التخطي إلى المحتوى الرئيسي

إضاءات حول الهيرمينوطيقا أو الهيرمينوطيقا وعبور فجوة الزمان.. كتبه: هشام عزمي..


أقتطف هذه الفقرات من بحث موسع لي بصدد إنجازه علها تشفي غليل كل من يريد التعرف على موضوع الهيرمينوطيقا، ومعذرة إن كانت هذه الفقرات مرتجلة أو مضطربة. أرجو أن تحصل الاستفادة.
إضاءات حول الهيرمينوطيقا
أو الهيرمينوطيقا وعبور فجوة الزمان
يعتبر الحداثيون الهيرمينوطيقا الجواب الفلسفي عن جدلية العلاقة بين النص والواقع، لأنها أسلوب للفهم يعبر بالقارئ الفجوة التاريخية بين واقعه وواقع النص، فكيف يتحقق هذا العبور ؟
1- تعريف الهيرمينوطيقا
 
يذهب معظم الدارسين إلى كون الهيرمينوطيقا أخذت من "هرمس" الإله والرسول الذي كان يعبر المسافة بين تفكير الآلهة وتفكير البشر، كما هو موجود في الأساطير اليونانية، ويزود البشر بما يعينهم على الفهم وتبليغه[1]. وتعني كلمة hermé اليونانية القول والتعبير والتأويل والتفسير[2]، وهي كلها دلالات متقاربة. وقد ظهرت كلمة "هيرمينوطيقا" لأول مرة سنة 1654 في عنوان كتاب لدانهاور[3].وفي علم اللاهوت تدل الهيرمينوطيقا على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس، فالتأويل هو "العلم الديني بالأصالة والذي يكوّن لب فلسفة الدين... ويقوم عادة بمهمتين متمايزتين تماما:1- البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس عن طريق النقد التاريخي،2- وفهم معنى النص عن طريق المبادئ اللغوية"[4].من هنا نستنتج أن الهيرمينوطيقا، أو فن التاويل، ليست بالشيء الجديد، وإنما يمكن اعتبار نشأتها بنشأة التفكير الإنساني، فهذا جادمير يخبرنا أن أرسطو هو أول من وضع معالم التجربة التأويلية داخل مذهب القانون من خلال مناقشته لمشكل القانون الطبيعي ومفهوم الـepikeia في "الأخلاق إلى نقيوماخوس"[5]. لكن حصل تطور كبير لهذا المصطلح بتطور مراحل التفكير البشري، ومع كل مرحلة تأخذ الهيرمينوطيقا تعريفا يتناسب وخصائص ذلك التفكير. فما هي أهم تعريفات الهيرمينوطيقا ؟ وما هي السمات المميزة لكل تعريف ؟في القديم، كانت الهيرمينوطيقا منهج تفسير للكتاب المقدس وأصوله وأحكامه كما نجد عند القديس أوغسطين صاحب "تعقل كي تؤمن" و"تؤمن لكي تعقل"[6]. لكن مع نشأة المذهب العقلي نشأ المنهج التاريخي في اللاهوت، وأكدت المدرسة اللغوية والتاريخية في التفسير أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب المقدس هي بعينها المناهج السارية على غيره من الكتب، وأن المعنى اللفظي في الكتاب المقدس أنه يتحدد بالطريقة نفسها التي يتحدد بها في بقية الكتب؛ فقد كانت مادة الهيرمينوطيقا جزئية وسطحية استعملت لغايات تعليمية تمثلت في تفسيرات النصوص التي تعمل على تسهيل فهم الكتابات المقدسة. يقول جادمير: "تدل الهيرمينوطيقا في علم اللاهوت (التيولوجيا) على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس (الأسفار المقدسة) بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم أنشأه وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق"[7].وعلى هذا فإن الهيرمينوطيقا حينما تطلق فإنها تعني المنهج الفقهي اللغوي والذي ساد في تفسير النصوص الدينية. وإذا أردنا التعرف على ملامح هذا المنهج فإننا نجدها تتمثل في المستويات الأربعة للمعنى التي بلورها القديس توما الأكويني وهي:1- المعنى الحرفي، أو التاريخي، ويُقصد هنا القصة المحكية.2- المعنى الرمزي الاستعاري، فالعهد القديم يشير إلى العهد الجديد.3- المعنى الباطن، أو الصوفي، قيمة الرسالة عند خاتمة الإنسان.4- المعنى الخلقي، أي الوعظ.لكن مع عصر التنوير، ومع كتابات فرنسيس بيكونFrancis Bacon‏ (1561 - 1626) وتوماس هوبزThomas Hobbes(1588 -1679) في إنجلترا، ومع ديكارت والموسوعيين في فرنسا، وكانط في ألمانيا، بدأ يتبلور مفهوم جديد للهيرمينوطيقا على يد كلادينيوس Chladénius (1710- 1759) الذي اهتم بالبحث عن وضع قواعد للتأويل، وكانت النتيجة أنه من الممكن الوصول إلى تفسير صحيح وكامل إذا اتبعنا قواعد سديدة. من هنا اعتبرت الهيرمينوطيقا فنا تقنيا ضروريا للدراسات التي تعتمد على تأويل النصوص.ويمكن أن تتبع المسار الفلسفي للهيرمينوطيقا من خلال المحطات التالية:
أولا: الهيرمينوطيقا التقليدية
 
