يقوم التفكير النقدي لدى "بارت" على نفي
"الصحة" عن النقد القديم، وتسفيه فكره، واعتقاداته الأدبية والفنية، ومن
ثم يفسح لنفسه، دائما وراء هذا "الكنس" العمدي، فسحة ليطرح بضاعته التي
يعتقد أنها ستشكل جديدا في إطار ما تضطرب به الساحة الأدبية من أفكار ورؤى. فهو يرى
أن النقد الكلاسيكي يشكل: (اعتقادا ساذجا بأن الذات امتلاء، وأن العلاقة بين الذات
واللغة هي علاقة بين مضمون وتعبير.) وبهذا الجملة المركبة، يصف "بارت"
اعتقاد النقد القديم في "الذات" القارئة بأنه اعتقاد ساذج، وكأن هذه
الكلمة وحدها، كفيلة بأن تهدم كل ما أنجزه النقد الكلاسيكي في هذا الباب، وأن فهمه
للعلاقة بين الذات واللغة، على أنها علاقة بين مضمون وتعبير، غير سليم. وأن ذلك
الوعي منه غير صحيح. بينما يكون الأمر خلاف ذلك تماما لأن: (الالتفات إلى الخطاب
الرمزي يقود، كما يبدو، إلى اعتقاد مخالف: فالذات ليست امتلاء فرديا، يحق أو لا
يحق لنا أن نفرغها في اللغة... ولكن على العكس من ذلك تشكل فراغا من حوله ينسج
الكاتب كلاما، التحويلُ فيه غير محدود. ) وهي ملاحظة يؤسسها "بارت" على
عبارة "كما يبدو" وكأنها كافية لتثبيت زعمه. والخطاب الرمزي بعدها، كما
هو مفهوم في طرح "بارت" هو اللغة بإشاراتها ورموزها. وخلاصة ذلك، أننا
أمام النص، لا نقف على "تعبير يقول"، وإنما نقف على سلسلة من الرمز
"تغري بالقول" وتدفع إليه. فبدل أن تأتي الذات
"بامتلائها" لتقرأ اللغة
بمرجعيتها، وصولا إلى مقولها الخاص. تقوم الذات الفارغة بالدوران حول الرموز لتمتلأ
فتقول شيئا لم يكن موجودا عندها من قبل. لنتذكر تهليل "بارت" ل
"أغاني مالدرور" ل "لوتريامون" واهتمامه بالهذيان.. حتى ندرك
أن النص، هو الآخر، "فراغ" ، وأن اللغة محض رموز تنتظر من يملأ وحشتها
أنسا، حتى وإن كان الأنس هذيانا.. لأن: (اللغة هي الذات) فكيف يستقيم ذلك؟ يقول
"بارت": (إن هذا هو ما يحدد الأدب بدقة: فإذا المقصود فقط هو التعبير
عبر صور "كما أننا نعصر ليمونة" عن ذوات ومواضيع استوت في امتلائها.)
ولك أن تتخيل الصورة التي يقدمها "بارت" من خلال الليمونة لتدرك أن ما
سيوف يُعتصر منها هي المواضيع التي كانت تصنع امتلاءها.. فإذا سوينا بين الذات
واللغة كما أسلف "بارت"، فمن هو العاصر ومن هو المعصور؟ هل الذات تعصر
اللغة؟ أم اللغة هي التي تعصر الذات؟ وإذا سلمنا أنها "فراغ"، وأنها غير
"ممتلئة"، فهي إذا من تعتصر اللغة لتخرج منها ما تريده لذاتها أولا
وأخيرا، لا ما تريده اللغة لخطابها أصالة. لذلك يتساءل "بارت" قائلا
بعدها مباشرة: (ما فائدة الأدب؟ إن أي خطاب سيء النية يكفي في هذا.) لأن الرمز
عنده: ( يهتم بضرورة الإشارة دون كلل إلى "لا شيء" "الأنا"
الذي أكونه.) وبلغة أخرى يمكننا أن نقول أن الرمز في اللغة، مادةٌ فارغة تنتظر هذا
"الأنا" أن يأتيها..: ( فإذا
أضاف الناقد لغته إلى لغة الكاتب، ورموزه إلى رموز العمل، فإنه "لا
يشوه" الموضوع لكي يعبر عن نفسه فيه، ولا يصنع منه محمولا لشخصيته بالذات.)
وليس لنا من مَثَلٍ نجزيه هنا لتقريب الصورة، إلا مثل الطفيليات التي لا تقتل
حاضنها، بل تستغل وجوده لتعطي لنفسها فرصة الحياة والتكاثر. ولا يعتبر "بارت
" ذلك الفعل "تشويها"، وإنما يعده فرصة ليعبر الناقد عن نفسه من
خلال العمل ورموزه. وهو بذلك يتجاوز العمل وصاحبه إلى ذاته.. لأنه: ( يعيد إنتاج
إشارة الأعمال نفسها، كما لو كانت إشارة منفصلة ومتنوعة.) .. هنا يحق لنا أن
نسأل.. لمن يكتب الروائي والشاعر؟ ألناقد يتخذ من عرقهما مادة يصنع بها ذاته بعيدا
عما أراده الشاعر أو الروائي من لغته، ورموزه.؟.. ألم تقطع هذه "الذات"
بهذا اللون من التفكير، خطوات نحو نرجسية مرضية تتعامى عن الآخر، وتستحل ملكيته،
بل تجتهد في محو أثره ؟. كل هذا ليكون النقد.. والكتابة النقدية، كما تزعم
الحداثة "إبداعا" يضارع الإبداع
الأول، أو يتخطاه !
(رولان بارت- نقد وحقيقة- موت المؤلف- ت. منذر عياشي- ص:
108-
109- مركز الإنماء الحضاري
1994.)
يتبع..
تعليقات
إرسال تعليق