التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الرواية الجزائرية أمل الانتظار وخيبة التلقي / بقلم : أ.د. حبيب مونسي - ويصحو الحرير" لأمين الزاوي نموذجا


الرواية الجزائرية أمل الانتظار وخيبة التلقي / بقلم : أ.د. حبيب مونسي - ويصحو الحرير" لأمين الزاوي نموذجا
بقلم : أ.د. حبيب مونسي
[ شوهد : 1273 مرة ]
1- قراءة الرواية/أمل الانتظار:
لا ينكر أحد من الدارسين تدني مقروئية الرواية بشكل خطير في النصف الثاني من القرن العشرين، وهي اليوم في مطلع هذا القرن، تعاني خطر الزوا
ل النهائي، والتصفية التي ستجعلها أثرا بعد عين، وترمي بها إلى متاحف الفن، باعتبارها نشاطا إنسانيا أدى دوره الفني والتربوي، ثم تراجع ليفسح المجال أمام نشاطات أخرى، أكثر جاذبية، تغذيها الصورة والصوت، بما اكتسبت من قوة التأثير والجذب. 
ذلك هو التفسير السريع الذي يهرع إليه العديد من الناس حينما يسألون عن الوضعية المزرية للمقروئية، فيتهمون السمعي البصري باكتساح الساحة الفنية، لوفرته وزهادة أسعاره. غير أنهم لا كلفون أنفسهم عناء البحث في الظاهرة ذاتها. أي في الرواية نفسها. لأن الفحص فيها أولا هو الذي سيكشف عن أسباب التراجع ابتداء، ثم عن دواعي الاختفاء والتلاشي انتهاء.
حينما يقصد القارئ مكتبة، ويتجول بين رفوفها، تتكشف أمامه الكتب عارضة عناوينها الجذابة، في محاولة لإغرائه، واستدراجه، ليمد نحوها اليد، ثم ليقرأ منها السطر والسطرين.. لقد كلفت هذه الحركة على بساطتها المؤلف، والطابع، ومهندس الإخراج، وراسم الغلاف، ومصفف الحروف.. جهودا لا يمكن تصورها، حينما تتعارض رغبة المؤلف والناشر في عدد كلمات العنوان. يذهب بها الأول إلى أن تكون خير دليل على مقاصده التي جاهد من أجل بثها في النسيج القصصي. وينصرف بها الثاني إلى ما تمليه واجهات العرض من أسباب الإغراء ومصادمة الأحاسيس. فإن كان الأول يحدوه أمل الأدبية، فإن الثاني يبعثه أمل الربح. ويستجيب الباقون إلى شرطيهما استجابة ربما تتجاوز المقصد الفني والتجاري معا. 
غير أن صاحبنا حين يمد يده إلى الكتاب، لا يلتفت كثيرا إلى الحقيقة التي ذكرنا منذ حين، وإنما يذهب إلى تلبية رغبة كامنة في النفس: رغبة حب الاطلاع.. إنه يريد أن يعرف ما جرى.. يريد أن يتطفل.. أن:« يتبنى بيسر دور مصاص الدماء الذي يجعل من قراءة الرواية متعة سادية، فإذا رفضنا هذه المتعة بدت الرواية باردة.» ( ) لأن الفن الروائي -في حقيقته التي تقع خارج أسوار الفن- إنما هو سبر وكشف الأسرار، مادام الروائي الماهر هو ذلك الذي يساعدنا على إضاءة هذه الأجزاء المعتمة من الحياة، والتي يعسر علينا الولوج إليها من غير أدلاء يعرفون مسالكها ومجاهلها. فالروائي حينما يمسك بالقلم إنما يمسك – في حقيقة الأمر- بيد القارئ ليسلك به عبر الكلمات والتعبير فجاج النفس البشرية في لحظات قوتها وضعفها، في دروب عزها ومضايق ذ لها.. في ما لها وما عليها من تقلبات الحياة والعشرة الإنسانية. ومن ثم فإن دور الرواية كما فُهم من قبل فهما سليما، هو القيام :« بدور الكاهن المعرف، والمشرف السياسي، وخادمة الأطفال، وصحفي الوقائع اليومية، والرائد، ومعلم الفلسفة السرية» ( ) وغير ذلك من الوظائف التي يمكن أن يتسع عدها إلى قوائم تطول ك لما أعدنا النظر في حقيقتها الجوهرية. 
قد يكون في مطمحها مطلب آخر لا تستبين لنا حقيقته الآن، بل نتحسسه حاضرا في كل سطر نقرأه، وفي كل موقف نقفه من سردها، وشخصياتها. وكأنها وهي تقوم بهذه الأدوار كلها إنما تطمح لأن تكون ضربا من الفن العالمي الذي:« يهدف إلى أن يحل محل الفنون الأدبية جميعا، ويمكن أن يكون في أيامنا شكلا معمما للثقافة... إن الرواية تقدم في آن واحد: جاذبية "الحكاية" القاسية، والسجل الواسع للأصداء النفسية والاجتماعية والأنتولوجية والجمالية التي يمكن أن تشتمل عليها هذه الحكاية.» ( ) فإذا كانت نشأتها -في سذاجتها الأولى والأولية- مجرد حكاية أحداث ترويها، فإنها مع تعقد الحياة، وغموض مطالب الذات وأشواقها، غدت تلبي:« حاجات أكثر سرية، وأشد باطنية، وأبعد عمقا إلى ما لا نهاية له.» ( ) مادامت هيئة القارئ قد تغيرت، وانتقلت من التلقي الأولي الذي يستمع إلى الحكاية استماعا منفصلا، لا تعنيه أحداثها، ولا تؤثر فيه نتائجها، لأنها تقع على غيره، فلا تمسه ولا تؤذيه، إلى حال آخر، يجد فيه نفسه مرغما على تبني :« ومن الصفحة الأولى، حالة البطل الذي يجد نفسه بغتة في قلب الأزمة.» ( ) بل نحن مجبرون على أن :« ننتقل دفعة واحدة من الح ياة إلى المغامرة.. من اللامبالاة إلى التوتر، مع إحساسنا بتلك اللسعة الغريبة التي تسبق اليقظة من نوم مضطرب.» ( ) 
إن صاحبنا وهو يمد يده إلى الكتاب في الرف، يستشعر تلك الأحاسيس التي ستصاحب لذة الاكتشاف، وتسري في مخيلته فاسحة فيها مجالا تعيد فيه بناء العالم الافتراضي الذي ستجري فيه أحداث الرواية مجددا، حين تفارق المخيلة التي أبدعتها، وتحل في أرض جديدة تستمد منها كل عناصر البناء، لينشأ بعدها عالم مغاير للعالم الذي عرفته في أول أمرها. إن الرواية تستبدل أثوابها وحياتها بهذه الطريقة، كلما صادفت قارئا تستهويه، تتخذ منه مجالا تتجدد فيه. وتلك حقيقة يتوجب علينا اليوم تأكيدها لأننا حين نقرأ روايات القرن الماضي، أو الذي قبله، فإنه يتعذر علينا إعادة بنائها كما أراد لها أصحابها أن تكون، وإنما يتسع أمرها لنبنيها كما نريد لها أن تكون، بأدوات نستمدها من حاضرنا، ونكسوها قيما من واقعنا. ذلك هو الانتظار الذي يبديه أو يخفيه كل من يقتني الروايات، والذي سيصرف من أجله ساعات من القراءة تعزله عن الدفق الحياتي اليومي، وتدرجه في فضاء يتوغل فيه مع كل كلمة يفك عنها غفلتها، وينفخ فيها نسمة حياة.
