييد كلّ افتراض يعني أن يكون هو البداية والتبرير،وهنا يفترض بداية أن لا تبلغ الذات سمة المعرفة إلا ابتداء من هذه التجربة ومن هذه الرؤية ،أي الإقرار بأنّ التجربة تتضمّن افتراضاتها الخاصة وتوضيحاتها الملائمة. 
باختصار تكون عمليّة الدنيوة أو علمنة الوجود التي انخرط فيها عقل الحداثة الغربي،منحصرة في وجهين، الأوّل إجرائي سياسي،يتعلّق بتنظيم علاقة الدين الممثّلة في الكنيسة بالدولة،عبر عمليّة القطع أو الفصل بينهما،من خلال العمل على نزع هالة القدسيّة عن كلّ نشاط وممارسة ضمن الدولة وممثّليها،وتقييدها بضوابط ومعايير إجرائيّة ذات بعد مدني محض تخضع للمتابعة والتعديل العقليّة والمحاسبة ضمن الأفق البشري من دون التعلّق بمقولات غيبيّة تتعالى عن التاريخ البشري،ومثل هذا التمشّي أقرّ نظريّا وإجرائيّا سواء في الدول الغربيّة أو الدول التابعة ،في حين أنّ الوجه الثاني فهو فلسفي يتعلّق بإدارة الرأسمال الرمزي وتنظيم العلاقات داخل العقل ذاته"بين مصادر القيم والرموز المختلفة القديمة والحديثة،الدينيّة والعلميّة،الروحيّة والماديّة،الأرضيّة والسماويّة،وليس لتطوّر العلمانيّة بهذا المعنى أيّ برنامج عمليّ لأنّها الثمرة الطبيعيّة والعفويّة لتطوّر الحضارة،وما يرافقها من ارتفاع في مستوى استخدام العقل" شكّلت هذه الأرضيّة التاريخيّة لنشوء وتطوّر موقف علماني جديد من العالم،شرعيّة تسنّى بمقتضاها الفرد البشري من التخلّي التدريجي عن اللجوء إلى المسبقات اللاهوتيّة والتفسيرات الأسطوريّة أو المفارقة في مجال فهم مكوّنات الوجود،بمعنى أنّ الإنسان الغربي الحديث استقال فكريّا،في كثير من المواقف والتصوّرات عن توظيف آليّات سحريّة لفهم العالم والتعامل معه وتعيين وتحديد مواقفه،ومن ثمّ بدأت تتخارج إلى دائرة الضوء قيمة الفعل البشري الإبداعي وصيرورته وكذلك نسبيّته ومن ثمّ كان الانتقال من وضع التعلّق بالكليّات أو بالمفاهيم المطلقة إلى وضع نسبيّ يتّسم بالمرونة والتحوّل والتاريخيّة والزمنيّة
بهذا يعلن الفكر الغربي نفسه في الاختفاء الإرادي للإله وحيرة الإنسان نظرا إلى تحويل مجراه خارج الإنسان المسيحي المتديّن.مثل هذه المغامرة خارج النسق الديني هي التي تخارج من رحمها مفهوم الدنيوة،أين تنعكس حقيقة العقل الغربي كصراع أزلي بين الديني-الإلهي وبين الإنسانيّ،أو بين المقدّس والدنيوي،بحيث يسعى الثاني إلى الحلول محلّ الأوّل من خلال تجربة علمانيّة أو علمنة Laïcisation أو تحويل الأخلاق الدينيّة والمتعالية إلى قيم علمانيّة وضعيّة إنسانيّة Sécularisation حيث يحاول إرجاع تاريخ الأفكار إلى ذاته من دون إحالة إلى غيره،ومثل هذه المحاولات تعبّر عن حيرة هذه الذات في إدراك المعنى المفقود أو سدّ الفراغ الناتج عن غياب الإله وما يتبع ذلك من محاولات تبديد أوهامه.
من ثمّ يمكن ضبط المعايير الرائزة للفكر الغربي في النقاط التالية:
• وجوب الاشتغال بالإنسان وترك الاشتغال بالإله من أجل التصدّي للوصاية الروحيّة للكنيسة.
• وجوب التوسّل بالعقل،وترك التوسّل بالوحي،من أجل التصدّي للوصاية الثقافيّة للكنيسة.
