التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تأملات..لنقد والأثر المفتوح مرتكزات التحول من النقد الى القراءة.... الجزء2. من النقد الى القراءة .. يكتبها.. حبيب مونسي


. من النقد الى القراءة:
من الأصداء التي تلتقط خلف حفيف لفظ "النقد" صدى الحكم والمعيار، وكأنّ المتصدّى لهذه الغاية يقف في منطقة وسطى بين طرفين، فلا يمرّ صنيع هؤلاء إلى هؤلاء إلاّ عبره وبمباركته، فهو بذلك يمثل صورة فريدة متميزة، يطمئن إلى عدلها، ونزاهتها، واقتدارها، ورهافتها ذوقها الطرفان. وهي وظيفة تضارع وظيفة الى الشاعر في الأزمنة المتقدمة، أو وظيفة الكاهن في الأخرى قبلها. بيد أنّنا مازلنا اليوم نستشعر فيه هذه الميزة، فنقبل على ما خطت يداه، نستحسن ما يستحسن، ونستهجن ما يستهجن، وقد نتّهم أذواقنا لنقدم ذوقه ونعتدّ به.
إلاّ أن ظهور "المنهج" و"المرجعية" و"الانتماء الاديولوجي" و"الموقف الجمالي" عكرّ ذلك الصفاء، ولطّخ نصاعة ذلك التّوب، وتحوّل الناقد ببطء خادم طيّع في يد هذه الفلسفة أو تلك. والتي صاغته بحسب هواها وقيمها. وسواء أعلن الناقد انتماءه، أو تركه للقارئ يكتشفه عبر المقولات والمفاهيم، فإنّ عملية النقد في جميع أحوالها لاتخرج عن كونها: تحليلا وتفكيكا للأثر:  »الذي يصوّر الحياة عبر الاتصال الجمالي الذي يتخذ الأداة اللغوية منطلقا له من أجل  التّواصل والتأثير  بطريقه مخالفة  لطرائق الاتصال  الأخرى«(12). ويستهدف  تحليل  العناصر المشكّلة للمستويات  المتعدّدة التي تصنع  بنيته الكلّية. ذلك أنّ النقد يعتبر العمل الأدبي:" كلاّ مكوّنا من عناصر مختلفة  متكاملة فيما بينها على أساس مستويات  متعدّدة تمضي في كلا الاتجاهين: الأفقي والرأسّي في نظام متعدّد الجوانب متكامل الوظائف، في النطاق الكلّي الشامل«(13).
لقد غدت الوظيفة الجديدة للنقد، لا تنطلق في استثمار النص قبل تحديد الأثر الابداعي مرّة أخرى، فهي - السّاعة - تركّز على التّشكيل الهيكلي تحت توجيه اللّسانيات والبنيوية، وتوقف لغتها عند الوصف الذي يفكّك المكوّنات البنائية للأثر، وكأنّ غاية النقد  قد تحوّلت هي الأخرى من قول المعنى وتعيينه إلى الحديث عن كيفية  إنتاجه. إنّ  الناقد - وهو يتخلى تدريجيا عن الحكم - يحوّل  مسؤولياته فيما يخصّ المعنى: »إلى العناية لا بالناتج بل النظام الذي أنتجه: لا بالدّلالة، بل بطريقة الدلالة، فهو يريدنا أن نفهم "كيف" تعني النصوص، قبل البحث في "ماذا" تعني«(14) هذه النصوص.
إنّ ذلك يعيّن  مرحلة كان  فيها الاهتمام الشكلي، والانشغال اللساني سيّد الموقف، فانعكس المطلب النقدي على اللغة الابداعية وحركيتها داخل البنيات، وفي النسيج  الأسلوبي ضمن  العبارة. وقد كان من الضروري التمييز بين البنية والأسلوب في إطار اللغة الابداعية ذات  الصّبغة الجمالية البارزة، لأنّ  البنية: »تتصّل بتركيب  النّص، بينما يمسّ الأسلوب النسيج اللّغوي المكتوب به فحسب«(15). ويظل المعنى مرهونا بالعلاقة التبادلية بين البنيات والأساليب، لا يخرجه من ذلك  الطّوق المغلق إلا فاعلية التأويل، الذي يتوقف أساسا على شخصية  الناقد، وعلى عصره، وانتمائه الاديولوجي.لأنّه لا يتم تأويل عنصر  ما من عناصر الأثر  إلاّ من خلال دمجه داخل نظام - ليس نظام العمل الأدبي الذي ينتمي إليه - ولكن نظام الناقد القائم عليه(16).