3- الوهم والتشضي:
إن العالم الذي يبنيه القارئ، حين يتابع توالي الصفحات في الرواية، يتسم -وإن كان عالما افتراضيا- بكثير من المعقولية والاحتمال "vraisemblance" فهو قريب الشبه من العالم الواقعي، لا تختلف أشياؤه ومعانيه عن أشياء ومعاني العالم الذي يحيا فيه القارئ. فهو حين يدخله، أو يعيد بناءه، إنما يغترف من عالمه الخاص ما يمكنه من التوصل إلى المقاصد الحقيقة التي بثها الكاتب في عالمه الأول. غير أننا حين نقترب من الرواية الحديثة عموما، والرواية الجزائرية خصوصا، نجابه بحالة من التشضي "éclatement" يتعذر معها الإمساك بالهيكل الباني للعالم الروائي. فتغدو الأحداث بين أيدينا منفرطة كحبات العقد، وهي تتباعد متنافرة في جميع الاتجاهات. فالقارئ من :« مطلع الرواية لا يتعرَّف عالما مألوفا. إنه يدخل على العكس في عالم يبعث على الحيرة، تجردت فيه الأشياء والكائنات والأحداث من العلاقات المألوفة... وأن ردود الفعال للشخصيات تثير الدهشة، لأنها لا تجري حسابتها، ولا تفكر وفق القوانين المبتذلة للحياة الدارجة.» ( ) فإذا كنا نسلم بأن "التشضي" -في بعض حالاته المضبوطة- قد يكون مطلبا جماليا تسعى الرواية من خلاله إلى فتح مجال القراءة على التأويل لبلوغ غايات ما كان لها أن تبلغها لو ظل النص في خطيته المعللة تعليلا منطقيا. بيد أن "التشضي" الذي يُترك حبله على غاربه، سريعا ما ينقلب فعله الفني إلى فعل تدميري يستهلك طاقة اللغة الرصينة، ويحيلها إلى لغة لاهثة، تجري وراء التحولات والقفزات. لا تعرف أين تبدأ الجملة فيها وأين تنتهي، فتسقط سريعا في "التسطيح" "superficiel" الذي لا يتيح مُهَل التدبر في القضايا المعروضة.
إننا حين نصل إلى عتبة "التسطيح" وتسارع اللغة وراء انزلاقاته، نُمكن لظاهرة تدميرية أخرى من التأكد والمثول، تلك هي ظاهرة "التعدد" "multiplicité" التي تحشر في النص عددا هائلا من المعلومات والملاحظات التي تفتقر إلى الروابط السببية والتعليلية. والتي تجعل الدوران معها مثار ملل لدى القارئ، ومدعاة إلى قتل الرواية في نهاية الأمر. 
إنه الخطر الذي يتهدد الرواية الجزائرية، حين يُساء فهم التقنيات التجريبية الحديثة التي عرفتها الرواية الغربية، والتي انتهت بها إلى الكساد.. فإذا كنا نقرأ في نقودهم عناوين مثل "وداع للأدب" " L’Adieu à la littérature"( ) و"ما نفع الأدب؟" " À quoi sert la literature ? و"ما قيمة الأدب؟" " Que vaut la littérature ?" ( ) و"من قتل الأدب؟ "Qui a tué la littérature" ( ) فإننا نستشعر الخطر الزاحف الذي بدت آثاره المادية واضحة على الرواية الجزائرية. 
فحين نقرأ حديث البطلة في رواية "ويصحو الحرير" ل "الزاوي أمين" نلمس آثار "التشضي" في مستويين: مستوى العرض الخارجي الذي يتولاه الوصف، ومستوى التداعي الداخلي الذي يكشف عنه الحديث النفسي. 
أ‌- التشضي الخارجي:
تقول البطلة "حروف-الزين" :« قال زوج أختي... ستبقى حروف-الزين معنا، الأحياء الجامعية وكر للفساد، والعلاقات غير الصحيحة وغير الشريفة "mauvaises fréquentations" ثم هز رأسه، لم يعجبني كلامه، كان يريد أن يفصح عن شيء آخر، فهمته وفهمته أختي، رغم غباوتها الطفولية، لم أفكر في كلامه كثيرا، اعتبرت ذلك كلام ليل سيمحوه النهار، زوج أختي يحب أم كلثوم، خطه جميل، تفنن في كتابة معظم أغانيها على أوراق كرطونية جميلة، وألصق بعضها على جدران الصالون. إنهما يسكنان على سطح عمارة وسط المدينة، توسط له أبي عند صاحب العمارة فأعطاه شقة السطح المكونة من غرفتين وملحقاتها وفسحة واسعة، وأسراب حمام تجيؤها لتنام وتبيض وتفرخ هناك.»( ) إن الملاحظة الأولى التي يعرضها علينا الشاهد تتمثل في هذا الحشد الكبير من المعلومات المتنافرة التي يتعذر إيجاد الرابط بينها سريعا، وكأن كل عبارة فيه تتجه إلى وجهة لم تستكمل بعد عناصرها، ليلتفت إلى وجهة أخرى ليس بينهما من رابط سببي غير ما تدفعه البطلة في هواجسها الداخلية. 