• وجوب التعلّق بالدنيا وترك التعلّق بالآخرة،من أجل التصدّي للوصاية السياسيّة للكنيسة.
وعليه تعدّد ظهور الوجه الإجرائي لمثل هذه الضوابط الفلسفيّة،من خلال التوالد المطّرد للنظريّات الأدبيّة التي تعنى بتحليل المعنى،سواء المعنى الذي يتمّ إيصاله من المؤلّف إلى القارئ مباشرة،أو المعنى الذي يكون ملازما لكلمات النصّ،أو المعنى المتولّد من بنية النصّ،فمثل هذه المقاربات تعنى بالمشكلات المتصاعدة من النصّ حال اشتغالنا عليها عبر سيرورة القراءة،وقد انتبه ناقد عربيّ معاصر إلى أهميّة سلطة القارئ والقراءة عندما لاحظ بأنّنا قد "وجدنا أنفسنا في مواجهة خطيرة مع فاعليّة القراءة،فقد منحناها سلطة على النصّ تجعلها ذات قيمة أوّليّة" 
الدنيوة كممارسة إجرائيّة في محضن النشأة وفي محضن الإجراء: قراءة النصّ القرآني من التعالي إلى المحايثة. 
تبلورت فكرة الدنيوة كصياغة فلسفيّة نظريّة في مستوى الفكر،ثمّ انتقلت إلى مجال الأجرأة عبر إيقاعها كضابط من ضوابط الممارسة العمليّة في حقل الوجود الإنساني،فقد وقع إضفاء قيمة على العقل كقدرة استكشاف للقوانين الداخليّة للطبيعة الماديّة والحيّة ومن بعدها تأويل النصوص وإبراز دلالتها التاريخيّة المتحوّلة،وهكذا تحوّل الاهتمام من الشعور بالانسجام مع العالم نحو شعور بالسيطرة فالأمن.ودعّم تغيّر العقل هذا فعل التحرّر من الدين،باعتباره ممارسة مكتسبة عبر تاريخ من المحاولات للانعتاق من سيطرته وجاذبيّته،فأصبحت كلّ المجالات المتاحة في المجتمع التي كانت في السابق مرتبطة أشدّ الارتباط بسلطة الدين أو نابعة منه،تعتبر نفسها مسائل أو ضعيّات خاضعة للتجربة وللتشريح وللقراءة وللتعديل،فالعقل قادر على حلّها وفق معايير التحليل المنطقي دون الالتجاء إلى الحلول العجائبيّة-لو استخدمنا عبارة محمّد أركون-وقد وصلت هذه الممارسات إلى حدّ تبرير الأخلاق نفسها حسب تحليل للطبيعة البشريّة ولإكراهات النظام الاجتماعي،وعليه اعتبرت مثل هذه المغامرة التأويليّة تملّكا جديدا للإنسان من قبل نفسه،بعكس الوضع السابق حيث كان الخضوع للقوانين الإلهيّة يتحكّم في المبادئ الأخلاقيّة وفي مجمل المقولات المفسّرة والمبيّنة للنصّ المقدّس،من خلال الخضوع لجملة الشروط والمعايير الضابطة لفعل القراءة بطريقة تمكّن من التماهي مع المراد الإلهي وهو ما يجعل من هذه الممارسة إبرازا للذات الإلهيّة وتغييبا للقارئ،وهو فعل محمود في المنظومة الدينيّة بما هو انخراط للذات الإنسانيّة في المجال الإلهي،ومع ثورة العقل المنعكس،كان بروز الذات الإنسانيّة عبر استبدال لمستويات الحقيقة والمجاز عبر انفلات للحركة من وضع الصعود إلى التحيّز في الوجود الإمبيريقي بمعنى الوجود الإنساني،حيث تتأسّس انعطافات فكريّة ومعرفيّة أخرى خارج نمط الرؤية.
