يقول
العقاد في المقدمة التي كتبها للغربال: "من صحح مقياسا للأدب فقد صحح مقياسا
للحياة، وخليق بتصحيح مقاييس الحياة أن يكون أمل أمة لا أمل أديب، أو طائفة من
الأدباء. " وفي هذا السطر القصير تكمن
حقيقة من أجل الحقائق التي لا ينتبه إلي خطورتها كثير من المثقفين في تعاطيهم مع
النقد سلبا وإيجابا. وذلك أن النقد ليس مطلبا لطائفة من الأدباء والشعراء
والروائيين، وإنما حضوره ضرورة اجتماعية تتجاوز هذه الطبقة إلى العامة من الناس.
لأن الأدب إن كان يمس الحياة ويخالطها عرضا وتفسيرا وتوجيها، فإنه من شأن الناس
عامة، وسلامته في شكله ومضمونه، همٌّ من الهموم التي يحملها المجتمع بكافة أطيافه
ومستوياته، ولا يجوز أن يظل بين يدي طائفة من "المجربين" في حقول الأدب
يقلبوه على هيئات كيفما شاءوا ووقتما شاءوا.. فالدور الذي يضطلع به النقد أساسا
إنما هو "التصحيح" أصالة. بيد أننا لا يجب أن نفهم من
"التصحيح" أنه القول ب "الخطأ" و"الصواب" و
"الجائز" و "المحظور" .. فالتصحيح الذي يرومه النقد يتجاوز
هذه العتبات التي هي من شأن قواعد الأخلاق، والتي يحملها الأديب في ثقافته وتربيته
أصالة.. وإنما ينصب "التصحيح" على ما يراه الناقد "انحرفا" في
المسار الثقافي العام، وما يجد بذوره في النصوص، التي إن هي استمرت على وتيرتها
تلك، أفضت إلى تجاوزات على مستوى الهوية والأصالة والدين.. وهي القضايا التي تهم
المجتمع في كليته انتماء وتاريخا.. والناقد الحصيف هو من يكتشف في "الكتابة" مزالقها التي تؤدي بها إلى
"تغيير" أو "تمييع" أو "محو" يطال المسلمات التي يقوم عليها اجتماع الأمة.
ليس
الشأن في النقد أن يلتفت إلى الأشكال التي تجدُّ في السيرورة الإبداعية لشاعر أو
روائي أو كاتب أو مفكر.. فهذه مسائل شكلية يقف عندها الناقد لينظر من خلالها إلى
الدواعي التي استدعتها، وجعلتها في هذا العمل أو ذاك من الضرورات الفنية
والإبداعية.. ولكن عليه أن يتجاوزها ليسأل عن الغايات التي ربما لا يشهدها الأديب
نفسه في غمرة التجريب، ليطل على المآلات التي ستنتهي إليها إن هي تمادت في جريها
وراء ذلك اللون أو الشكل. إن مهمة النقد
مهمة "استشرافية". قد تنطلق من الصنيع الفني لتتخلل التخوم التي تمتد
نحوها رغبات الإبداع. فهدم العمود في الشعر العربي مثلا، ليس مطلبا شكليا كما
يتوهم البعض سريعا، وجد ضرورته في التحديات الجديدة التي تواجهها القصيدة العربية
الحديثة. وإنما الهدم في الشكل الفني لابد أن يقابله هدم في البنيات التأسيسية
للثقافة العربية التي قامت على المعيار والقيمة والمرجع. ومن ثم سيكون الحديث عن
عمود الشعر العربي هو عين الحديث عن العمود الاجتماعي العربي.
حينما
ينبه النقد أن المضمون في هذا النص يحمل في جيناته الدلالية تحولا، أو تغييرا، أو
محوا، فإن حديث النقد لا يقف عادة عند الدلالة التي يحملها النص، أو تتجلى من خلال
الخطاب الروائي، أو مما يتفصد عن تأويل أو تحليل.. وإنما يتخذ الدلالة التي يقف
عليها شارة لفكر يحاول أن يتخذ من النص منصة للوثوب إلى عالم الأفكار.. فقد تكون
الفكرة في مبتداها ساذجة، بسيطة، ولكنها عند تقليبها تتحول إلى مشكلة تستوجب موقفا
وحلا، أو تكون مثار تأزم يحل بالثقافة والمجتمع..
فالنقد ليس "متابعة
بليدة" للناتج الإبداعي كما يتوهم المبدعون.. فالمتابعات مجرد
"قراءات" يكون سيدها الانطباع الذي يزكي العمل أو يرذله.. ولا محققا
يأتي بعد اقتراف الجريمة ليصرخ في وجوه أصحابها كما هو حادث اليوم.. إن النقد الحق
"استشراف" و"ريادة" تبصر الحاضر، وتسلط الضوء على المستقبل
لتصحيح المسارات. لذلك يكون النقد "أمل أمة" وليس "أمل أديب".
يقول
ميخائل نعيمة: "مهمة
الناقد هي غربلة الآثار الأدبية. لا غربلة أصحابها. " هذه العبارة على
قدمها لا تزال جديدة حاضرة، تختصر ما سطره المفكرون في كتب النقد جميعها.. لأنها
تبين بوضوح مهمة الناقد.. إنها مهمة تقع على "الأعمال" وليس على
"الأشخاص" والغربلة هي الفرز أولا لمعرفة المكونات، ثم هي الاهتمام
بالنافع ونبذ النخالة من كل شيء.. والنافع هو ما يريده المجتمع لنفسه أولا
وأخيرا.. فإذا كان ما يجدُّ في حقول الأدب "نافعا" بمعنى أنه يعرف
الإنسان بقيمته ودوره، ويعرض عليه تجارب غيره، ويبصره بحقيقة نفسه، ويزيده فهما
للحياة، وتطلعا لمستقبل أفضل، ويساعده على تجاوز عقباته النفسية والفكرية، ويجعله
أكثر وعيا بحاضره وماضيه ومستقبله، والتحديات التي تقع على عاتقه... هلل له النقد
ورفع من شأنه ودافع عنه أمام خصومه، وإن كان المستجدُ من الأشكال والمضامين ضارا
في حاضر الناس ومستقبلهم، فضحه النقد وشهر به، وإن تحاماه أصحابه ومروجوه.
فالنقد أخيرا، تجرد، ومسؤولية، ومهمة إنسانية تحتاج إلى
شجاعة كبيرة جدا...
تعليقات
إرسال تعليق