لم يكن «الاستقلال» باعتباره "تيمة" روائية
موضوعا مقصودا لذاته في كل الروايات التي كتبت بالعربية أو الأخرى التي نشرت
بالفرنسية. لأن التيمة إن قصدت لذاتها كان لها من التدبير القصصي ما يعطيها سمة
الهيمنة على النص الروائي كله. ومن ثم يكون دوران السرد الروائي وقفا على التيمة
يخدمها من كل النواحي التي يقتضيها السرد ويتأسس عليها. لأن هيمنة التيمة على
الموضوع توزع الاهتمام في فسحة السرد وتعطي للعناصر القصصية أقساط الحضور بين
يديها لتخدم الفكرة التي يحاول الروائي استجلاءها من خلال الأحداث العرضية التي
يسوقها بين يديه.
لقد تعاملت الرواية الجزائرية مع "الاستقلال"
باعتباره حدثا كلل لسلسلة من التطورات التي حدثت على المستوى الاجتماعي والسياسي
في حياة الرجال والنساء على المستوى الفردي والجماعي، سلبا وإيجابا. ولم يكن
الاهتمام به من قبيل "الحدث" الذي يقوم علامة فارقة في مسار تاريخي
تتحول بموجبه الأحداث من حال إلى حال، وكأنه انقلاب في الموازين والرؤى، وتحولٌ في
مجريات الأمور. ليشكل الحد الفصل بين الماقبل والمابعد. وتُرصد من خلاله درجات
التحول في العقليات والسلوك والتصرفات.
هذه الفكرة، وبهذا الشكل، لم نجدها عند أي من الروائيين
الجزائريين، وكأنهم لم يقدروا "قيمة" هذه التيمة إبداعيا، ولم يزنوا
مقدار أثرها في التحولات الوطنية التي نشأت بعدها. ومن ثم لم ينظروا إليها
باعتبارها حدا فاصلا، وإنما جاء الحديث عنها في معرض العودة إلى الماضي واستدرار
الذكريات، وتقديم صورة لخروج الجزائريين والجزائريات إلى الشوارع للاحتفال بعيد
النصر، وتسجيل مظاهر الفرحة والتجاوزات التي حدثت فيها، كالسلب والنهب وتصفية
الحسابات، واحتلال العقارات، وادعاء الرتب والشارات.. وغيرها مما وقفت عليه ريشة
الروائي وهو يرصد جملة التجاوزات التي شابت فرحة «الاستقلال».
لذلك يجب علينا أن نقرر اليوم أن "نص
الاستقلال" لم يكتب بعد! ومعنى ذلك أن النصوص التي تحدثت عن «الاستقلال»،
إنما أدرجته ضمن سيرورة زمنية كان فيها «الاستقلال» حدثا ثم تراجع ليفسح المجال
أمام التناقضات التي سكنت المجتمع الجزائري بعد ذلك. إنه الأمر الذي نرده - مثلما
قلت في كثير من التدخلات- إلى كون
"نص الثورة لم يكتب بعد" وأن ما نقرأه اليوم في نصوص القديمة
والجديدة لا يعدو أن يكون تسجيلا لذكريات تقف عند محطات تاريخية تُستل منها
الحادثة التي نريد استعادتها لغرض تأثيث الحاضر الروائي وحسب. أما النص الذي نتحدث
عنه، فهو النص الذي يكتب "الملحمة" بكل تفاصيلها الحميمية التي تجعل من
العمل الروائي أكبر من التاريخ، وأصدق لغة ومنه، وأشد حرارة في عرضه وتصويره..
حينما نقرأ بعض الملاحم التي كتبت في الغرب، ونُشَد إلى
تفاصيلها الدقيقة في فترات من التاريخ، نحس بذلك الرابط الحميمي الذي يشد الروائي
إلى الفترة بكل ما يتفصد عنها من أحداث وعواطف ومشاعر، وما يحتويها من تفاعلات
تؤثر فيها أيما تأثير.. ساعتها نشعر أننا أمام حراك تاريخي لا يمكن للتاريخ أن
يكتبه،بل يتسع له السرد الروائي من خلال قدرته واقتداره على حمل التوترات التي
تسكنه في كل خلجاته.. وقد نضرب أمثلة بما كتب "تولستوي" عن "الحرب والسلم" مثلا لتقريب
الصورة. وفي المقابل حينما نقرأ الرواية الجزائرية التي تلت «الاستقلال» نجد أن
الهم الذي يسكنها منذ الوهلة الأولى هم أيديولوجي، فهي تريد أن تنسى الماضي سريعا
لتؤسس لمستقبل في ظل رؤية أيديولوجية جديدة.. وكأنها تتعجل الانتقال بالمجتمع من
حال إلى حال، ومن وضعية إلى أخرى.. وأن تبني طوباويتها التي نظَّر لها المنظرون من
قبل.. إنها تنظر إلى المستقبل من منظارها الخاص.
استمر الأمر إلى نهاية السبعينيات من القرن الماضي، ثم
جاء جيل جديد، لم يعد «الاستقلال» يمثل بالنسبة له حدثا تاريخا شعبيا، بقدر ما
أصبح «الاستقلال» يطرح في حاضرهم جملة من التناقضات الفكرية والأيديولوجية
والسياسية، ويقدم من خلال إفرازاته شريحة اجتماعية متسلطة، ذات طابع انتهازي لا
تفتأ تستثمر «الاستقلال» لأغراضها الخاصة، فهي وإن ادعت "الوطنية" ولبست
شعاراتها المختلفة، إلا أنها أول من ينتهك الوطنية في أقدس معانيها. ومن ثم صار هَمُّ
الرواية فضح هذه الشريحة المتمكنة في أجهزة السلطة ودواليبها، والتي لم يخرج
الاستعمار من فكرها ولغتها وتصرفاتها.
بذلك شهدنا السرد يتخطى «تيمة» «الاستقلال» ليسقط في حمأة الصراعات التي تسكن
الواقع وتصنع أحداثه، وغدت الرواية أشبه شيء بنصوص "عرض الحال" الذي
يقدم فيها الروائي وجهة نظره عن الواقع والمستقبل.
تعليقات
إرسال تعليق