وتماشيا مع قاعدة أفرزها المذهب الدنيوي مفادها أنّ العالم هو مأوى الإنسان وهدف مشاريعه الإنسانيّة الخاصة،ومن ثمّ ظهر الاعتقاد بأنّ العالم والبشريّة هما مشروع تاريخ،من خلال تكريس فكرة الاعتقاد بانعتاق الإنسان ونضجه،ومن ثمّ فالإنسان يقود تاريخه الخاص وهو البوّابة الممكّنة من التقدّم والاسترسال لكن ضمن حدود التاريخ البشري،ومنها تكوّنت فكرة تاريخيّة العالم،حيث برزت في الفرن الثامن عشر وتضمّنت الشعور بالتغييرات وبنسبيّة المؤسّسات أو بزوال الحضارات،كما احتوى هذا المفهوم على فكرة التقدّم الخطّي والمتدرّج للإنسان كإنسان " إنّ الإنسان ليس مشروعا جاهزا مصمّما من قبل،ولكنّه مشروع في حالة تخلّق...إنّه يقوم بجولة هرمينوطيقيّة (تأويليّة) من خلال التعبيرات الثابتة التي تنتمي إلى الماضي.وبهذا المعنى فهو كائن تاريخي..إنّ التاريخ-إذن-ليس معطى موضوعيّا في الماضي،قائما هناك،ولكنّه معطى متغيّر.إنّنا في كلّ عصر نفهم الماضي فهما جديدا من خلال التعبيرات الباقية لنا،ويكون فهمنا للماضي أفضل كلّما توافرت شروط موضوعيّة في الحاضر شبيهة بما كان في الماضي." 
تماشيا مع جملة هذه الضوابط التي أحدثها العقل المنعكس في الغرب،فإنّ تفحّصنا لمجمل التيّارات الدينيّة والفلسفيّة والفكريّة التي عرفتها أوروبا منذ حركة الإصلاح البروتستاني وصولا إلى الفلسفات المعاصرة اليوم مرورا بالمذاهب وجملة المنعطفات المفصليّة مثل فلسفة الأنوار والماركسيّة والوجوديّة وغيرها من المذاهب والتيّارات الأخرى،فإنّنا نقف عند معيار ضابط جامع بينها رغم تباين أهدافها ومنطلقاتها،وهو الإنسان من حيث القيمة العليا ومدار كلّ تفكير وبحث ونظر،فكيف ما قلّبنا الآراء والأفكار والتصوّرات والمنطلقات الفكريّة في الغرب في جميع المستويات والتوجّهات،وجدنا أنّ الإنسان يمثّل الهدف والمبتغى وأنّ السعادة الدنيويّة في الهنا،في العالم هي الغاية القصوى،ومنه تشكّلت جملة من الضوابط التي على أساسها ظهرت نظريّات شتّى في جميع الميادين،من ذلك نظريّات القراءة أو التلقّي التي تعنى بالنصّ وبتحليله وبقراءته،مركّزة على منتهى النصّ وهو القارئ،في تغييب لمرسله أو مؤلّفه أو منشئه...وفحوى هذه الضوابط هو الآتي:
• نفي مقولة الثبات والقول بالتقدّم أو التطوّر أو السيرورة على جميع الأصعدة بوصفها أخصّ خصائص الإنسان.
• رؤية الجنس البشري لا من حيث هو وحدة فحسب،بل من حيث هو تنوّع واختلاف أيضا.
• انطلاقا من مقولتيْ التطوّر والتنوّع ظهر مفهوم أساسيّ في فكر الحداثة،وهو مفهوم النسبيّة الذي يناهض كلّ ضرب من ضروب الإطلاقيّة سواء من حيث الأحكام أو المعايير أو القيم أو غيرها. 