إننا ننتقل سريعا من الأحياء الجامعية الفاسدة.. إلى أم كلثوم وإجادة الخط.. إلى المسكن على سطح العمارة.. إلى الحمام.. كل ذلك في بضعة أسطر. وكان "التشضي" وما يحتِّمه من "تعدد" يملي على اللغة ضربا من السير اللاهث وراءه، فلا نكاد نصادف جملة مألوفة تتكون من مسند ومسند إليه. وإنما هي "عبارات" تتوسطها فواصل وحسب. فلا تتوقف الجملة عند حد تلملم فيه شعثها وتهذب عبارتها، وتتجمل قليلا لقارئها. بل يميل بها السير الحثيث، والنزق، إلى ضرب من السطحية التي تنتهي بها سريعا إلى اللسان الدارج، أو إلى ترجمة أجنبية تقحم إقحاما في صلب النص، وكأن الراوي لا يطمئن لفهما للكلمة العربية، أو لا يريد منا أن نفهم مرادها العربي، وأن نميل بها إلى المراد الأجنبي.
إن "التشضي" –على النحو الذي رأينا في الشاهد- لا يقدم للقارئ مادة يتدبرها، تحتل فيها الأشياء على بساطتها دور الرابط الذي يرتفع بنا من الشيء إلى الفكرة، ومن الفكر إلى المقاصد. وإنما يكدس "التشضي" و"التعدد" بين أيدينا كوما من الضجيج الذي يلطخ الصفحات تباعا من غير فائدة ترجى. إنها السمة التي يمكن إضافتها إلى العاملين السابقين، سمة "التلطيخ" "éclaboussure" وهي سمة نستعيرها من فن الرسم التجريدي الحديث الذي يعتمد في تشكيلاته على تقنية يدعوها "le tachisme" حين يعمد الفنان إلى اللون يرمي به وجهَ القماش، فاتحا أمام المصادفة أن تفعلها فعلها العشوائي في الأشكال والألوان. 
ب-التشضي الداخلي:
تقول البطلة مستطردة:« كان زوج أختي لطيفا تلك الليلة، يرتدي تريكو من صوف أو قطن بلونين متعامدين: الأحمر والأسود، بدا لي يعقوب أكثر حيوية مما كنت أعتقد، وبشوشا أيضا. أختي تحتج دائما وتقول عنه إنه بارد وأناني وكثير الشخير في الليل، يقضم أسنانه، ولا يحسن ممارسة الجنس. أبدى اهتماما خاصا بي مما انزعجت له أختي، تركتنا وانسحبت غضبا لتنام حتى قبل أن تنهي عشاءها. سمعتها تتقيأ في "اللافابو" المغسل ثم في التواليت. إنها لربما علامات الحمل. حذرني يعقوب وبلغة أبوية خشبية من مغبة التوجه لدراسة الأدب، فالمستقبل غير مضمون في هذه التخصصات. وأنا أسمع كلامه وأهرب من سماعه وأتحاشاه، شعرت بنزلة ألم حادة في أسفل بطني، ثم شعرت بيتم فجأة. حوطني أبطال وشخصيات الروايات التي قرأتها على سطح منزل جدتي البسيط في ندرومة... » ( ) 
قد يفسر التداعي الداخلي كثيرا من الهواجس غير المترابطة التي تطل برأسها من بين العبارات اللاهثة وراء دلالات لا تكاد تبدأ حتى تنتهي. وكأننا أمام شخص غير سوي البتة، يحاول أن ينقل إلينا فيضا من المشاعر المتناقضة. وحين نطيل الإصغاء إليها ينتابنا شعور بالغثيان، إذ يتعذر علينا إيجاد خيط المعقولية فيما يقول ويفعل. 
فإذا كنا قد تابعنا بمشقة علاقة البطلة بزوج الأخت، فإننا لا نجد مبرر الألم الذي انتابها، ولا مفسر شعورها باليتم، ولا كيفية ظهور أبطال الروايات التي قرأتها في ندرومة.. إن مثل هذا الغثيان يوحي للقارئ بأن الرواية تتقدم من غير هدى وأنها تصنع نفسها بنفسها استنادا إلى هواجس لا أول لها ولا آخر، وأنها لا تخدم فكرة جوهرية سينتهي إليها السرد إن آجلا أو عاجلا. 
غير أننا حين نتقدم قليلا نصاب بخيبة الأمل في نتيجة ذلك "التلطيخ" حين يكون المراد من ورائه العبث بمشاعر القارئ عبثا رخيصا فجا، لا تكتب الرواية من أجله البتة. لقد كان الألم الذي انتاب البطلة من غير مبرر قبلا يدفعنا للسؤال عن وظيفته السردية، غير أن عبقرية السارد الفجة، تنتهي بنا إلى مثل هذا الحديث:« دخلت المرحاض، تقيات، قيئ أختي هو الذي قلب بطني وزلزل مصاريني، تيقنت أن العادة الشهرية لم يحن وقتها بعد، أطفأت نور المرحاض وأنا لا أزال بالداخل، شعرت براحة تامة، لأول مرة أكتشف متعة المرحاض بالظلمة: الآن فقط أدركت لماذا أطلق العرب على مراحيضهم اسم "بيت الراحة" لأول مرة يحسن العرب ويصيبون في إطلاق اسم على مسم.. بيت الراحة.. بيت الراحة.. ثلاث مسميات أتقن العرب تسميتها: بيت الله الحرام وبيت المال وبيت الراحة.» ( ) 
إنه الحديث الذي ينتهي فيه المقدس عند القارئ ليتساوى بالنجس في سلسلة من الاستنتاجات الرخيصة، تدفع بها عبقرية مراهقة في ظلمة المرحاض. فإذا كنا نبحث عمن قتل الرواية وبدد جيوشا من القراء، فإن مثل هذه النتائج هي التي أودت بها إلى غير رجعة.
