التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قصة الخلق... الإتيان بالسماء والأرض بتصرف عن صاحبه عيد ورداني




لقد اكتملت الأيام الأربعة تماما. وفي بداية اليوم الخامس حدث حادث وتم أمر رغم أنه كان على درجة كبيرة من الأهمية، ورغم حدوثه مرة واحدة في تاريخ الكون ورغم أن الله تعالى ذكره في كتابه بإيضاح شديد إلا أن علماء التفسير لم يدركوا المعنى الصحيح لهذا الحدث. وذكرنا في بداية حديثنا عن مراحل الخلق أنها ثلاث مراحل بينها (حدث متخلل) ولعل ذلك يبين لماذا ذكرت مراحل الخلق في سورة فصلت في أربع آيات، وذلك لأن مراحل الخلق تخللها حدث هام، كان هذا الحدث بعد اكتمال المرحلة الثانية، أي أنه تم في أول المرحلة الثالثة. يقول تعالى في سورة فصلت الآية 11 (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ). إن هذه الآية توضح عملا وقولا صدرا من السماء والأرض للمرة الأولى والأخيرة في حياة الكون. وكان عملهما أنهما (أتيا) وكان قولهما أنهما قالتا (أتينا) ولم ينسب للأرض أو للسماء بعد ذلك أي عمل قاما به حتى قيام الساعة. ولكي نعرف المكان الذي أتيا فيه، نعود إلى حديث بدء الخلق الذي رواه البخاري عن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  أنه قال:" كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض" . وكذلك حديث ابن عباس وابن مسعود أن النبي  صلى الله عليه وسلم  قال:" إن الله تعالى كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة ثم فتقها فجعلها سبع أراضين في يومين". إن هذين الحديثين ليدلان على أن أصل الخليقة: الماء. وأن هذا الماء هو الذي كان العرش عليه، وأن بدء الخلق كان بارتفاع الدخان منه ثم توالت الأحداث، حتى إذا مـا اكتمل بناء السماء وتهيئة الأرض للحياة عليها، انتقلتا من مكان خلقهما إلى مكانهما الحالي، تحتل الأرض المركز فيه. فلم يتم الخلق بداهة في هذا المكان الذي نحن فيه الآن، بل تم في مكان آخر ثم صدر أمر الله تعالى لهما بالإتيان للمكان الذي نـحن فيه الآن. وكانت هذه هي الحركة الوحيدة التي قامت بها السموات والأرض، وقد صدرت منهما أيضا الكلمة الوحيدة التي نطقتا بها (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
إن الآية واضحة وضوحاً تاماً لا يقبل خلافاً أن الأرض والسماء انتقلتا من مكان إلى مكان. وهذا ما كان لابد منه، لأن السماء والأرض لم تخلقا في مكانهما الحالي، وإنما خلقا فوق الماء الذي كان العرش عليه، ثم أتيا إلى هذا المكان الذي هما فيه الآن ووضعهما الله تعالى وأقرهما فيه. لذلك يقول تعالى (وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) (الرحمن:10). والوضع لا يأتي أبدا إلا إن كان قبل ذلك غير موضوع، أي كان قبل ذلك محمولا وهذا ما حدث للسماء والأرض وقد كانتا محمولتين فوق الماء ثم وضعتا في مكانهما الحالي ووضعت الأرض في مركز هذا العالم وكانت الأرض في مكانها هذا تميد ثم بعد أن سوى الله السموات السبع وأوحي في كل سماء أمرها، وانتهي أمر الخلق وكمل، أقر الله كل شيء  (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) (القمر:3) فأقر الله الأرض بالجبال، فألقاها عليها، وقد كانت معلقة فوق الأرض كالنجوم والكواكب، وقد فوجئت الملائكة بالأرض وهي مستقرة ثابتة بعدما رأتها قبل ذلك تتمايل وأعجبت من قوة الجبال الرواسي.
من أجل ذلك قلنا أن الله تعالى خلق الجبال في بداية المرحلة الثانية، تماما كما ذكر في سورة فصلت، ولكنه لم يرسيها في الأرض إلا بعد اكتمال الخلق وانتقال الأرض إلى مكانها الحالي، تماما كما ذكر في سورة النازعات، وذلك لأن الجبال رواسي، والأرض في مكان خلقها لم تكن رست بعد، وليس هو بمكانها الذي ستستقر فيه، فلما أتت إلى مكانها هذا ثبتها الله تعالى بالجبال.

لذلك قال تعالى في سورة (فصلت) (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا) وقد كان ذلك في بدء الخلق وفي مكان تخلقها. ثم قال في سورة (النازعات) (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)) ومعروف أن هذه السورة ذكرت المخلوقات بترتيب  حدوثها، فوضح هنا أن الجبال تم بالفعل إرسائها في الأرض بعد أن كانت (مِنْ فَوْقِهَا  ). الدلالة في ( أَلْقَى) أخص منها في (جعل) وقد لاحظ ذلك أبن عطيه فيما ذكره أبن حيان عن تفسير الآية رقم 15 من سورة النحل(وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أن تَميدَ بِكم). " قال المتأولون:  ( أَلْقَى) بمعنى خلق وجعل، وهي عندي (الكلام لابن عطية) أخص من (خلق) و(جعل) وذلك أن ( أَلْقَى) تقتضي أن الله أوجد الجبال ليس من الأرض ولكن من قدرته واختراعه .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،