مثل هذه الأسس التي أنتجتها الحداثة الغربيّة،تبدو مرتبطة ارتباطا وثيقا بالإنسان،بالنظر إلى مصدريّته لها وانتهائها إليه،وهو ما أوجد مفهوم المحايثة أو الوجود في-العالم-،وهو مفهوم يقابل مفهوم التعالي أو المفارق أو عالم الغيب،وهو مسار إجرائي لمقولة هجرة الإله وتعاليه عن العالم،حيث أوقع الإنسان انعطافته الحداثيّة بفعل انعكاسيّ من خلال استبدال التعالي بالمحايثة،وتحديد ضوابط التعالي بمعيار التعالي ضمن الوجود في –الهنا-،وتأكيدا لما ذهبنا إليه نجد سارتر يعرّف العمل الأدبي بأنّه " خذروف غريب لا يوجد إلاّ بالحركة ولابدّ لإبرازه إلى الوجود من فعل ملموس هو القراءة،بحيث لا يدوم وجوده إلاّ بدوامها.وما عدا ذلك،فهو مجرّد خطوط سوداء على الورق" ومهما تكن فرادة كلّ نظريّة في القراءة وضوابطها المنهجيّة ومرجعياتها الإيديولوجيّة والعقديّة،فإنّها تتّفق إجمالا في تصوّرها للنصّ،من دون تمييز لمصدريّته،وبالتالي لوظيفة القارئ/القراءة"فالنصّ في تقديرها يتّسم بالتعدّد والتحوّل الدلاليين.وهو فعلا كذلك،وهذا قدره إذ لو كان يتضمّن في ذاته معنى جاهزا ونهائيّا لما تغيّرت دلالته السابقة بتغيّر قراءاته المتعاقبة في الزمن،رغم أنّ كلماته وحروفه لا تتغيّر،ولما اكتسب دلالات جديدة لدى تحوّله إلى لغات أخرى.إنّ النصّ مجرّد كمون دلاليي يحتاج باستمرار إلى قرّاء محتملين يحقّقونه،ففي حواره مع القرّاء تتولّد دلالاته،وفي تنوّع مواقع القراءة تنوّع لدلالاته أيضا.ذلك أنّ القراءة المثلى،القراءة النقديّة،هي التي تنزاح عن القراءات السابقة التي كرّست للنصّ دلالات معيّنة،وإلاّ كانت مكرّرة وغير منتجة،بهذا الفهم تكون كلّ قراءة جديدة للنصّ إعادة ثابتة له،لا تماهيا معه وامّحاء فيه" 
من خلال هذه المتابعات التاريخيّة-الفكريّة لطبيعة العقل المنعكس الناشئ في الغرب وامتداداته الإجرائيّة،حاولنا أن نتبيّن المنطق العام الذي يسيّر الرؤى الحداثيّة،ومن ثمّ استجلاء طبيعة الانتقال مثل هذه المناهج بكلّ شحناتها الإيديولوجيّة إلى الحقل الإسلامي ورصد طبيعة تفاعله مع النصّ المرجعي فيها ممثّلا في القرآن،وهنا وجب التنبيه إلى نقطة إجرائيّة حال الانتقال بالنظريّة من حقل النشأة إلى حقل الممارسة،فبانتقالنا إلى الحقل الإسلامي غدونا نتحدّث عن تطبيقات أو إجراء عملي للنظريّات الوافدة،فثمّ فاصل هام بينهما،فالنظريّات نبّهت إلى قيمة المناهج الحديثة في مستوى قراءة النصّ وتناول المسكوت عنه أو تناول مناطق بكر لم تدرس قبل،في حين أن التطبيق أو الممارسة الإجرائيّة تفترض إعادة استيعاب البناء المنهجي بالقدر الذي يضمن توظيفه ضمن حقله الذاتي بطريقة إيجابيّة،أي البحث عن أهليّتها الفكريّة للتعامل مع النصّ المرجعي للحضارة الإسلاميّة، ولكن مثل هذا التوظيف بالنظر إلى ارتباطه بشحنات إيديولوجية-عقديّة موجّهة تطلّبت نوعا من الخيانة قصد وضع النصّ القرآني في نسق من الإحالات لم يرصد لها أصلا .