ولا تسلم اللغة المنهكة من التحريف والتزييف، حين يطلب منها أن تقول مثل هذه الأشياء قولا فجا، لن يستخلص منه التأويل ولا القراءة -مهما أوتيت من تعد وفضاء- شيئا يمكن رده إلى فكرة يتأسس عليها البناء الروائي. وقد يطول الحديث على هذا النحو، وتلطخ به الصفحات من غير أن تنضب تفاهته، وينتهي ضجيجه.
4-اللاأدبية:
حين ننعت أثرا ما بالإبداع، فإنه يتعين علينا تحديد حقيقة الإبداع، لنعرف متى يكون الإنسان مبدعا. وكيف يخرج عمله من دائرة الحرفة التي يشترك فيها العامة من الناس، إلى دائرة التفرد التي يجد فيها الواحد منهم ما فاته من فهم دقيق للحياة ومعانيها. ذلك أن الإبداع : « إنما هو انفعال، ولكن الانفعال هنا لا ينفي التفكير، ولا يعني عدم جدوى التأمل، وإنما يعني اندلاع نار الوجدان –على حين فجأة- في وقود الفكر.» ( ) فإذا كان حديث الفتاة المراهقة "انفعالا" فذلك لا يمنع السارد من أن يرتفع به من حضيض الكلام الفاحش إلى المعاني التي يحتاج إليها قراء الرواية في مختلف الأعمار والهيئات والأحوال. فإذا استمر الانفعال في خطية واحدة، فإنه سيبتعد عن الإبداع ليسقط في الهذر الذي تلطخ به الصفحات. فلا هو مثار "تجسس" مستحب مرغوب فيه- كما وصفه "ألبيرس" من قبل- ولا هو إشارات يستفتح بها التأويل أبواب الدلالة التي توسع من حدود النص. لأن الفكر الإيجابي الحق:« والجدير بهذا الاسم حقا هو الفكر الإيجابي الذي يتصدى لحقائق العصر الذي ينتمي إليه بالتحليل والتفسير والقويم.. والفكر الذي يكتفي بتبرير الواقع والدفاع عنه إن ما ينتمي إلى مجال الفكر على سبيل المجاز لا الحقيقة.» ( ) إن الوظيفة غير المعلنة لفعل الكتابة إنما تتلخص في حركات ثلاث: التحليل والتفسير والقويم. والرواية –كما أسلفنا- إن كانت تطمح لاستغراق الفنون كلها في شكل موحد، يتعذر عليها أن تتخطى هذه الحركات، لتفسح المجال أمام السقوط الحر الذي ينتهي بها إلى الهاوية.
إن "الإبداعية" هي أول ما يُسلب من الرواية حين تستكين للتشضي والتعدد والتسطيح. وحين يغدو التلطيخ حشوا يتذرعه السارد لاستفراغ شذوذه على الصفحات. إنها عين الملاحظة التي سجلها "سارتر" على "نتالي ساروت" حين كتب عنها قائلا: « إذا ألقينا نظرة على ما يدور في داخل نفوس الناس كما تطلب منا هي أن نفعل، فإننا نرى أشياء كثيرة مائعة لها ذؤابات مطموسة تمتاز بصفة التملص. فهناك تملص عبر الأشياء التي تعكس الكوني والدائم بهدوء، وهناك تملص عبر الاهتمامات اليومية، وتملص عبر السخافة والضعة.» ( ) فإذا كانت كتابات "نتالي ساروت" تلامس هذه المستويات الثلاثة، فإنه مما يشفع لها أن السرد لديها ينفتح على تأويل وجودي يسعى وراء حقيقة الإنسان في نهاية المطاف، باعتباره أزمة يجب فكها روائيا بعدما عجزت الفلسفة عن قراءتها عبر التجريد والمفاهيم. وكأن الرواية التي تتخلى عن التحليل والتفسير والتقويم، إنما تضع نفسها في خانة "التشاؤم" لأن:« الأسس الأدبية للتأليف التجريبي متشابهة تشابها وثيقا مع أسس التشاؤمية. فالتشاؤمية تتخلى عن أهمية الجهد البشري، والتجريبية... تتخلى عن كل ما يفهمه الإنسان من كلمة "معنى". » ( ) والذي ننتهي إليه من جراء قراءة الشاهد، ليس إلا غثيانا يعمل على ترسيخ معنى العبث واللاجدوى في حياة الناس القائمة على الأنانية والشذوذ.
فإذا كانت "الإبداعية" سمة الفن عموما فإن "الأدبية" سمة الأدب خاصة. وهي السمة التي تحدده جنسا له متطلباته اللغوية والجمالية. بل هي جملة من الخصائص يتلبََسها الصنيع الأدبي ليرتفع بها إلى مصاف الأدب الحق. فإذا فقد شرطا من أشراطها، فقد حق الانتساب إليها. لأننا حين نفحص حقيقة الإبداع الأدبي من وجهة أكثر شمولية، يتبين لنا أن الأساليب التي يكتب بها الأدباء والشعراء ليست شؤونا خاصة تحدد سمات هذا وذاك، وإنما هي علامة على مستوى العصر وثقافته. تتسع دائرتها لتتجاوز المكتوب إلى الملبس والمشرب والمأكل. بل إلى أنماط العمران وهيئاته. فالبلاغة التي يتسم بها حديث الأفراد فيما بينهم مُشافهة ومُكاتبة، ليست زخرفا من القول وحسب، إنما هي امتداد لسمة العصر، وعلامة دالة على مستواه الحضاري. والبلاغة :« ليست سوى مجموعة من القواعد المنظمة التي تمثل تعبيرا عاما عن مظاهر ثقافة العصر وعن فكرته الثابتة عن الإبداع اللغوي والأدبي.» ( ) وحين نعود إلى الشاهد الذي هوى به التشضي إلى مستوى التسطيح الدارج، والمعنى الفج، افتقدنا الأدبية كلية، فكان حقيقا علينا أن نفتقد المقروئية في نهاية المطاف.