إنّ بذور القراءة - نشاطا قائما وراء النقد- تتخلّق في صلب عملية الدّمج الواسعة التي تتخطى حدود الأثر  ونظامه الرّمزي، إلى نظام يؤمّمه، ويصبغ عليه مسحة جديدة، تتعدّد بتعدّد المسؤولين. وتتجاوز مهمة الناقد القصدية القائمة وراء الحرفية والدلالة الأحادية القارّة إلى: »الكشف عن إمكانية تعدّد الدّلالة في النّص الواحد. وهو إقرار بلا محدودية الأثر وقابليته للانفتاح، وإقرار - أيضا- بالتأويل. إذ انّ الكشف عن تعدّد الدّلالة رهين ظروف الناقد الذي يدخل النّص في نظامه دون تعسّف « (17). ذلك أنّه انطلاقا من أبعاد اللّغة وخصائصها، فإنّ ما يقوله، الأثر الأدبي يتجاوز  حتما ما قاله كاتبه، لأنّ ما ينبثق عنه من معان لا يمكن أبدا حصره في ملفوظاته. بل ذلك ما يشكّل الغموض الأساسي للكتابة.
إنّ كلّ تحليل يستبطن الشّبكات الدّلالية للنّص، يحيل دوما على دلالات أخرى تقع خارجه، مشكلة الأطر المعرفية التي يستند إليها. إنّه يحيل  من خلال الدّلالة الجمالية - مثلا- على دلالة وجودية تكتنف الموقف، ومن الدلالة ومن دلالة الوجود إلى الدلالة الميتافيزيقية/ الدينية، ثم الاجتماعية، ثم بشكّل أوسع الدلالة التاريخية لينتهي من جديد عند الدلالة الجمالية، وقد اغتنت وتوسّعت(18).
قد يوهمّنا هذا الطّرح أنّ الدّلالات المذكورة تقع خارج النّص - وجودا مستقلا- بل أطرها فقط، وتشكّل معانيها لحمة الأثر وسداه. فهي متواجدة بالقدر الذي يكتنزه الرّمز وتحيل عليه ظلال المدلول في سدفة من الغموض والعمق، مادام العمق: » ميزة ممكنة للغموض شريطة أن لا يترجم ضبابية الفكر« (19).
إنّه الآن يسهل  علينا إدراك  كيفية التحوّل من النقد إلى القراءة، من خلال إعادّة الاعتبار لطرفين خطيرين في العملية الإبداعية: المبدع والقارئ.
 · المبدع: لم يكن الحديث  عن المبدع في المقاربات التقليدية إلاّ من وجهة تاريخية ضيّقة حصرته في السّير الذاتية، واستأثرت به الدّراسات في "فلسفة الفن"، محاولة كشف أسرار العملية الإبداعية من خلاله. ومن ثم أغرقته في أوصاف التي تتأرجح بين قطبين متدابرين: تجعله ذاتا مشرقه منفصلة "DETACHE" عن الواقع، تتمتّع بمعرفة  كليّة. كما هو الحال عند "برغسون""BERGSON" غارقة في الآن "l’instant" بما فيه من فردية، وغرضه، وعدم قابلية للإعادّة(20). أو هو ينهض بواجباته كإنسان وينظر، إلى الفن نفسه باعتباره "رسالة". بل عليه أن يمارسه كواجب مقدّس. عند "كروتشه" "B.CORCE"(21). أو هو يقدّم "معادلا حسيا" يستطيع من خلاله الأفراد استعادة المعنى. وأنّ "الموضوع الجمالي"دعوة ، لابدّ من الاضطلاع بها. أو نحن أحرار في قبولها أو رفضها، كما هو الشأن عند "سارتر"(22) إنّه - في الأحوال جميعها - ذاك الشّخص الذي لا يهتم باليومي المتحوّل، والعرضي الزائل. ولكنّه يسعى وراء الخالد ليثبته أو يقضي دونه. ومها كان الرأي الشائع والمعتمد فيه، فإنّ النظرة تولد من تفكير حاد حول الأشكال القائمة - حينها - ومن خضوع واضح لبعض المزاعيم الشائعة في ذلك الإبان(23).
 · القارئ: إذا كان المبدع يصدر عن منظومة فكرية - خاصة به- ذات تشكيل معقّد غالبا، تصنعه تقاطعات شتى بين الديني، والأسطوري، والاجتماعي، والنفسي، والثقافي... والتي تؤتّث المنظومة الإبداعية وتعطيها صبغة التفرّد. فإنّ  الشأن عينه عند القارئ، يقابل به الأثر الفني. وكل قراءة إنّما تحمل في ثناياها اعتبارات الموقف، واللحظة، وتلوينات المنظومة القرائية. وهي عملية معقدّة، تخفي في ثناياها كثيرا من التقاطعات ذات المفعول الخفي في نتائج القراءة. فإذا كان المبدع: » يخضع لسلسلة من القوانين المتعدّدة، كقانون تداعي الخواطر الذي ينادي به علم النفس، وقانون تقسيم  العمل الذي قال به "دوركايم"(24). فإنّ القارئ - هو الآخر - يخضع لها خضوعا متفاوت الدّرجات، حاولت سوسيولوجيا القراءة الكشف عنه عمليا من خلال التجريب(25).


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،