والمتفحّص في المتداول المجتمعي الإسلامي يدرك أنّ العديد يجهل طبيعة هذه المناهج وخلفيّاتها ودرجة التمكّن من التكيّف مع نصّ لم ترصد له أصلا مردّ ذلك أنّ كلّ ذي فكر يروم التستّر على مقوّماته أو أقانيم فكره،إن كانت تعارض السائد أو تحرجه،لذلك فتناول مفهوم الدنيوة في محضن التشكّل ثمّ في محضن الممارسة الإجرائيّة في غير بيئته الثقافيّة ضروريّ نظرا إلى أنّه شكّل إدراجه في الدراسات الإسلاميّة انعطافة مفصليّة مع النصّ وما ترتّب عن ذلك من تنازلات أليمة خاصة بالنصّ القرآني وبالذات الإنسانيّة المنتمية إلى منظومته في مستوى الهويّة والبناء الحضاري-الكوني وما رافق ذلك من تغيّر في نظرة العديد إلى هذه المدوّنة على اعتبار أنّ المناهج التي تعاملت معه تنامت في حقل غير حقل الدراسات الإسلاميّة بل ظهرت مع قراءات النصّ الأدبي من حيث هو منتج بشري نسبي،من ثمّ يغدو التكييف الإجرائي والمعرفي صعب المنال أو فعلا متعسّفا يأتي بنتائج في تضاد تام مع مقصود النصّ إن فهمت هذه المناهج على أنّها عقائد مقدّسة لا على أنّها آليّات مساعدة ورافدة للفهم في مستوى نسبيّته ومحدوديّته محدوديّة الآليّات الموظّفة في نطاق اشتغالها،نظرا إلى أنّ المحرّك ليس النصّ بقدر ما هي قبليّات القارئ وانتظاراته من دون اعتبار لوضع النصّ من حيث المصدريّة لأنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ،فمحمّد العزيز الحبابي يرى أنّنا نقرأ بالبصر وبالحدس ،ونقرأ في الآن نفسه بسابقات على البصر،أي بما يقترح تسميته بقبليّات القراءة/فالتواصل بين كاتب وقارئ يحصل في الواقع بين خلفيّات أو ضمنيّات الأوّل وقبليّات الثاني ،هذا إن تحدّثنا عن النصوص المحايثة لا المفارقة للوجود البشري،فالفارق ليس هيّنا بين نصّ بشريّ ونصّ مقدّس.
حينما نتحدّث عن النصّ القرآني في المنظومة الرسميّة المتداولة،فإنّنا نقرّ بوجود معادلة واضحة طرفها الأوّل هو الله (المرسل) وطرفها الثاني هو الإنسان (المتلقّي) وبينهما النصّ من حيث هو رسالة،وعليه فالمسألة منضبطة في البداية ضمن إطار يخالف حيثيّات تاريخ العقل المنعكس من حيث هو صراع وظهور وتخفيّ بين الإله والإنسان،ففي الإطار الإسلامي نجد نوعا من التفاعل بين الإلهي والإنساني من دون مفارقة أو منازعة ويلخّص الحبابي طبيعة الرسم التفاعلي القائم من خلال هذه المعايير الضابطة للمسارات وللمهام : 
• الله بمحض إرادته،هو الذي قضى بأن تكون قوانين (الطبيعة) وقضى بأن يخضع لها سير الكون
•يترك الله للكائن البشري إمكانيّة اتّباع استعداداته الطبيعيّة المحدّدة.
•القوانين التي تتحكّم في سير الكون "موضوعيّة"،ومحسوسة.
•على الكائن البشري ،أن يتبنّى العالم بالتكيّف معه.
•يتكوّن الشخص بفضل الفكر وهو يصنع عالمه،ويصنع العالم على مستواه بالإسهام في الخلق الإلهي،إذ يعمل على إكماله.فبفضل العقل،يتعاون الإنسان مع الله،ويصبح إنسانا آخر له كثافته الأنطولوجيّة،إنّه مخلوق ولكنّه يساهم في كينونة العالم.
•إنّنا في عالم لم نخلقه،ولكن كلّ شيء في العالم يحتّم علينا أن نبدعه في حلّة جديدة،فنحن نلاحظ العالم،ثمّ نغيّره،بل نلاحظه لنغيّره.
• إنّ العالم حدث،والإنسان هو كذلك حدث،وعن علاقة الحدث الثاني بالأوّل،ينتج حدث ثالث يمنعنا في أن نبقى متفرّجين،إذ يحتّم علينا أن نكون عاملين:نصنع،ونصلح وننسّق،وننظّم ماهو موجود لنجعل منه شيئا كاملا.تلك هي المهمّة المجيدة للإنسان،أي "الأمانة"التي حمله الله إيّاه. 