إن تعريف الهيرمينوطيقا باعتبارها "فن الفهم"[8] يعود إلى الألماني فريدريك شلايرماخر الذي حرر فن التأويل من كل عناصره العقائدية والعرضية التي لا تحصل عنده إلا على نمط ملحق في تطبيقاتها الإنجيلية على وجه الخصوص. وكان السؤال الذي انطلق منه شلايرماخر هو: "كيف يمكن فهم أي عبارة أو قول ؟"يرى شلايرماخر أن عملية الفهم تتم عبر محددين هما:- المحدد اللغوي، أو النحوي، أو القواعدي، بتناول النص انطلاقا من لغته الخاصة (لغة إقليمية، تركيب نحوي، شكل أدبي..) وتحديد دلالة الكلمات انطلاقا من الجمل التي تركبها ودلالة هذه الجمل على ضوء النص بكليته.- المحدد النفسي، بالاعتماد على حياة المؤلف الفكرية والعامة والدوافع والحوافز الذي دفعته للتعبير والكتابة والبحث عما يمثله النص في حياة المؤلف وفي السياق التاريخي الذي ينتمي إليه، وهو يرمي بذلك إلى إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف.
ثانيا: الفهم بمقتضى الحياة
 
يعتبر ربط الهيرمينوطيقا بالعلوم الإنسانية أساسا مهمة فلهلم دلتاي DiltheyWilhelmالذي رأى في الهيرمينوطيقا أساس كل العلوم الإنسانية والاجتماعية، ونقطة البدء في هذا الأمر هي الخبرة العيانية التي ينبغي أن يتم فهمها في مقولات فكرية تاريخية لأن الخبرة نفسها تاريخية في عمقها. وهذه التاريخية هي التي حددت الأساس النظري للهيرمينوطيقا الحديثة.عرف دلتاي الهيرمينوطيقا تعريفات، استقاها بول ريكور من مقاله الكبير تكوين التأويل، كلها تدور حول معاني الحياة والتجربة الإنسانية، يقول: "نطلق اسم التفسير أو التأويل على ذلك الفن من فهم التجليات الحيوية الثابتة بشكل دائم".ويقول:"يدور الفهم حول تأويل الشهادات الإنسانية التي حافظت الكتابة عليها... إننا نعطي اسم التفسير والتأويل لفن فهم التجليات المكتوبة للحياة"[9].يميز دلتاي بين نوعين من التجربة:1- التجربة المعيشة التي استعملها في وصف علوم الفكر أو العلوم الإنسانية.2- التجربة العلمية التي تخص علوم الطبيعة، وهذه التجربة العلمية تتمتع بطابع العلمية الذي يجعل من التجربة المعاشة والتجربة الممارسة وجهين لنفس الحقيقة وبطابع الجدلية والتاريخية. فالتجربة في طابعها العلمي والإبستمولوجي تعني تكرار المعطيات والنتائج للوصول إلى تنظير عام ومتفق عليه. في طابعها التاريخي والجدلي هي تجربة لا تتكرر، تنفي كل ما سبقها بحيث لا يمكن معاينة ومعايشة التجارب السابقة بنفس المقاصد والدوافع وتختفي هي الأخرى بخصوصيتها وفرديته[10].إن التجربة الإنسانية عنصر مشترك بين جميع البشر، وما الفهم إلا إسقاط التجربة الشخصية على تجربة المؤلف عبر عمله، وعملية الفهم تتم عبر التفاعل الحيوي بين أفق النص بما هو محصل التجربة الحياتية يعرضها المؤلف، وبين أفق القارئ الذي تمثله تجربته الخاصة المراكمة عبر حياته التي يستخدمها لفهم النص. وبانصهار هذين الأفقين ينتج الفهم. وعليه يمكن القول إن الفهم حسب دلتاي هو انصهار خبرتي أو أفقي النص والقارئ، وانصهار التجربتين من شأنه أن يعمل على تجديد معنى النص وتطويره. 
ثالثا: هيرمينوطيقا الوقائعية
 
