يجتهد
"بارت" في تقرير حقيقة "الكتابة" باعتبارها نشاطا يخرج عن
الفعل التسجيلي الخطي الذي نعرفه، إلى فعل يوحد بين الإبداع والنقد. فهي بهذه
الصفة نشاط ثقافي معرفي يجري على يد المبدعين والنقاد في هيئة واحدة يسميها
"كتابة" فيقول: (يمكن أن
نلاحظ أنه منذ مئة عام، أي منذ "ملارمي"، من غير شك، ثمة تعديل يجري على
أمكنة أدبنا: إن الوظيفة المضاعفة (المزدوجة): الشعرية والنقدية للكتابة، هي التي
تتعارض، وتنفذ، وتتوحد.) ومعناه أن ما تأسس في النقد القديم من تمايز بين الكتابة
الشعرية، والكتابة النقدية، لتمايز حقليهما، واختلاف وظيفتيهما، ونوعية نشاطيهما،
لم يعد كذلك، بل انداحت الوظيفتين في بعضهما بعض، إلى غاية الاتحاد والتوحد.
وسبب ذلك حسب "بارت": (ليس الكتاب وحدهم هم الذين
يقومون بالنقد، ولكن أعمالهم غالبا ما تدلي بشرط ولادته "بروست" أو
غيبته "بلانشو". ثمة لغة واحدة تميل إلى المرور في كل مكان في الأدب،
وخلف الأدب أيضا.) وكأن الذي حدث في هذه المائة عام، فتح الحدود الفاصلة بين
النشاط الشعري والنقدي، وسهل المرور بينهما في حركة واحدة، هي
"الكتابة". ثم يعلن "بارت" على طريقته السحرية عن الانقلاب
الهائل الذي حدث ويحدث، قائلا: (لقد أصيب الكِتَاب بانقلاب، أحدثه كاتبه. فلم يعد
هناك شاعر أو روائي. لم يعد هناك شيء سوى "الكتابة".) هكذا تزول الحدود
وكأنها تذوب مثل الثلج في وهج شمس الحداثة، فلا الشاعر شاعرا، ولا الروائي
روائيا.. بل كلاهما يكتبون فقط. إننا أمام كائن عجيب يولد الساعة بين أيدينا..
"كائن كاتب" يستطيع أن يدعي أنه الشاعر، وأنه الروائي، وأنه الناقد، في
كل لحظة، بل له أن يجعل من خطه على الورق "كتابة" تتراءى فيها كل
الأجناس دفعة واحدة.
ويستمر أسلوب السحر والإغراء على لسان "بارت"،
لتمرير فكرته، وتزيينها في النفوس.. نفوس من يريدون أن يكونوا هذا الكائن العجيب،
"الخنثوي"، ليتمظهرون بالصفات كلها. فيقول: ( ألا فلننظر، ثمة حركة
تكاملية، الناقد يصبح فيها كاتبا.) وهكذا يكون قد أضاف طرفا ثالثا لمكونات الكائن
العجيب. ثم يتساءل فيما يشبه الاستغراب قائلا: (أما نحن، فماذا يهمنا تمجيد المرء
أن لكونه روائيا، أو شاعرا، أو كاتبا يكتب المقالات، أو مدونا يدون الأخبار.) فهذه
التصنيفات لم تعد مجدية في النقد الحداثي، الذي يريد أن ينتهي بالتنوع إلى الواحد،
ويريد أن تموت التخصصات على عتبة التوحد، فلم يعد مهما أن تكون روائيا أو شاعرا..
فتعرف مقامك، وأدواتك، ووظيفتك.. كل ذلك عائد حسب هذا الساحر الساخر إلى أن:
(تعريف الكاتب لا يكون بالدور الذي يقوم به، أو القيمة التي تعطى له، ولكنه يتحدد
فقط بنوع من أنواع "وعي الكلام". وبهذا يكون كاتبا. ) ولنا أن نسأله في حيرة، ونحن ننتظر منه محددات
واضحة نؤسس عليها تعريفنا الجديد للكاتب. غير أنه لا يقدم لنا سوى "نوع من
أنواع وعي الكلام" ولسنا ندري أي وعي هذا؟ هل هو الوعي بأنه أصبح الكاتب يعطي
لنفسه حق اختراق حدود الأجناس والتصنيفات جيئة وذهابا، وأن يكون الفاعل والمنفعل
في آن؟ ينقل من الشعر إلى الرواية، ومن
الرواية إلى الشعر، ومن الشعر إلى المسرحية، ومن المسرحية إلى المقالة.. أو ما سمي
أخيرا بتداخل الأجناس؟؟ لا.. ليس هذا الذي يعنيه "بارت" الآن.. إنه أمر
آخر.. فمتى يكون الكاتب كاتبا؟ يجيبنا "بارت" بغموض الساحر الأكبر
قائلا: (عندما تحدث له اللغةُ مشكلة، تجعله يغوص فيها إلى الأعماق، فلا يقف عندها
أداة أو جمالا.) ؟؟؟
(رولان بارت- نقد وحقيقة- موت
المؤلف- ت. منذر عياشي- ص: 75- 77- مركز الإنماء الحضاري 1994.)
يتبع..
تعليقات
إرسال تعليق