لماذا تجتهد الحداثة في تثبيت زعمها بنهاية
"عصر الناقد" وحلول "عصر القارئ" ؟.. ولماذا الاجتهاد في
تجاوز المعيار والتقليل من قيمته؟ وهل في تغييب الناقد من فائدة تضاف للإبداع،
فيستفيد منها في إنجازاته المستقبلية؟ وهل كان الناقد معترضا دوما طريق الإبداع،
يحد من توثّبه وانطلاقه؟.. أم أن وراء هذا الانقلاب الثقافي أسرارا أخرى، لن نصل
إليها في يوم من الأيام، دون تفكيك المرتكزات التي يقوم عليها الادعاء الجديد؟.. كان "بارت" يقر بأن: ( النقد قراءة عميقة)
ولكنه يسارع ليكتب بين قوسين هكذا: (أو هو أيضا: قراءة جانبية.)، ولكنه يستمر في
إقراره ذاك فيقول: (وهو يكتشف في العمل معقولا معينا، وإنه في هذا، والحق يقال،
ليفكك تأويلا ويشارك فيه.). تلك مقدمة توهمنا بأن للنقد في فكر "بارت"
الجديد، مكانة تحفظ له شرف الوجود التاريخي على الأقل. غير أنه يستدرك قائلا: (
ومع ذلك، فإن ما يهتك النقد ستره، لا يمكن أن يكون هو المعنى.) لماذا؟ :
("لأن المعنى يتراجع دون توقف حتى يصل إلى فراغ الذات".). فمن الواضح
إذا، أن النقد لا يمكنه أبدا أن يصل إلى المعنى الهارب دوما وراء أغوار الذات
وفراغها.. والذات هنا ذات القارئ، وليست ذات المبدع بأي حال من الأحوال، كما رأينا
من قبل. وإذا عجز النقد عن الإمساك بالمعنى وهتك أسراره، ولا كيفة مطاردته في
غيابات الذات. فلم يبق أمامنا إزاء هذا العجز إلا وهم أخير يجب التخلص منه: ( إن
الناقد لا يستطيع، في أي شيء من الأشياء، أن ينصب نفسه بديلا عن القارئ.) وكأن
القارئ وحده هو القادر على سبر أغوار الذات، وتقصي تخومها الموغلة في الفراغ. بيد
أن منطق التاريخ يقتضي أن ينصب القارئ نفسه بديلا عن الناقد وليس العكس، فقد عرفنا
الناقد أولا، ولم نعرف بدعة القارئ إلا مع النقد الحداثي. ولكن الانقلاب في
الموازين هو كذلك انقلاب في الأولويات في عرف الحداثة. هكذا تنطلي الحيلة على
القارئ الذي لا ينتبه إلى مثل هذه الانقلابات التي يريد "بارت " من
ورائها تمرير فكرته التي تحط من شأن الناقد، الذي لا يجوز له أن يدعي لنفسه فائدة
مما يقوم به : ( فإنه لمن العبث أن يستخلص لنفسه فائدة، أو نطلب منه هذا، حين يعير
لقراءة الآخرين صوتا مهما جل جلاله. وكذلك الحال حين يجعل من نفسه قارئا يسند إليه
القراء الآخرين مهمة التعبير عن مشاعرهم الخاصة بسبب معرفته وحكمه.) هكذا، يتقدم
"بارت" في فكرته، وليس له من هم سوى إبعاد الناقد من حقل الأدب. ووسمه
بعدم القدرة على هتك أسرار المعنى، ثم إزالته من منصبه وسيطا بين الإبداع والقراء.
غير أنه يجوز لنا أن نسأل
"بارت" عن علة ذلك الوسم، وتلك الإزالة، والإبعاد.. ما سببها العملي؟
حتى نقبل منه ذلك الانقلاب، أو نتجوز في قبوله على أقل تقدير.. وعلى عادته يسبقنا
"بارت" إلى ذلك، وكأنه يقطع الطريق علينا فيقول: ( ولكن لماذا؟ إننا إذا
عرفنا الناقد بأنه قارئ يكتب، فهذا يعني أن هذا القارئ سيلتقي بوسيط خطير : هو
الكتابة. ) هل هذه هي حجتك؟ أنه يلتقي بوسيط خطير هو الكتابة؟ وماذا يفعل القارئ
الذي تروج له؟ أليس لقاؤه هو كذلك بالكتابة؟
إلا أن يكون لك في الكتابة شأن آخر، لم نتعود عليه بعد؟.. فيقول: (إن
الكتابة بشكل ما، تهشيم للعالم "الكتاب" وإعادة لخلقه. ) هكذا إذا،
الكتابة تُهشِّم "الكتاب" ثم تعيد خلقه من جديد! هل فاتنا شيء لم ندركه
من كلام "بارت"؟ وماذا كان يصنع النقاد من قبل؟؟ بل ماذا يفعل القارئ
الذي يفرضه "بارت" بديلا عن الناقد؟ وسينتابنا العجب حينما نجد
"بارت" لا يعرف ماذا يصنع القارئ بالكتاب! فهو يقول في بيان الاختلاف
بين الناقد والقارئ: ( ثمة انفصال آخر بين القارئ والناقد: فينما نحن لا نعرف كيف
يكلم القارئ كتابا، نجد الناقد مضطر أن يتبع "لهجة" معينة، ولا يمكن
لهذه اللهجة إلا أن تكون ذات صبغة تأكيدية.) لا نعرف كيف يكلم القارئ الكتاب،
لأننا في حقيقة الأمر لا نعرف من هو القارئ أصلا! لا نعرف من هو، ولا نعرف
إمكاناته المعرفية والثقافية، لا نعرف انتماءه وهويته! إنه مجهول دوما بالنسبة لنا
وبالنسبة للنص.. أما الناقد فغير ذلك، لأن ما يتحدث عنه "بارت" باسم
"اللهجة" ليس سوى "المعرفة" التي يؤول إليها القارئ في تفكيكه
لعالم النص، وأن هذه المعرفة يجب أن تتشح بقدر من الوثوقية إن أرادت أن يصدقها
القراء فيما تنتهي إليه من معنى..
(رولان بارت- نقد وحقيقة- موت المؤلف- ت. منذر عياشي- ص:
109-115-117- مركز الإنماء الحضاري 1994.)
يتبع..
تعليقات
إرسال تعليق