يتخوف كثير من الفضلاء من اتهامنا للمنهج العلمي
بخطواته المعروفة لدى العام والخاص في مجال العلوم الإنسانية عموما، بأنه من
معوقات الإبداع، ومن العثرات التي تسد طرق الانطلاق نحو تفجير الأفكار واستغلالها
بما يكون جديدا على المعرفة، مضافا إليها، بحسب اجتهاد المجتهد، وقدرته على التفرد
والاختلاف. قال بعضهم أننا إذا تخلينا عن المنهج فسنكتب بطريقة عشوائية لا تحقق
لنا العلمية المطلوبة في البحوث، ولا ينال ما نكتبه شرف الانتساب إلى
المعرفة العلمية المعترف بها. وهذا أول الأوهام التي
يزرعها المنهج في نفوس عُبَّاده وملتزميه. لأنك إن سألت مفكرا يعالج فكرة في خلده،
ثم يريد لها أن تكون مسطورة في كتابه ومقالته، فسيقول لك بصدق، أن الفكرة حينما
تكتمل في الذهن، وتتشكل في التصور كيانا قائما بذاته، هي التي ستوجد لنفسها مسلكا
تسلكه للخروج إلى المتلقي لتقنعه بكل أسباب العرض، والحجاج، والمداولة. ومن ثم فهي
التي تشكل منهجها الخاص الذي سيتبعه الكاتب في عرضها لغويا وأسلوبيا. بل قد يقول
لك بعض المتمرسين في فن الكتابة، أنهم لا يفكرون أبدا في ذلك، لأن الفكرة مثل
الجنين، إذا تخلق في الرحم اكتمل فيه الجسد والروح، وأنه سيخرج إلى الوجود كائنا
تام التكوين، متفردا في قسماته متفردا في خصائصه التكوينية. له وجود بين الناس في
فترة من فترات الزمن، في مكان من الأمكنة. أي أنه يأتي إلى الوجود وقد حاز كامل
مقومات الوجود، فإن كان به تشوه ما، فذلك استثناء خلقي لا يصنع قاعدة، ولا يلتفت
إليه. لذلك تراهم في كتبهم يجلسون إليك جلوس الصديق لصديقه، والمناجي لنجيه، يبثون
إليك الحديث سلسا سهلا واضحا في كل سطر من أسطر الكتاب. لا يجدون حاجة في أن
يثقلوا متونهم بقال وقالت، ولا أن يشغلوا بالهم بالرد على علان أو فلان. لأنهم
يسيرون في نسق تحدده الفكرة التي يعالجونها، وقد اكتملت في نفوسهم، فصارت مادة
صالحة للمحاورة.
عدت إلى صنيع مصطفى ناصف رحمه الله، مع الجاحظ في كتاب "محاورات مع النثر العربي" فلم أجد سوى مصطفى ناصف يجلس إلى الجاحظ في الكتاب كله، ثم ينثر حديثه إليَّ في كل صفحة، جديدا لم أألفه عند من كتب عن الجاحظ من قبل ومن بعد.. كذلك كان كتابه "مع الأوابد" حوارا مع الشعر، لا يشوش الجلسات فيه متطفل آخر يعترض بقول أو يحول بظن.. نعم قد أقبل منه وأرفض ولكن حرارة الحديث تقول لي أن الرجل اجتهد، وأنه أحس أن اجتهاده فلذة من فلذات الفكر المبدع، وأنه عليه أن يخرجه للناس طازجا لا تخامره روائح من هنا وهناك.. هكذا أرى الإبداع في النقد والفكر. وهكذا أحسب أن المعرفة ستتقدم خطوات إن نحن أتحنا لها فرص ان تقول أشياءها بغير قيد نفرضه عليها من خارج طينتها ومائها..
عدت إلى صنيع مصطفى ناصف رحمه الله، مع الجاحظ في كتاب "محاورات مع النثر العربي" فلم أجد سوى مصطفى ناصف يجلس إلى الجاحظ في الكتاب كله، ثم ينثر حديثه إليَّ في كل صفحة، جديدا لم أألفه عند من كتب عن الجاحظ من قبل ومن بعد.. كذلك كان كتابه "مع الأوابد" حوارا مع الشعر، لا يشوش الجلسات فيه متطفل آخر يعترض بقول أو يحول بظن.. نعم قد أقبل منه وأرفض ولكن حرارة الحديث تقول لي أن الرجل اجتهد، وأنه أحس أن اجتهاده فلذة من فلذات الفكر المبدع، وأنه عليه أن يخرجه للناس طازجا لا تخامره روائح من هنا وهناك.. هكذا أرى الإبداع في النقد والفكر. وهكذا أحسب أن المعرفة ستتقدم خطوات إن نحن أتحنا لها فرص ان تقول أشياءها بغير قيد نفرضه عليها من خارج طينتها ومائها..
تعليقات
إرسال تعليق