5- امتهان اللغة:
يبدو أن الغرب قد أدرك قبلنا الخطر الذي يتهدد كيان الأدب، وأن الإطلالة على الهاوية، يبعث في النفوس دبيب المخاوف التي تنتهي إلى زوال الإنسان إبداعيا على الأقل، وتحوله إلى كائن ورقي تعاد "رسكلته" كل حين ليستهلك من جديد. وربما بدت شهادات بعض الدارسين "كارثية" حين يربطون بين زوال عنصر من عناصر الأدب بتحول خطير في حياة الناس والمجتمع. ف "بيار جيرو" "P.Guiraud"- وهو يتحدث عن الأسلوب- يجد :« أن اليوم الذي لا يصبح فيه المجتمع ولا المؤسسات والعادات والقيم الجمالية والخلقية، ولا اللغة التي تعبر عن كل ذلك واقعا مطلقا أبديا، بل تتحول جميعها إلى خلق متجدد خاضع للتجربة، فإن كل نظرة لهذا الكون تبدع اللغة التي تعبر عنها. وعندئذ تفقد البلاغة جميع حقوقها الشرعية، وتنزل عن عرشها، وتتمزق أطرافها التقعيدية النموذجية، لاختفاء الأسس المثالية التي كانت تعتمد عليها.» ( ) وهو ربط عجيب بين الأسلوب من جهة والمظهر الحضاري للمجتمع من جهة أخرى. وكأننا حين نسلك سبل التسطيح وامتهان اللغة في كتاباتنا فإننا نعبر –من طرف خفي – عن مستوانا الحضاري. وكل كاتب إنما يسجل من خلال امتهان لغته وأساليبه درجته الحض ارية التي يقف فيها. فإذا أردنا تصنيف الكتَّاب بحسب مستوياتهم الحضارية، فلن ننظر إلى هندامهم، ولا إلى مراكبهم، ولا إلى من يجالسونهم.. وإنما يكفينا أن ننظر في كتابتهم لنعلم من شأنهم المستوى الذين ينتمون إليه، والهواجس التي تسكنهم، والرؤى التي تملأ حياتهم.. وربما عدنا مجددا لنحيي مقولة "بيفون": "الأسلوب هو الرجل".
وحتى لا نظلم الروائي الجزائري، نحاول المقابلة بين ما يكتب وبين تصريحاته في الحوارات التي تجريها معه الشخصيات الإعلامية والأدبية، لنقارن بين ما تخطه اليد وما يدعيه الروائي لنفسه وأدبه. ففي حوار أجرته معه "فاتن حمودي" (كاتبة من سوريا)، يقول الروائي رادا على السؤال التالي:
-"فاتن حمودي" :
للرواية جماليات مكانية زمانية، على صعيد السرد والحوار واللغة، كيف تنظر إلى التفاوتات والتشابكات بين العامية والفصحى في السياق الروائي على الصعيد الإجتماعي وتمايز الشخصيات؟
-أمين الزاوي:
يبدو لي أن الثقافة الروائية تحتاج إلى ثقافة خصوصية، فلا يمكن أن يدخل أيّ روائي العالمية إلا إذا كانت له خصوصيته القادمة من ثقافة الأم. الأم بمعنى الحضارة، والأم بمعنى اللغة- الحليب.. في «وحشة اليمامة» وفي رواية «يصحو الحرير» المكتوبتين باللغة العربية، حاولت من خلال إيماني وفلسفتي في الكتابة، أن أمزج ما بين الرواية المثقفة العالمية، التي تقدّم للقارئ مرآة تحمل ظلال الذات، وظلال الذكريات التي تجعلنا نستأنس بخصوصيتنا داخل هذا التنوع العالمي. فرواية بدون مرجعية هي رواية فاقدة لعطرها، والرواية بدون الانغماس في الثقافة المحلية ستكون تكراراً لنصوصٍ دون هوية..( )
كان هدف المحاورة أن يقف السؤال على العناصر الأساسية في بناء الرواية: السرد والحوار واللغة. لأنها المقومات الأساسية التي تسمى بها الكتابة عملا روائيا. وهي العناصر التي أصابها التشضي بدائه فانخرمت على النحو الذي وصفنا من قبل. غير أن الروائي يحيد عن ذلك كله، ليذهب إلى هاجس العالمية الذي يتخيله كامنا في المزج بين " الرواية المثقفة العالمية، التي تقدّم للقارئ مرآة تحمل ظلال الذات، وظلال الذكريات التي تجعلنا نستأنس بخصوصيتنا داخل هذا التنوع العالمي." ويستشهد ب"ويصحو الحرير" على النموذج الذي كُتب بحسب " إيماني وفلسفتي في الكتابة"، ولا تبتعد الخصوصية الذاتية التي يتحدث عنها الروائي في "ويصحو الحرير" عن مثل هذا المقتطف الذي تروي فيه البطلة شيئا عن ذاتها، حين تقول:« أنسل إلى الداخل، أترك خلفي المرأة الوحشية، أحس بجسدي داخل الشرشف كالأفعى، أحسه يتقشر كالبرتقالة، نار موقدة في شجرة عروقي، عارية ألتف بالشرشف الأبيض كالكفن. أفكر في يعقوب زوج أختي وأدعك عضوي الجنسي بعنف أفركه حتى يسيل اللعاب من فمي فأشعر بي على قمة الشبق فأشتعل ثم أرتخي. أبقى هكذا بعض الوقت ثم أبعد من رأسي صورة زوج أ ختي..»(88) أو عن مثل هذا حين تقول:« ناولني الطفل علبة مالبورو. دون أن يرفع نظره من على جسدي الذي فصفصه حتى خلت أن بي أمرا ما. ربما فاجأتني العادة السرية ففضحتني في الشارع أمام المارة، المارة التي لا ترحمن. لم يرفع الطفل عينيه عني، شعرت وكأنما يعريني قطعة قطعة. لكم هم شرسون هؤلاء الأطفال. يولد الأطفال عندنا هكذا: أول ما يخرج من رحم الأم هو القضيب، ثم تزغرد النساء سبع مرات لطلوع القضيب ثم بعد ذلك تنزل القطع الأخرى التي لا أهمية لها كالرأس والقلب والعينين وما بقي من الجسد، تلك الأشياء زائدة يمكن الاستغناء عنها في هذا المجتمع الإسلامي المؤمن بالله وبجميع الرسل والأنبياء.» (99) 
