المرحلة الأولي: يومي الأحد والاثنين
لم تبين الآيات أسماء لأيام الخلق ولكن بينت ذلك الأحاديث التي ثبتت نسبتها إلي رسـول الله صلى الله عليه وسلم والتي أخبرت بأن بدء الخلق كان يوم الأحد، وقد اتفق علي ذلك جمهور علماء المسلمين، وموافق أيضا لما في الكتاب المقدس. وليس في سورة فصلت ماذا حدث يومي الأحد والاثنين، يومي خلق الأرض، وكذلك لا يوجد ذكر لخلق السماء فيها. بيد أن الآية (12) توضح أن الله تعالى بعد أيام خلق الأرض الأربعة استوي إلي السماء وهي دخان، نفهم منها أن السماء كانت موجودة في اليوم الخامس ولكنها كانت دخان، وعلي ذلك فقد خلقت السماء قبل اليوم الخامس. بقراءة آيات بدء الخلق من سورة النازعات نجد أن السماء ذكرت أولاً، يقول تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءها وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعاً لكُم وَلأنَعَامِكُم (33) والقارئ غير المتدبر سيجد أن آيات سورة النازعات قلبت الوضع عما في آيات سورة فصلت. فبينما ذكرت سورة فصلت الأرض كبداية للخلق فقد ذكرت سورة النازعات السماء كمبدأ للخلق، وبينما نجد إرساء الجبال ذكر آخر الآيات في سورة النازعات نجدها قد ذكرت كأول ما تم للأرض في سورة فصلت، لذلك التبس الأمر علي البعض: أيهما خلق أولا: الأرض كما أفصحت سورة فصلت. أم السماء كما يفهم من سورة النازعات لقوله تعالى بعد ذكر السماء وبناءها وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا وقد انتصر لكل رأي منهما فئام من الناس، البعض يسلم بأن بدء الخلق كان (الأرض) لسورة فصلت والبعض يؤكد أنها (السماء) لسورة النازعات. وحقيقة الأمر أنه لا هذا ولا ذاك.
عندما اخبرنا الله في سورة فصلت أنه خلق الأرض في يومين، وهيئها لأهلها في يومين آخرين، أخبرنا تعالى انه استوى إلي السماء في اليوم الخامس فالسماء إذا كانت موجودة.
وعندما أخبرنا تعالى في سورة النازعات أنه خلق السماء أو بالأحرى بَنَاهَا وأنه هيئها بالهيئة التي وصفها قال (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا). فالأرض إذن كانت أيضا موجودة، لأنه تعالى قال (وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ ) أي أن الأرض كانت كائنة بالفعل، ثم قال (دَحَاهَا) أي (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءها وَمَرْعَاهَا) ولم يقل خلقها، أو أوجدها، ولم يخبرنا تعالى أنه خلق هذه أولاً أو هذه أولاً، ولا يوجد أي حديث أو أثر يفهم منه أن أحدهما خلق أولاً، وذلك فعلا لأن أحدهما لم يسبق الآخر في الخلق. ولعل هذا الأمر هو الذي تبينه الأحاديث، ولم لا وهذا دورها؟ (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل:44) (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) (النحل:64).
ففي الحديث الذي رواه ابن عباس وابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق: أخرج من الماء دخان فارتفع فوق الماء فسما عليه (أي علا) فسماه: سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعل سبع أراضين في يومين". إن هذا الحديث قد فصل ما حدث في المرحلة الأولى من الخلق، وأزال اللبس الذي قد يدخل على قارئ القرآن دون تدبر، فهل نستطيع أن نحدد من هذا الحديث أيهما خلق أولاً: الأرض أم السماء؟ يخبر الحديث أن أصل الخلق الماء. وواضح أيضا من الحديث أن هذا الماء هو الذي كان عرشه تعالى عليه. وأن الخلق بدء عندما أخرج تعالى من الماء دخانا، وهو ما يسميه المفسرون بخار الماء، وارتفع هذا الدخان (البخار) فوق الماء، وعملية الارتفاع هذه تسمى (سمو) فكان ذلك اسما لهذا الدخان فسماه (سماء).
كانت هذه عملية أولى من المرحلة، أما العملية الثانية من هذه المرحلة أيضا أن هذا الدخان المتكون أعلى الماء جمد الله تعالى قلبه، ويبسه بالقدرة العظيمة حتى أصبح لدينا، يابس يحيطه ماء ويحيط بالاثنين الدخان (البخار) ثم فصل الله تعالى بين هذا الدخان وما بداخله من (يابس وماء) وسمى تعالى هذا الأمر (فتق)، أي فصل، بعد أن كان كلا منهما متصل بالآخر، أي كان الدخان محيطا بهذا اليابس الجامد. وهو الذي أخبر عنه الله تعالى في سورة الأنبياء بقوله (أوَلَم يَرَ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَ السَّمَــوَاتِ وَالأرْضِ كَانَتَا رَتَقَا فَفَتقنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أفَلا يُؤمِنُونَ (30)). إن هذا الفتق ليس فتقا واحد بل ثلاث، هذا ما تقول به الآية، وما يبينه الحديث، فمنها نفهم أن الأرض كانت رتقا، أي كتلة واحدة، ففتقها سبع أراضين، وأن السماء كانت رتقا أي كتلة واحدة، ففتقها سبع سموات، وأن كلاهما (الأرض والسماء) كانتا رتقا، ففتقهما عن بعضهما.
====
تعليقات
إرسال تعليق