التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تأملات..لنقد والأثر المفتوح مرتكزات التحول من النقد الى القراءة.... الجزء 1. النقد والانفتاح.. يكتبها.. حبيب مونسي

1- النقد والانفتاح:
إنّ ما يقابل انفتاح الأثر ويجسّده بصورة واضحة، ويسمح له بالتّجدد والاستمرار، تفتّح الناقد، ورفضه الثبات والاستقرار، وكأنّ الثاني يستمدّ من الأول مصداقية انفتاحه وتعدّده، فهو في جميع الأحوال قابل لاستقطاب هيئات الناقد وتحوّل مراياه، فإنّ  صادف فيه  خفّة الظلّ ومرونة الحركة، أعطاه مالم يعط غيره من فتوحات تتقاصر دونها - دوما- الأداة المنهجية. لقد وصف "جون ستروك" "STURROCK" "رولان بارت" قائلا بأنّه: » يصرّ على إبقاء ذهنه في حركة دائبة، وعلى أنّ لا يسمح لنظراته الثاقبة المتنوعة، ومشروعاته المختلفة لتفسير النصوص الأدبية بأن تتجمد في مذهب ثابت المعالم والحدود«(1). لأنّ الانتهاء عند حدّ من الحدود يعطّل الحركة، أو يجعلها تتراوح مكانها، تستنسخ تجربتها كل حين. وفي وصف "ستروك" حقيقة  تلتقي مع ما قدمه "أمبرتو إيكو" "UMBERTO ECO" في تعريفه للأثر الفني، حين يقول: » إنّ الكيفية التي يكون  عليها الأثر، تحدّد الكيفية التي كنا نبغي أن يكون عليها الأثر«(2). ذلك إنّه بعدد "الهيئات" التي يكون فيها الناقد "المتحوّل"، تكوّن صفات الأثر الفني، ففي كلّ هيئة يقدم للأثر قالبا يتبنين فيه، وإذا  انتقل إلى غيرها، تحوّل  الأثر معه إلى هيئة أخرى.. وتكشف التعاريف المتعدّدة للأثر عبر تاريخ الأدب عن "هيئات" متحوّلة للنقد والنّقاد.
إنّ وصف "جون ستروك" لبارت" يعطي لهذا الأخير السّمة التي يتحلى بها النقاد الجدد الذين يرون أنّ الهيئات الفكرية والمعرفية في تبدّل مستمر، وأنّ القناعات الرّاسخة خرافة تردّها اعتبارات شتى تكتنفها الثقافة بكلّ ملابساتها. كما تلعب فيها الأمزجة الشخصية دورا كبيرا في صياغة الأذواق وتبديل تراتبية الأولويات. و"بارت" لم يكن "قُلّبا" لأنّ هذه الصفة ستهويه. ولكن "بارت" كان يمتلئ كل حين بالجديد، ويتشبّع باكتشاف المتخفّي الذي لم  تطله يد النقد التقليدي بوسائلها العتيقة. وهو موقف  يمتدّ بعيدا في صميمية التصور الاعتقادي، حينما يتقابل المتحوّل الزائل بالجوهري الثابت، حين يأخذ الزائل والعرضي الأهمية التي كانت للجوهري، فيغدو محط اهتمام وحيرة، ويصير الجوهري محلّ اشمئزاز وموت. إنّ "بارت": »يضع سيولة الوجود، بل حتى فوضاه، مقابل تصلّب الموت الذي يرى أنّ الجوهرية تمثله«(3). ويترجم"بارت" سيولة العالم بالتحلّل، أي عندما تنحل الوحدة التي تمثلها الأنا، في وحدات تعدّدها، بحيث يصبح كلّ واحد منا كثرة  تعجز "السيرة الأدبية" عجزا مريعا عن محاصرتها.. مادامت السّير شتات مبعثر لأنوات عديدة، لا ينتظمها سلك الوحدة.
وإذا لاحظنا "التحوّل" و"التعدّد في الذّات الواحدة، سهل علينا استخلاص سمات فاعلة في التفكير النقدي الجديد، لأنّ التحوّل والتعدّد، يفرضان تعارضا صريحا بينهما وبين المعتقد والرأي المستتب، وكلّ مواجهه يجريها النّقد الجديد إنّما تسعى إلى هدم الاعتقاد والثبات، وتذكير الناس بأنّها مجرد "آراء" هيمنت عليهم حتى نسوا معارضتها(4).ولذلك حاول "بارت" هدم الاعتقادية والثبّات من خلال أربعة مآخذ يسجلها على النقد التقليدي:
 · جوهرية القمية: وربما وصف هذا الاعتراض لدى الدارسين، بالاعتراض الماركسي -على الرّغم من أنّ "بارت" لم ينضم مطلقا إلى الحزب الشيوعي - وذلك لنفي "بارت" صفة التاريخية عن النقد التقليدي، فهو لا تاريخي بمعنى أنّه يجعل القيم الأخلاقية والشكلية التي يتضمنّها الأثر خارجه عن الزمن، وكأنّها لا تعني الطبقة التي كتبت لها ونشرت فيها أول مرّة، وأن ليس هناك ترابط بين الأثر والحقبة التاريخية من هذه الجهة. وبالتالي تسحب أحكامها على الفترات اللاّحقة دون حرج. إنّنا نذكر أن الوضعية - التي تبناها " تين" وأتباعه كانت تعتقد جازمة أنّ الأخلاق ظواهر سلوكية نابعة من الوسط، وأنّها في أحسن أحوالها  تكييفات ظرفية إزاء مواقف خاصة، فإذا تسربّت هذه " التكييفات" إلى الأثر الإبداعي فإنّها ستحمل -حتما- كلّ سيمات حقبتها الزمنية. وعليه يكون من واجب تاريخ الأدب التنبيه على ذلك حتى لا يكون: »تاريخا وضعيا من أسوء الأنواع«(5). فإذا كان "بلانشو" يدعو إلى تطهير الأدب والنقد من "القيمة"، فإنّ "بارت" يريدها مرتبطة بزمن  إنتاجها، محصورة في نطاق التاريخية التي أفرزتها.