إيمان وفلسفة في الكتابة، لا يبتعدان كثيرا عن شذوذ جنسي ينخر النص واللغة نخرا مقرفا، ويفرغهما من الأدبية، لينتهي كل ذلك إلى امتهان للدين والهوية، التي قال عنها الروائي من قبل أنها " خصوصيته القادمة من ثقافة الأم. الأم بمعنى الحضارة، والأم بمعنى اللغة- الحليب " التي تشوه العربي المسلم، وتختزله في عضوه الذكوري، وتستغني عن باقي القطع، لا لشيء إلا لانتمائه إلى هذا "المجتمع الإسلامي المؤمن بالله وبجميع الرسل والأنبياء". ويسمي الروائي هذه "العملية الأسلوبية" تقنية يقول عنها:« وفي تصوّري أن اللغة العربية قادرة على أن تتأقلم مع فتنة التخريب دون أن تفقد سلطتها اللغوية أو ذاكرتها. فاللغة حين تقترب من الشعبي وتبتعد عن الديني تتحوّل إلى لغة الشعر، أي تتحوّل إلى لغة الحياة.. ومن هنا على الروائي أن يكتشف ويفاجئ اللغة في تلك اللحظات.»( ) لأن اللغة الجميلة في اعتقاده:« هي اللغة التي تستطيع التحدث عن الفسق، والله، والحياة اليومية.» ( ). وهو تخريب يتم على مستوى الأسلوب، والفكر والمعتقد. فلا يجد غضاضة في أن يعطف لفظ الجلالة على الفسق. ولا أن يتملق الآخر فيعزوا إليه كل فضل في تحديث اللغة ال عربية،حين يقول عن "جبران خليل جبران" وهو لا يقصده بالمدح طبعا:« هذا الشخص الذي خلخل اللغة العربية وحدّثها، وليس المصريون من حدّثوا اللغة، وإنّما أهل الشام (اللبنانيون والسوريون) وخاصة الجناح المسيحي منهم لارتباطهم بثقافة الغرب..» ( ) 
6-خيبة التلقي: 
يستهل الروائي حواره مع "جازية روابحي"( ) مجيبا عن السؤال التالي:
- جازية روابحي:
« أريد أن أبدا الحديث من آخر أعمالك الروائية، رواية "الرعشة" فالقارئ للعمل يشعر أن سيرورة الحبكة الرواية تتعقد مرات عديدة.. هل تعمد الروائي أمين الزاوي ذلك؟ أم يرجع ذلك إلى النفس الطويل المعتمد في سرد الأحداث من طرف الراوي آم أن السبب هو حدة ذكاء زهرة "بطلة الرواية" واستيعابها الكبير جعل الحبكة تتعقد أكثر؟
-الزاوي أمين:
أولا أنا ما يشدني في الرواية هو فلسفة السرد وأسلوب الحكي خاصة الحكي العربي أنا قارئ للتراث العربي واعتقد أنني منشغل إلى حد كبير بفنيات السرد العربي خاصة كتاب آلف ليلة وليلة وكتاب الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي وكتب الجاحظ.. كل هذا التراث العربي فن السرد إن العرب هم من الشعوب النادرة التي استطاعت أن تخلق حضارة الحكي وحكاية السرد وهذا يعود لسبب أساسي هو أنه كان لهم علاقة خاصة بالزمن هي التي تجعلهم يخلقون نوع من الحبكات للذهاب أكثر في الزمن وفي السفر..» 
قد يخطر ببال القارئ لأن هذه الفقرة مجرد تقديم يستهل به الروائي جوابه عن السؤال المطروح سلفا، غير أننا ونحن نتقدم في قراءة نص الحوار، نشعر بكثير من خيبة الأمل، فلا نجد للسرد فلسفة، ولا للحكي أسلوبا. ثم نعود إلى المرجعية التي يستقي منها الروائي تقنياته والتي يحددها ب " آلف ليلة وليلة، وكتاب الإمتاع والمؤانسة للتوحيدي، وكتب الجاحظ " فلا نجد فيها ما يطابق الأساليب التي ينتهجها الروائي في نصوصه. بل إننا نشعر أن مثل هذا التصريح ضرب من التضليل للقارئ، يوهمه أن مثل هذه الأشياء موجودة في التراث الذي ذكر، وفي غيره من الكتب الأخرى. وأن الروائي أصيلٌ فيما يأتي من أساليب لغوية، وتقنيات سردية، ومواضيع أدبية. وصحيح كذلك أن العرب بارعون في السرد، فأخبارهم تملأ صفحات الكتب القديمة، ونوادرهم ومسامراتهم تنم عن ذوق رفيع مترفع عن الابتذال اللغوي والأخلاقي. فإن جرى في مجالسهم بعض التهتك، فإنه نزر يسير لم يكن إلا لشواذهم.