جاء تأسيس المنهج الفينومينولوجي، أو الظاهراتية، ردا على المذهب السيكولوجي، وذلك حتى تكون الفلسفة علما دقيقا. ويعتبر إدموند هوسرل تلميذ برنتانو[11] المؤسس الحقيقي للفينومينولوجيا، الذي انطلق من نقد الرياضيات من أجل الوصول إلى الحقائق الأساسية. وهكذا جعل العلوم نوعين[12]:- علوم الوقائع، وهي تعتمد على التجربة الحسية.- وعلوم الماهية، أو علوم الصورة الجوهرية وهدفها الوصول إلى إدراك الماهيات.إن هدف الظاهراتية هو القبض على حقيقة النص كما هي، ومن هنا يكون التأويل شيئا نكونه ويحدث لنا وليس شيئا نفعله. وهذا ما سيتبلور أكثر ويتطور مع كل من هيدجر وجادامير.يعتبر هيدجر الفهم أساسا لكل تفسير، وهو متأصل ومصاحب لوجود المرء وقائم في كل فعل من أفعال التأويل. لقد ربط بين الهيرمينوطيقا والأنطولوجيا، وبين الهيرمينوطيقا والفينومينولوجيا. وبهذا يكون قد أسس الهيرمينوطيقا على واقعية العالم وتاريخية الفهم، لا على الذاتية. إن الهيرمينوطيقا عند هيدجر هي التعامل مع اللحظة التي ينبلج فيها المعنى.
رابعا: الهيرمينوطيقا وتاريخية الفهم
 
أما جادامير فنجد عنده التأويل امتدادا وتطويرا لما عرضه هيدجر، فيتخذ من تحليله مرتكزا وأساسا ونقطة انطلاق تحليله للوعي التاريخي، فيرى من المستحيل وجود فهم بلا فروض أو أحكام مسبقة. وهذا يعني التخلي عن تفسير عصر التنوير للعقل وأن يسترد التراث والسلطة مكانتهما اللتين كانا يحتلانها قبل عصر التنوير، لأن عصر التنوير لا يقبل بأي سلطة سوى سلطة العقل؛ "فالتغلب على جميع الأحكام المسبقة، وهو المطلب العام لعصر التنوير، سوف يتبين أنه هو نفسه حكم مسبق، والتخلص من هذا المطلب يمهد الطريق أمام فهم مناسب للتناهي الذي لا يهيمن على إنسانيتنا فقط، بل يهيمن على وعينا التاريخي أيضا "[13].إن جادمير يجعل الأحكام المسبقة شروطا للفهم، وينادي باستعادة سلطة التراث ، فالتراث عنده ليس شيئا يقف عائقا أمامنا، وإنما هو شيء نوجد فيه. بل إن هذا التراث له أفق يجادل أفق المرء. إن القارئ الذي يجد نفسه أمام نص، أو تراث، له أفقه وأسئلته ومطالبه وإشكالاته، يسأل النص، لا في حروفه وكلماته المرسومة، وإنما في أفقه وأهدافه ومقاصده. من هنا يرى جادمير أن أساس الهيرمينوطيقا هو التوتر القائم بين الحاضر والماضي. وعليه فإن الفهم عنده لا بد أن يجيب عما يقوله النص للحالة التي نعيشها، ويرفض ما ذهب إليه شلايرماخر من كون فهم النص يتم عبر الانسجام الروحي والنفسي مع المؤلف، أو إعادة معايشة العملية الذهنية للمؤلف. وهذا عين ما ترنو إليه التاريخية في المنظور الحداثي.
خامسا: هيرمينوطيقا الارتياب
 