بهذه الطبيعة التأسيسيّة في الفكر الإسلامي،نجد أنّ النصّ القرآني ينفتح على أفقين أفق الله/المرسل من حيث هو متعال ومفارق،وأفق المتلقّي الذي هو بخصائصه المحايثة،ولكن حال تفاعله مع مقولات النصّ القرآني تفسيرا وتأويلا ودراسة وممارسة،فإنّه يحاول أجرأة الحقائق الثابتة التي ينصّ عليها النصّ القرآني في محيطة المحايث الموقوت والنسبي،بحسب القدرة البشريّة من دون ادّعاء أنّها تفصح عن المعنى المراد من قبل الله إلاّ من جهة ما ثبت وروده نقلا عن الرسول صلّى عليه وسلّم،فيما يتعلّق بأمور العقيدة والعبادات وغيرها من الأمور التي يستغنى فيها بالتنزيل عن التفسير،أمّا ما عدى ذلك فهي محاولة اجتهاديّة متجدّدة في مستوى الفروع التي تفسح المجال للتفاعل المطّرد مع محدثات الوجود المحايث وفقا للمرجعيّات المنضبطة الواردة عن المتعالي المفارق "إنّنا أمام شيء آخر يأخذ من الماديّة والمثاليّة،على السواء،فهو تركيب يتكامل فيه الاتجاهان.لولا هذا التركيب لكان الإسلام روحانيّة تسبح في الفضاء،دون جذور في العالم" 
لكن الطارئ الجديد المحرّك لمقولات التجديد هوتناسي المصدر والاهتمام بالتشكيل الدلالي المتجسّد نصّا ،فالنصوص في مستوى المنظومات الجديدة سواء لا تمييز بينها إلاّ من حيث الكثافة المضمونيّة وغناها الدلالي،بالقدر الذي يعطي لها شرعيّة التداول ما خضعت لشروط القارئ وتوجّهاته ذات البعد الواقعي-التاريخي.إنّ مثل هذه الممارسات التشريحيّة-التأويليّة للنصّ تعبّر عن جدّة وثورة وإثراء في مجال التعامل وتحقيقا لاستحقاق خليفي يتمثّل في المساهمة في فهم النصّ ،ما إن عرفت حدودها الإجرائيّة ونعني بذلك حدود النتاج البشري من النصوص،باعتبار أنّه صادر عن مؤلّف ضمن سياق معيّن،في حين أنّ النصّ القرآني يكتسب هويّة أخرى نظرا إلى تعاليه وانزياحه من المفارق إلى المحايث بغرض الفعل فيه تشخيصا وتوجيها وتعديلا،على اعتبار طبيعته القيميّة-العقديّة-الفكريّة فهو يريد إعادة شخصنة الذات بالقدر الذي تستقيم فيه مع منطوق النصّ،هذا إن أخذنا بالمعنى المعتدل الذي يتبنّاه السياق الإسلامي،عكس المعنى الذي يرومه الحداثيّ في صيغته الغربيّة-الوافدة.
لذلك نجد أنّ هناك فارقا ليس هيّنا بين النصّ القرآني والنصّ الأدبي خصوصا إذا تعلّق الأمر بالمصدريّة ثمّ بثراء النصّ،ومن هنا تبرز قيمة نصّ عن غيره من النصوص،إنّه انفتاح لا نهائي وحركة لغويّة لا تقف عند حدّ،إذ كلّ قراءة أخرى للنصّ من القارئ نفسه قد تجد معنى آخر وتفسيرا آخر وهذا كلّه يدلّ على مدى الثراء الذي يكتسبه النصّ من خلال القراءات المتعدّدة فالنصّ الجيّد لا يستهلك نفسه لأنّه يترك فراغات في شكل حيل أسلوبيّة يملؤها القارئ عبر تجاوز حرفيّة النصّ إلى إبراز إشكاليّاته،فإنّ لكلّ قارئ معاملا شخصيّا به يميّز تلقائيّا،ما يلائم طبعه واهتماماته ومضمراته وتساؤلاته،هذا إن أخذنا بالفهم العام للنصّ.
