التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تأملات... "الإعراب"... هذا الاصطلاح المغبون فهما.. يكتبها حبيب مونسي..



لم يكن الإعراب –في فهم الأوائل – ينصرف إلى وضع علامات على أواخر الكلمات، وإنما كان الإعراب هو الإفصاح، والبيان، والكشف عن المقاصد.  ومنه قولهم أعرب فلان عن رأيه أو مكنون صدره. وكأن الإعراب هو تلك القدرة على الانفتاح على الآخر وإشراكه –من خلال اللغة-في فيض المعاني والأفكار التي تختلج في صدره. ومن ثم يكون الإعراب أكثر من تواصل لغوي ينتهي عند حدود الصوت. فقد ذكر "ابن منظور" أنه رويّعن النبي r أنه قال : الثيب تعرب عن نفسها أي تفصح، وفي حديث آخر الثيب يعرب عنها لسانها والبكر تستأمر في نفسها... يقال عربت عن القوم إذا تكلمت عنهم واحتججت لهم.  وقيل إن أعرب بمعنى عرب. قال الأزهري الإعراب والتعريب معناهما واحد وهو الإبانة. يقال أعرب عنه لسانه وعرب أي أبان وأفصح. وأعرب عن الرجل بين عنه وعرب عنه تكلم بحجته. » ([1]) والذي يمكن أن يستفاد من استطرادات "ابن منظور" هو أن الإعراب ليس التحدث بلسان وحسب وإنما تجاوز ذلك إلى شيء من التأثير في الآخر، إما بإعلان عن الموقف كما هو الشأن في خطبة الثيب، وإما بالتقدم عن القوم لتبليغ مرادهم بقول فصيح بيِّن لا لبس فيه. ذلك أن الاحتجاج ضرب من سوق الآخر إلى ما يراه المتحدث صوابا، سوقا يكون فيه من الشدة والإصرار ما يجعل الإعراب ليس مجرد إفصاح وحسب وإنما حمل الآخر على قبول الرأي والموقف.
            وما يعزز هذا الرأي ما ذهب إليه "ابن منظور" أن الإعراب كذلك: «معرفتك بالفرس العربي من الهجين إذا صهل، وخيل عراب ومعربة. قال الكسائي والمعرب من الخيل الذي ليس فيه عرق هجين، والأنثى معربة، وإبل عراب كذلك » ([2]) وكأن الأمر في الإعراب يتخطى الآن حدود المنطوق من القول إلى الهيئات التي تفصح من خلال وضعياتها الخاصة عن مراد أو معنى، كما هو الشأن في جنس الخيل والإبل. لأن الناظر إليها سيميز من خلال أصواتها وحركاتها أصالتها . ومن ثم سيكون الإعراب –إضافة إلى القول – هيئة دالة، يستخلص منها المتلقي معنى محددا.
 إن الإعراب أكثر من تواصل لغوي ينتهي عند حدود الصوت، بل هو إشراك ومشاركة، تقتضي من الآخر التهيؤ لقبول المبثوث إليه. إنه التهيؤ الذي يفتح منافذ الذات: من سمع، وبصر، وفؤاد لتكون فاعلة في تشكيل الدلالة وإعطائها أبعادها المرادة لها. فإن قال قائل: (فلان كثير المال) والتقطت هذه العبارة كتابة لا صوتا، ضاع من دلالتها القدر الكبير من مقاصد المتكلم. لأنها في هيئتها المكتوبة لا تزيد عن كونها جملة (تخبر عن واقع) فيه كثرة مال. ولكنها تعجز أبد الدهر عن إعطاء فكرة واضحة عن الكثرة التي يقصدها المتكلم. فإذا أضفنا إليها الصوت غدا التشديد على "كثير" استطالة في المد مثلا مدعاة لتوكيد الكثرة الكثيرة. أما إذا شارك البصر التقاط التعابير التي ترتسم على قسمات وجه المتكلم ، من اصطناع التعجب مثلا، كانت الكثرة المرادة تميل إلى الثراء الفاحش. وإذا عدنا إلى حديث الثيب والبكر السالف الذكر لوجدنا لمثل هذه الهيئات حضورا أكيدا في مسألة الإعراب.



[1] -ابن منظور. لسان العرب.ج1.ص:585.
[2] -م.س.ص: ج1.ص:585.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،