والهيرمينوطيقا في نظر بول ريكور هي "نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النصوص"[14] بهدف تجاوز المسافة بين عصر النص وعصر القارئ، وتتلخص في نظامين:- نزع الطابع الأسطوري، ويمثل هذا النظام رودولف بولتمان Rodolf Bultman الذي كان يعتقد أن مخاطبي العهد الجديد الأوائل كانت لهم رؤية كونية خاصة، وهي رؤية أسطورية. والمراد بالأسطورة هنا "التفسير ما قبل العلمي للنظام الكوني والأخروي، والذي صار غير معقول للإنسان المعاصر "[15]. وهذا يقتضي تجاوز الغيبيات والمعجزات.- الزيف، ويمثله فرويد بنظرية المثل والأوهام، ونيتشه بجنيالوجيا الأخلاق، وماركس بنظرية الإيديولوجيات. فقد أراد هؤلاء الثلاثة من عظماء "الهدم" فضح الزيف من خلال شكهم في العقيدة والثقافة بغية العثور على المعنى الحقيقي للعقيدة. يقول ريكور عن أبطال الشك الثلاثة وثاقبي الأقنعة: "فما يريده ماركس، هو تحرير التطبيق العملي عن طريق معرفة الضرورة. ولكن هذا التحرير لا ينفصل عن "امتلاك الوعي" الذي يرد بانتصار على خداع الوعي الزائف. وما يريده نيتشه هو زيادة قدرة الإنسان، وإنشاء قوته. ولكن ما يريده بقوله إرادة القوة يجب أن يغطيه تأمل بأرقام "الإنسان الأعلى"، و"العود الأبدي"، و"اليونيسوس". وهذه أمور من غيرها لن تكون القوة سوى العنف من جانب الانحطاط. وأما ما يريده فرويد، فهو أن المحلَّل، إذ يتبنى المعنى الذي كان غريبا عنه، فإنه يوسع حقل وعيه ويحيا بصورة أفضل، وإنه ليكون أخيرا أكثر حرية، وإذا أمكن أكثر سعادة"[16].إن هيرمينوطيقا الارتياب تحاول الإبقاء على الطابعين العلمي والفني للتأويل من غير إفراد أحدهما بمنزلة دون الآخر. والتفاعل مع النص في نظر ريكور ينشد إيمانا استعاريا يتجاوز الطابع الأسطوري ويتجاوز تحطيم الأصنام.
2- بعد هذا العرض الموجز، هل يمكن تطبيق الهيرمينوطيقا على القرآن الكريم ؟
 