مثل هذه الطفرات التجديديّة التي ميّزت الفكر الغربي في تعامله مع نصوصه المرجعيّة سعى إلى بثّها في الأطراف قصد مساعدتها على بناء ثورتها التجديديّة مع المحافظة على الأسس والمبادئ المميّزة لرؤيتها للنصوص،هذا أفرز مسارا آخر في التعامل مع النصّ القرآني،وهو النموذج الدنيوي بالإضافة إلى النسق المتداول المحافظ على قدسيّة النصّ وثوابته العقديّة،ممّا أفرز وجودا متزامنا لتيارين متصارعين على المسك بشرعيّة قراءة النصّ القرآني وتأويله وحراسة رأسماله الرمزي،وهو ينضوي ضمن سياق العولمة في وجهها الإجرائي-الفكري الذي يسعى إلى استلاب خصوصيّة النماذج ودمجها ضمن منطق الفكر الواحد والقطب الواحد والتطواف السلبي في حمى أو حوافي أو العتبات الخارجيّة للأنموذج الغربي،قصد الإبقاء على هيولاميّة ذات الثالثي ومن ثمّ تبعيّته له في كلّ مفردات وجوده،لأنّه قد غدا ذاتا بالمعيّة لا ذاتا بمكوّناته،بعبارة أخرى فذاته هبة أو منّة وافدة وليست صياغة متميّزة متخارجة من كنفه. 
مثل هذه الريبة أو الموقف المتردّد التي تكتنف فعل التجديد الوافد من الغرب،إنّما مردّها إرادة تشخصن الذات الثالثيّة خارج حقل الدين والنصّ،وكلّ المفردات المحيلة على الإله وما يتبع ذلك من ضوابط شرعيّة يراها الفكر المتحرّر قيودا مكبّلة للفكر ولانطلاقة التجديد المتدوّم في نسق التاريخ،نظرا إلى أنّ العودة إلى البدايات تشير إلى أنّ الفكر الغربي أعلن عن إنكاره للإله بمفهومه المسيحي أثناء ممارسته للعقل النقدي والذي اعتبره محرّرا له كفرد وأصبح منافسا للإله،وتلخّص العبارة الإنجيليّة هذا النفي وهذه المفارقة والتي وردت على لسان يسوع " مملكتي ليست من هذا العالم" وهناك صفحات عديدة من الإنجيل أين يعلن فيها الإله انسحابه " نعم،فأنا أخفي ذاتي في هذا اليوم بسبب كلّ الشرّ الناتج عن عبادة آلهة أخرى"،وهو ملمح يشير إلى ولادة العقل المنعكس كمنافس للعقل المتديّن السائد. 
وفي حقلنا الأهلي رصدنا محاولات من قبل بعض المثقّفين ذوي التوجّهات التحديثيّة-الغربيّة،إلى التجديد والتحديث انطلاقا من إعادة قراءة نصّنا القرآني مستأنسين بالفلسفة البنيويّة والمقولات اللسانيّة والتفكيكيّة والتاريحيّة-الاجتماعيّة وغير تلك من المناهج الحديثة ،فكانت نتاجات محمّد أركون الذي سعى إلى تأسيس قراءة جديدة يطمح من خلالها إلى إدخال العقل المسلم إلى الحداثة عير خلخلة الثوابت البالية التي يتمسّك بها،ومنطلقه في ذلك قراءات أليمة للنصّ كتلك التي طالت النصّ التوراتي والإنجيلي،والتي مهّدت حسب قوله للعقل الغربي تأسيس حداثته الخاصة به،فلا بدّ من المحاكاة الإيجابيّة للنماذج الناجحة،وكذلك نجد أعمال نصر حامد أبو زيد المنطلقة من مقولته الأساسيّة " إنّ النصّ في حقيقته وجوهره منتح ثقافي،والمقصود بذلك،أنّه تشكّل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما" .وهو يروم البحث عن الإنسان والتاريخ الغائبين في ثقافتنا المنشدّة إلى الإله،ممّا يعني محاولة إنزال غربة الذات من المفارق إلى التاريخ.ومن ثمّ فالقراءات المعاصرة في الحقل العربي الإسلامي بمختلف اتجاهاتها المنهجيّة وخلفيّاتها الإيديولوجيّة ومرجعيّاتها الفكريّة والتي تأخذ مسلك التاريخيّة والدنيوة،تكرّس مبدأ نقد العقل الإسلامي والفكر الديني بآليّات وافدة ومنتجة وفق نسق العقل الوضعي،ونذكر في هذا السياق مشروع محمّد أركون والطيّب تيزيني وحسن حنفي ومحمّد شحرور ونصر حامد أبو زيد وعبد المجيد الشرفي وغيرهم كثير،وهم في هذا يقرّون مبدأ النقد والمراجعة قصد الخروج من السياج الدوغمائي المغلق الذي تمّ ترسيخه وتشغيله وإعادة إنتاجه من قبل المؤسّسات الدينيّة،وهذا السياج تمثّل في الأصل أوّل ما تمثّل " بالدائرة الإيديولوجيّة التي افتتحها القرآن وعمَلَ النبيّ،ثمّ وسّعت وضخّمت فيما بعد من قبل العلماء والفقهاء" .