وقد يكون من المستحسن تسجيل تعليق "لقارئ مجهول" على موقع "مدونات مكتوب" يقول فيه:« لم يبهرني أي كاتب جزائري، ابتداء من حوحو وانتهاء بمن يحاولون الاتكاء على التراث العربي، حتى يقال أن لهم إلمام بعمق التراث.. أنظر التراث عند "أمل دنقل" في "التصالح"، أنظر التراث الشعبي عند "توفيق الحكيم" في "يا طالع الشجرة" ثم من قال أن الكتابة هي سباق داحس والغبراء من أجل كسر التابو في صورة الجنس، ومن أوحى أن الجنس تابو.. أعتقد أن الكتابة الإبداعية التي تعتمد قيمة عالية من الوعي والإدراك والمهارة بأدوات الفن قد تخول للأديب طرق أي موضوع دون خدش شعور الآخر، أو الادعاء بأنه كسر.. الكتابة وعي وتكميل لتهوش العالم ونقصه وعطبيته.. أما وقد صارت بين أيدي الأدباء سباقا من أجل كتابة البورنوغرافيا. فهذا أمر متعب. ( يقول الزاوي أمين)( ):« أنا أعترف بأن رشيد بوجدرة كاتب كبير، أحترمه وأحب ما يكتب، فهو روائي من الوزن الثقيل.» أي وزن يمثله بوجدرة .. أنا لا أتحدث هنا من منطلق اليمين الذي يوحي للآخر أن الأمر ديني، ولكنني أتحدث من موقف موضوعي يعتمد الحس وقراءة الاحتراف منهاجا .. وعليه لا أرى في بوجردة ه ذا.. أي ثقل.. لا أتصور أبدا عنوانا بمثل هذه الركاكة "الحلزون العنيد".. وغيره كثير.. يا ناس أفسحوا الطريق لأهل الصنعة. هل أهمس أن أوراقكم قد ارتمت في قلب الخريف، وأن على الأدب أن يجدد شبابه بدماء ربيع أبنائه؟ (قلم رصاص)» ( ) 
فإذا انصرفنا قليلا عن المرجعية التي يرددها الروائي في كثير من تصريحاته التي تابعناها بدقة عبر الشبكة، يعود بنا مرة أخرى إلى المنطلق الأول الذي أسميناه بالتشضي، والذي يكشف أن الكتابة لا تخضع أبدا لهندسة محكمة البناء، وأن الرواية ليست مشروعا فكريا أو فلسفيا كما يدعي، إنما المصادفة هي التي تكتب الرواية. ففي حوار آخر يقول( ):
-عبير يونس:
« هل تفكر كثيراً بالرواية قبل أن تكتب، وهل تقودك كتاباتك إلى مناطق أخرى لم تتوقعها مسبقاً؟» 
-الزاوي أمين:
« أحيانا أبدأ الكتابة على أساس موضوع ما في رأسي وأكتب هذا الموضوع بشكل حكاية أو حدث أو وقائع، ولكن حينما أباشر الكتابة، تضيع مني الأولى وأجد نفسي أمام أشياء أخرى لم أكن أتوقع بأني سأصل إليها، الكتابة كالمدينة تقول أنك ستذهب في هذا الشارع إلا أن الشارع يأخذك إلى شارع ليمتد بك إلى زنقة صغيرة. أعتقد أن الكتابة لا يخطط لها مسبقاً، هناك هاجس يملؤنا ولكن الهاجس ليس طريقة تقنية، فالكتابة تنطلق في الهوس. 
وإذا خرجنا من هذا الهوس، أصبحت ميكانيكية ومخططاً لها. عندها تضيع شعرية الرواية ومفاجأة الرواية، فالرواية التي لا تفاجئك بشيء، ليست برواية. كما الكاتب الذي كان يتوقع بأنه سيكتب شيئاً إلا أنه يكتب شيئاً آخر، والقارئ ينتظر شيئاً، ويجد شيئاً آخر هذه شعرية الرواية، وهذه هي الأشياء التي تجعل من النص خالداً ويبتعد به عن التنطيح.» 
إننا حين نقرأ مثل هذه الاعترافات، ندرك أخيرا لماذا يقول التجريبيون أن الرواية تكتب ذاتها، وأن الشخصيات فيها تتمرد عن مبدعيها، وأنها تصنع لنفسها مصائر ما كانت لها من قبل، وأن السارد لا يعرف عن روايته شيئا.. كانت تلك هي ادعاءات الحداثة السردية التي طلع علينا بها "روب غرييه" و"نتالي ساروت" و"فليب سولير" وغيرهم.. ورددتها أقلام النقد العربي التي تكتفي عادة بالترديد الساذج لما تتلقاه من مائدة الآخر. فإذا كان "الهوس" هو الكاتب الفعلي للرواية، فإن التشضي، واللاأدبية من خصائصه الأولى. لأننا نعلم يقينا أن التعريف الصحيح للفن لن يستبعد الوعي والعقل من لغته، ولن يسلِّم نشاطا إنسانيا عرفته البشرية منذ فجر التاريخ إلى ضرب من الهوس، تلتقي فيه كافة النداءات التي لا يعرف المهووس كيفية ضبطها. 
فإذا كنا لا نعرف "الهَوَس" مصطلحا أدبيا، فإننا نعرفه –على الأقل- لفظا عربيا قديما، يقول عنه "ابن منظور":« هَوَس الناس هَوَسًا، وقعوا في اختلاط وفساد» ( ) ويقول عنه "محمد بن أبي بكر الرازي":« الهَوَس، طرف من الجنون» ( ) وليس غريبا بعد هذا أن يكون "الهوس" سبيلا من سبل قتل الرواية، حين يفرغها من وظيفتها التي تطمح –أبد الدهر- إليها، ويسلمها إلى عبث "التلطيخ" الذي يخرج أضغان النفس سافرة في كل حرف من حروفها، تتجاوز به حالة السوية و"الصحو"، لأن الروائي الذي يقوده "الهوس" لا يكتب إلا في حالة "سكر" ليته كان سكرا صوفيا يبعث على الشطحات، وإنما هو "سكر" عربدة. فهو يصرح مرة أخرى قائلا:« أنا عاشق للنبيذ وأكتب دائما برفقة قنينة نبيذ، ولعل طقوس النبيذ الجزائري تمنحني دفقاً خاصاً للذهاب إلى أعماقي للتخلص في لحظة الكتابة من كلّ مخفر مهما كان شكله ومحتواه سياسياً أو دينياً أو أخلاقيا. هذا الوسيط يجعلني أعي جسدي قطرة قطرة في مثل هذه الحالة أكون كالمتصوّف أو درويش لا أفرّق مابين التمر وبين الجمر.»