أولا: لقد جعل شلايرماخر الهيرمينوطيقا في تأويل لغوي قواعدي جنبا إلى جنب مع تأويل نفسي. وإذا كان أمر الجانب الأول محسوما لا يمكن الاختلاف حوله، فإن أمر الجانب الثاني، وهو التأويل النفسي، بما يرمي إليه من إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف، لا يمكن تقبله من قبل من يؤمن بربانية نص مقدس سماوي، والمقصود هنا القرآن الكريم. نعم، قد يقبل هنا السياق العام للنص ومقاصده وأسباب نزوله، فإن ذلك من شأنه أن يضيء جوانب الفهم فيه.ثانيا: أما بخصوص تصوره حول ضرورة الفهم في ضوء معناه العام وسياقه الكلي، أو فهم الجزئي في ضوء الكلي فهو أمر مطلوب ومحمود، بل مهم جدا بخصوص فهم نص سماوي، قال به الأصوليون في الفكر الإسلامي منهم الإمام الشاطبي  الذي يقول: "وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليّه فقد أخطأ، وكما أن من أخذها لجزئي معرضا عن كليّه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه"[17].ثالثا: أما تصور دلتاي حول الفهم فلا يمكن توظيفه في فهم القرآن، لأن القرآن لا يعرض تجربة، بل هو كتاب هداية وأحكام وقانون للبشر، باستثناء ما يعرض من قصص الأنبياء والأقوام السابقين. من هنا لا مجال للحديث عن تجربة النص. رابعا: رأينا أن الأحكام المسبقة عند جادمير شرط للفهم، وهذا يطرح سؤالا مهما وهو: من أين يكتسب القارئ أحكامه المسبقة ؟ من التراث ؟ وكيف يكون الأمر عندما يكون القارئ بإزاء التراث نفسه ؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالقرآن، من أين يستقي القارئ أحكامه المسبقة ؟ لا يعثر الباحث عن إجابة.إن الاجتهاد في معرفة مصدر الأحكام المسبقة أمر ضروري لقارئ يريد فهم النص القرآني، وربما تبدو هنا سيرة النبي محمد ، وسنته، وسيرة جميع الأنبياء السابقين ، والأقوام السابقين، وكذلك التاريخ وواقع الإنسان القارئ، أهم ما يشكل أحكامه المسبقة لارتباطها بالنص المدروس.خامسا: ويذهب جادمير إلى أن كل تفسير للنص فهو تفسير صحيح، أو كل قراءة له تعتبر صحيحة، وهذا أمر على جانب كبير من الصواب، وفي سير النبي  كثير من الشواهد على ذلك، كما في قوله: "لا يصلين حدكم العصر إلا في بني قريضة". من الصحابة من فهم الحديث على حرفيته فلم يصل العصر إلا في بني قريضة رغم فوات الوقت، ومنهم من فهم الحديث على أنه حث على السرعة فصلى العصر حيثما أدركته، وأقر الرسول عليه الصلاة والسلام الفريقين.لكن القول بإطلاق تعدد المعنى وتطوره وعدم ثباته، وإن كان يحقق خلود النص عند تباعد الزمان واختلاف المكان، فإنه يهدد الحكم الذي جاء به النص، وقد يصل الأمر عند تقادم الزمان إلى نقيض الحكم والمقصد. وفي واقع الفكر الإسلامي كثير من الشواهد على ذلك.وهنا يمكن للسائل أن يسأل: ألا يمكن التواضع على ضوابط تحقق خلود النص، بتعدد معناه، دون انتهاك حرمته واندثار حكمه ومقصده ؟ هذا السؤال يقود مباشرة إلى جدلية العلاقة بين النص والمقصد والواقع التي تطرح تحديا أمام القارئ الذي يريد فهم النص من غير إضرار بأحد هذه العناصر الثلاثة. وهذا يجر إلى نقطة محورية في هيرمينوطيقا جادمير وهي التحام أفق القارئ بأفق النص. وهذه النقطة يمكن التعبير عنها بحاجات القارئ ومقاصد النص. وقد تناول أهل المقاصد الشرعية هذه النقطة عبر محورين كبيرين هما: مقاصد المكلفين ومقاصد الشرع[18]. وخلاصة ذلك أن مقاصد المكلف لا تعتبر إذا ما خالفت مقاصد الشرع. والمقاصد إنما تعتبر إذا بنيت على وسائل صحيحة.سادسا: ما يمكن استنتاجه من هيرمينوطيقا الارتياب، التي تسعى إلى تحطيم الأسطورة والأصنام وتجاوز كل فهم ساذج بغية الوصول إلى المعنى الحقيقي للعقيدة، هو الاضطراب الطويل الذي عرفته العقيدة المسيحية بسبب الانحراف الذي لحقها، خاصة عقيدة التثليث التي لم يستسغها كثير من مفكري الغرب قديما وحديثا، وكذلك عقيدة الصليب التي أدرجها بول ريكور ضمن الأسطورة ويقول عنها: "فإن الأسطورة تعد فضيحة إضافية تضاف إلى الفضيحة الحقيقية، إلى فضيحة "جنون الصليب""[19]. وما ظهور الهيرمينوطيقا إلا خير معبر عن هذا الاضطراب. فقد كان هم مؤولي الكتاب المقدس هو انسجامه مع العقل وواقع البشر. فلا يكاد الفكر الديني الغربي يستقر على حال أو يؤمن بعقيدة، بل جعل كل جهده لنقد هذه العقيدة وكتابها المقدس، كما هو الحال لدى اسبينوزا. إن المؤمن بالقرآن الكريم المعتقد بربانيته وقدسيته وصدقه لا يرى أثناء قراءته له أصناما ولا أساطير ولا خرافات ولا زيفا. بل إن القرآن نفسه يحكي هذا عن معاصري نزوله الذين لم يؤمنوا به وقالوا: "أساطير". فالإيمان بالقرآن ينافي وصفه بالأسطورة. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف ببعض التفسيرات الأسطورية التي أعطاها بعض المفسرين للنص القرآني بسبب قصور عقلي وعلمي وواقعي؛ ذلك أن الظروف آنذاك لم تكن تسعف إلا بذلك. وهنا تبدو مهمة المعاصرين أساسا في إعطاء معنى جديد يساير ما وصل إليه العقل الإنساني وتطورات حياته من غير مساس بالجانب الغيبي للنص القرآني المطلوب الإيمان به. وخلاصة القول: إن وظيفة الهيرمينوطيقا تكمن في عبور الفجوة التاريخية ما لم تتجاوز الضوابط التي سبقت الإشارة إليها أعلاه. وعليه تكون وظيفة قارئ القرآن اليوم:- البحث في معاني السابقين وتفسيراتهم وأفهامهم ومدى صلاحيتها اليوم.- البحث عن معان جديدة، تتجاوز أفهام السابقين، تحقق للنص خلوده من غير مساس بقدسيته وأحكامه ومقاصده.وهذا يقتضي:- التزود بفنون اللغة.- إدراك مقاصد القرآن وأسباب نزوله.- فقه الواقع الذي ينتمي إليه القارئ، ويدخل هنا جميع مكونات هذا الواقع وبكل علومه ومخترعاته.والله أعلم.