بهذا المعنى لا يمكن أن يقرأ النصّ القرآني قراءة معاصرة وفق ضوابط الحداثة الغربيّة،بما هي فتح غدوي للإنسان في تقدير منظّريها،إلاّ من خلال التناهي إلى استعادة النصّ من حيث هو حقل للإمكانيّات الإنسانيّة التي تسعى إلى الولوج إلى النصّ بما هو فضاء للتأويل ونصّ مفتوح على كلّ الإمكانيّات،وهذا القول لا ينضبط إلاّ من خلال استدعاء مفهوم الخيانة المبدعة المتداولة في القراءات الغربيّة للنصوص الأدبيّة،ومن ثمّ ينتقل النصّ من ملكيّة المرسل إلى ملكيّة القارئ،ومعنى الانتقال يفيد إسقاطا لتجربة القارئ الذاتيّة على تجربة العمل،وتلقيحا للمدلول الفكري الذي تنقله الأدلّة اللغويّة بمعنى جديد،فالقارئ بكلّ ثقافته ومحيطه الاجتماعي واستعداداته النفسيّة واللحظيّة،متورّط تماما في عمليّة القراءة.فهو يعيد بناء رسالة جديدة،بطريقة تساعد على تحقيق إمّا مفهوم التأريخيّة أو التآريخيّة،بمعنى إمّا القول بمتحفيّة النصّ ومصادرة فاعليّته الراهنة بما هو نصّ ينتمي إلى الماضي،أو الإقرار بامتداده الحاضر ولكن وفق شروطه المتداولة،وفي كلتا الحالتين،نقرّ بحاكميّة القارئ أو الواقع في تغييب متعمّد للمرسل بما هو مصدر متعال ومفارق" إنّ فهم النبيّ للنصّ يمثّل أولى مراحل حركة النصّ في تفاعله بالعقل البشري،ولا التفات لمزاعم الخطاب الديني بمطابقة فهم الرسول للدلالة الذاتيّة للنصّ،على فرض وجود مثل هذه الدلالة الذاتيّة" ،وهذا ما يشرّع مقولة أنّ القراءة ليست إعادة أو استعادة لما يترك الكاتب،بل إنّ القراءة تغيّر المقروء حسب وضع القارئ،حسب تآريخيّته ،هذا ممكن ومتاح إن كان التعامل مع نصوص/أفقيّة- بشريّة،ولكن القراءة الإسلاميّة المعاصرة في بعض توجّهاتها ترى أنّ مبدأ مطابقة القراءة للنصّ المقروء بمثابة القراءة الميّتة،بما هي خضوع للمرسل الذي هو في هذا المقام الله،في حين أنّ القراءة البديلة التي تتبنّى نبض الواقع هي تلك التي تسعى إلى الكشف والاستقصاء وهاجسها الخلق والتجديد،فهي لا تركن إلى المقول والمحمول وتعمل على صياغة نصوص ثواني أو حافة لبيانه وشرحه،كما هو حال المفسّرين في المنظومة الأرثودكسيّة-لو استخدمنا مصطلح أركون-،بل تعنى بالبحث عن القبلي والمحتمل،وتهتمّ بالكشف عن المتحجّب والمتخفّي والمسكوت عنه،لأجل أن تكون بعيدة عن التطابق وموقعة نسق الاختلاف عن الأصل ،ويترتّب عن مثل هذه القراءات المعاصرة الآخذة بالخطّ التاريخي وبالتفسير الواقعي لنشأة النصّ وتطوّره،مآلات تخصّ النصّ ومرسله ومحتضنه.
** أستاذ مساعد في مادة علوم القرآن والتفسير: المعهد العالي للحضارة الإسلاميّة. جامعة الزيتونة،تونس. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،