كان "سنتيانا" الفيلسوف الجمالي يقول دوما أن "الفن نشاط واع بهدفه" وكأن الحركة الفنية على اختلاف مدارسها، ودرجات تجريبيتها، لم تتجرأ يوما لأن تدخل علم الفن وهي لا تفرق بين التمرة والجمرة. صحيح قد يختلط عليها الأمر في غمرة النشوة، ولكنها تعي دوما أن الفن التزام بطريقة أو بأخرى، وأن الرسالة التي يبثها الفن ليست ملكا للفنان وحده، وإنما هي ميراث الآخرين الذين ينتظرون منه أن يعرفهم بالحياة ومعانيها. تلك هي المسؤولية التي يستشعرها كل فنان، حتى أولئك الذين لا يعترفون بالآخر، ويزعمون أنهم يكتبون لأنفسهم، ينتابهم شعور بالمسؤولية يعيد لهم صحوهم الذي يخلدون من ورائه أعمالهم به. غير أن الروائي الجزائري الذي يغالب الصحو بالنبيذ، ليس له من هم سوى الغوص في داخليته بعيدا كل مرة. وكأن مطلب الفن في هذا الغوص، وأن الحياة كلها طُمرت في هذه الذات المعذبة، وأن ما سيخرجه الوارد منها هو الفن كله. إنه الادعاء الذي يبيح لصاحبه ركوب الهوس، أو أن يركبه الهوس في كل سطر يكتبه، وفي كل مشهد يصوره. وتلك حقيقة لم تفت محاوريه، ف"جازية روابحي" تسأله قائلة:
-« من يقرأ "صهيل الجسد" أو "وحشة اليمامة" و"الرعشة"... يشعر أنه يقٍرأ كتابا مفتوحا على خصوصيات أمين الزاوي.. فهل تحتاج الثقافة الأدبية إلى ثقافة خصوصية؟ وهل يمكن أن يخلو النص الروائي من خصوصية الكاتب؟
-الزاوي أمين:
"حمزة توق " أحد الكتاب الكبار يقول: العالم يبدأ من عتبة بيتي. وأنا أعتقد أن الكتابة تبدأ من الذات الكتابة التي ليست لها علاقة بالذات، وليست لها بهجة ومتعة الذات هي كتابة مصطنعة وخارجية أنا أحاول أن أكتب ذاتي بالجمع. يعني كيف أرى الأصدقاء من خلالي. كيف أرى العالم. لأن في نهاية الأمر التاريخ هو الأفراد. لا يوجد تاريخ من العدم فيصنعه الأفراد. والأدب أيضا تصنعه الذات بالأساس. 
الكتاب الكبار في العالم هم دائما كتبوا ذواتهم. فحينما نقرأ فلوبار "السيدة بوفاري".. أجد بان هذه الرواية لو لم تكن مرتبطة بحياة فلوبار ذاتيا ما اعتقد أنها كانت تكون ناجحة.. الذات الواعية هي الذات التي تستطيع أن تكتب بصدق العالم. فعندما نحرج عن ذواتنا نكتب سوسيولوجية، أو نكتب تاريخ، أونكتب شيء له طابع عقلاني. أما الأدب فعقلانيته أو تاريخيته في الذاتية، والأدب بشكل عام هي كتابة تاريخ العاطفة. فكل الآداب هي كتابة تاريخ العاطفة، والعاطفة هي ترمومتر التاريخ وترمومتر السوسيولوجية...» ( ) 
ربما يخدع القارئ سريعا حين يسترسل وراء ضجيج الكلمات التي يلقي بها الروائي بين يدي محاورته التي تكتفي بطرح السؤال وتقبل الرد من غير نظر أو مراجعة. هناك شاهد في قوله يعزوه إلى أحد كبار الكتاب، فحواه أن العالم يبدأ من عتبة البيت. إنها حقيقة لا يمكن لعاقل نكرانها. بل العالم يبدأ من البيت، بل العالم يبدأ من الذات.. ومن أي نقطة تكون الانطلاقة فإن السهم سيتجه دوما إلى الخارج ليجسد علاقة الذات بالعالم. غير أن "التلبيس" الذي يقع فيه القارئ يبدأ من "أنا أحاول أن أكتب ذاتي بالجمع" فيوقفنا على لفظ لا وجود له في الثقافة العربية بالمعنى الغربي "au pluriel" فالذات في هذه الوضعية تستشعر امتداداتها الاجتماعية والحضارية، وما يكون منها هو شرط الانصياع إلى واقعها الاجتماعي والحضاري. وكل الكتاب يعانون هذا الانصياع، ويجسدونه في مؤلفاتهم. بل هو مادة النضال التي من أجلها يكتبون. ولا مشاحة في أن نعتقد معه أن" التاريخ هو الأفراد " وأن" والأدب أيضا تصنعه الذات بالأساس" غير أن التاريخ الفعلي هو تاريخ ذات تنطلق إلى الخارج لتغير وتبدل، فالتاريخ تغيير وتبديل مستمر لمحتويات الأيام والعصور. والأدب تصنعه الذات التي تتجه إلى الحياة لإغنائها بالجديد، لا أن يكون التاريخ هَوَسا وأن يكون الأدب محكوما "بفتنة التخريب". بل الأدب والتاريخ معا–كما يقول الروائي نفسه- من صنع الذات الواعية. تلك "الذات التي تستطيع أن تكتب بصدق العالم." غير أن للروائي رأيا آخر في معنى "الوعي" و"الصدق" يختلفان عما هو معروف عند العامة من الناس. فهو يقول عنهما: « لكن ما أنا على وعي به، أنني على صدق وعلى باب مفتوح دون حرج ودون رقيب مع نفسي، ومع المحيط الذي أعيش فيه. في هذه اللحظات تجيء السياسة، ويجيء الاجتماع، ويجيء الجسد، وتجيء اللغة بالعربية أو الفرنسية، كما تشاء ودون قيد، فأنسكب في اللغة، أو تنسكب فيّ، وأبدأ التشكيل كمن يرسم لوحة يضيع فيها البدء بالنهاية. إذاً الاندماج في الكتابة أو اندماج الكتابة فيّ هو حالة لا أستطيع أن أصفها.»
فهو وعي وصدق يقعان خارج دائرة الوصف.ثم يضيف: « وأصدقك القول أنني مرّات في ليلة كاملة لا أكتب إلا جملة واحدة وأشرب قنينتي نبيذ أو أكثر، وأسمع كلّ أشكال الموسيقى.. مرّات أكتب وأنا بحاجة إلى الاستماع إلى أغنية عتيقة ولا يكون معي الشريط، ورغم ذلك أسمعها بدون صوت في عالم الاستحضار، وهذا حدث معي حين كتبت في بلدان أوربية وأمريكية، واستمعت إلى أمّ كلثوم وفيروز والريميتي (مغنية شعبية جزائرية). هذا الاستحضار هو قوّتنا. واسمحي لي أن أقول لك هي نبوءتنا نبوءة الكاتب التي تجعله يخترق العادي والزمن بمفهومه الفيزيائي والمسافات بمفهومها الجغرافي الغيابي، ليخلق عالماً كونياً من رموز ووهم، كي يحاصر هذا العالم ويحاصر نفسه، وكي يقرأ العالم و نفسه بكلّ فداحة الغموض.».

نشر في الموقع بتاريخ : الثلاثاء 12 صفر 1429هـ الموافق لـ : 2008-02-19

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،