[1]
 - ديفيد كوزنز هوى، الحلقة النقدية.. الأدب والتاريخ والهيرمينوطيقا الفلسفية، ترجمة وتقديم خالدة حامد، (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2005)، ص 13
[2]
 - Kelkel, Arion Lothar, ‘La légende de l’Etre, langage et poésie chez Martin Heidegger’ (Librairie philosophique, Jean Vrin, Paris, 1980), p 186.
[3]
 - هانس جورج جادمير، فلسفة التأويل، ترجمة محمد شوقي الزين، (منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم بيروت، والمركز الثقافي العربي البيضاء ط2، 2006)، ص 63.
[4]
 - حسن حنفي، تأويل الظاهريات الحالة الراهنة للمنهج الظاهراتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية، (مكتبة النافذة، ط1، 2006)، ص 384
[5]
 - جادمير، فلسفة التأويل ص 84.
[6]
 - ينظر حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي في الأسس والتطبيقات، (دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان ط1، 2004 )، ص 37.
[7]
 - جادمير، فلسفة التأويل ص 64.
[8]
 - Frieddrich. Schleiermacher, Le Statut de la Théologie, traduction Bernard Kaempf, (Labor et Fides, Genève, Les éditions de Cerf, Paris, 1994). p59.
[9]
 - بول ريكور، صراع التأويلات.. دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، (دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2005)، ص 97.
[10]
 - ينظر محمد شوقي الز ين، تأويلات وتفكيكات.. فصول في الفكر الغربي المعاصر، (المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط1، 2002)، ص 34-35.
[11]
 - للتعرف على مدرسة برنتانو ينظر على سبيل المثال عز العرب لحكيم بناني، الظاهراتية وفلسفة اللغة.. تطور مبحث الدلالة في الفلسفة النمساوية، (أفريقيا الشرق، ط1، 2003)، ص 7-10.
[12]
 - إ.م. بونسكي، الفلسفة المعاصرة في أوربا، ترجمة عزت قرني، (سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت عدد 165، 1992)، ص 231.
[13]
 - جادمير، الحقيقة والمنهج ص 381.
[14]
 - بول ريكور، من النص إلى الفعل.. أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، (دار الأمان، الرباط، ط1، 2004)، ص53.
[15]
 - ريكور، صراع التأويلات ص 448.
[16]
 - نفسه ص 193-194.
[17]
 - الشاطبي، الموافقات، 3/8.
[18]
 - ينظر هنا مثلا الشاطبي، الموافقات 2/5 حيث يقول: "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدها يرجع إلى قصد الشارع، والآخر إلى قصد المكلف".
[19]
 - ريكور، صراع التأويلات ص 448.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التعبير والتجريد في الشعر الحديث.. بقلم : حبيب مونسي