   ·   الإيمان بالحتمية: إنّ لجوء النّقد التقليدي إلى إسقاط حياة المؤلف على الصّنيع الأدبي إسقاطا مباشرا، يوحي بوجود حتمية ميكانيكية عند النّقاد، يؤمنون من خلالها ببساطة العلاقة بين داخل العمل الأدبي وخارجه، فهم يعتبرون: »  الحقائق النفسية في العمل الأدبي تمثيل  مباشر للحقائق النفسية في حياة المؤلف«(6). بيد أنّ مكتشفات التحليل النفسي تدلّل بقوة على أنّ كثيرا من المواقف النفسية لا تفرز - حتما - ما يقابلها من سلوكات نزوعية مباشرة، وإنّما تتوسطها آليات معقّدة للكبت، والتسامي، والقمع، والقلب وأنّ: » الرّغبة والعاطفة الجامحة والإحباط، قد تؤدي إلى تمثيلات مناقضة لها تماما، فقد يعكس الدافع الحقيقي ليتخذ شكل المبرر الذي يناقضه، وقد يتخذ العمل شكل الحلم الذي يعوّض عن الحياة السلية«(7).
إنّ ربط الأثر الأدبي بالحتمية - على ذلك الشكّل- لا ينتج إلاّ  نصا واحدا يقف عند الشكل البسيط من حياة المبدع. وهي جناية عانتها النصوص في ظل المناهج الموجهة، قبل أن تأتي  ثورة  اللاّوعي بالتحوّل  الخطير في التفسير والتأويل.
2. أحادية المعنى: يشك "بارت" أن يكون في مقدور النقاد الأكادميين إبصار الرمز فيسميهم - دون حرج "A-SYMBOLIA" وكأنّهم  مصابون " بالعمى الرمزي"، ولا يرون إلا معنى واحدا في النصوص التي يعالجونها، فلا يتجاوزون حرفية  النّص، متذرعين بالبيان والوضوح. إلاّ أنّ  "بارت" لا ينكر  عليهم ذلك إذا صرّحوا  به، ولكنّه يحذّرهم من أنّه يستحيل على المعالجة النّصية: » ألاّ نضع في مجالها الأكبر متطلبّات  قراءة رمزية«(8). ثم يتساءل "بارت" في دهشة عن: » هذا الصّمم تجاه الرّموز وهذه  اللاّرمزية؟ وماذا إذن- يهدّد في الرمز؟ ولماذا  يعرّض المعنى المتعدّد - أساس الكتاب- الكلام حول  الكتاب للخطر؟ ولماذا  مرّة أخرى  أيضا اليوم بالذات؟ «(9).
لقد جمع "بارت"  في هذه  العبارة المآخذ التي آثارها النقد التقليدي ضدّ النقد الجديد، والتي انقلبت عليه مرّة  أخرى فصدّعت أركانه،  وفتحت عليه سبيلا من الأسئلة، وجدت  تجسدها العنيف في حوادث 1968 بفرنسا.
   ·    الإيديولوجية: لقد حاولنا - كثيرا- ردّ النقد الغربي إلى منازعه الوضعية، والتي شكلت عند النقاد نسيجا إيديولوجيا يتّشح بالعلمية ويرفعها لواء، غير أنّها:" ظلت أديولوجية غير  مصرّح بها، مما مكّن الوضعيين من إيهام الناس بأنّ قيمهم قيم كلية  شاملة ، لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من  خلفها، وأنّها  ليست قيم  طبقة  من الطبقات في مجتمع من المجتمعات، في وقت من أوقات التاريخ. لقد كان خداعهم كاملا«(10). لقد عبّر  "بارت" عن ذلك "بالتّعمية" "Mystification"، ووسمها بالقوة الشريرة اللا أخلاقية، والتي أوهمت النّاس بأنّ  الظواهر التاريخية والثقافية، لها عين  الشيئية التي تسم  الظواهر  الطبيعية. وعلى  هذا "التلبيس" قامت دعاوى  الذات والموضوع، والمنهج، والموضوعية، والحياد ... وليس من  رد عليها سوى فضحها وكشف أمرها للناس، وبيان الطرق الملتوية التي سلكتها لمخادعتهم، إنّه يعتبر ذلك تنويراً اجتماعيا وسياسياً(11).
لقد شكّل- هدّم الأوثان الأربعة - الإطار الحق للنّقد الجديد، الذي قامت دونه عصبة من النّقاد الشباب الثائرين على المؤسسة الأكاديمية وأعرافها وهيمنتها على المعنى. فكان التجريب الى حدود التخوم القصيّة، وكان الانفتاح الى حدود اللاّمحدود.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،