  كيف كان الشعر العربي..وكيف أصبح؟ ما هي مشكلته اليوم؟ التعبير والتواصل.. التجريد والاغتراب؟ كيف ينظر النقد إلى هذه المعضلة؟ .. ما المخرج إذا؟

التمثيل في القرآن الكريم.

تتناول هذه المداخلة التمثيل في القرآن الكريم باعتباره أسلوبا مشهديا لتقريب المعنى وتجسيده أمام القارئ كما تبين دور التمثيل في فتح الدلالة على آفاق تأويلية متعددة.

نظرية التلقي.. رؤية فلسفية أم منهج؟؟ كيف فهمناها؟؟ بقلم : حبيب مونسي

كثيرا ما صرنا نلهج اليوم بشيء يسمى نظرية التلقي .. ويسعى كثيرا من طلبة الجامعات إلى التقاط هذا العنوان ليكون شارة في دراساتهم.. لكن هل فعلا نعي خطورة ما نقدم عليه؟؟ هل فعلا فهمنا المراد منها؟؟ أم أننا دوما نجري وراء مسميات فارغة نزين بها لوحاتنا البحثية.؟؟

أحاديث في النقد والأدب والفكر..محمولات الألفاظ الثقافية....الحلقة 04.

تتناول هذه الحلقة الحديث عن المحمولات الثقافية التي يكتنزها اللفظ والتي تتراكم فيه عبر الازمنة والاستعمالات فتكون بمثابة المرجع الثقافي والمعرفي الذي يحيل عليه اللفظ. وحينما يستعمل الأديب الألفاظ إنما يريد استثمار تلك المحمولات لترفد المقاصد التي يرومها والمرامي التي يرد للمعنى أن ينفتح عليها.. كما أنها تدفع القارئ إلى تحرك ثرائها لإنتاج المعنى وتحيين النص قراءة وتلقيا..

نقرأ لنكتب أم نكتب لنقرأ؟هل بيننا وبين الغرب في هذا من اختلاف؟ بقلم : حبيب مونسي

هل نقرأ لنكتب؟ أم نكتب لنقرأ؟ ما الفرق بين الوضعيتين؟ هل تقديم القراءة على الكتابة يغير من وضعها؟ هل تأخير الكتابة على القراءة يكشف جديدا في العملية الإبداعية؟ لماذا لا يرى الغرب من وجود للعالم إلا داخل الكتابة؟ ولماذا نراه خارجها؟ هل هذا الفهم يفرض علينا أن نعيد النظر في نظرياتنا النقدية الحداثية؟

حوار حول رواية: مقامات الذاكرة المنسية. مع حبيب مونسي. بقلم : تقار فوزية

مقامات الذاكرة المنسية، الرواية الماقبل الأخير للروائي الناقد الأستاذ حبيب مونسي والتي حظيت بعدد من الدراسات الأكاديمية- رسائل ماجستير ودكتوراه .  إنها الرواية التي حاولت أن لا تشتغل بأساليب السرد الغربية التي شاعت في الكتابات الجديدة،