كلنا
ندرك اليوم أن "علمنة الأدب" هي نتاج الفلسفة الوضعية التي جاءت من شرط
اعتبار العمل الأدبي "موضوعا" "شيئا" تجري عليه جميع أحوال
معاينة الأشياء وأدوات دراستها، واستنتاج خصائها، والانتهاء بها إلى تصنيفات،
وجداول، وحدود.. فمعاينة الموضوع لا تفرق بين موضوع وآخر، وإنما تجري ما تجريه على
كل المواضيع، بغية الوصول إلى حكم موضوعي حيادي يمكن أن يوصف بالحكم العلمي. لذلك
جنحت المناهج الحداثية إلى اللسانيات، التي عاملت اللغة باعتبارها موضوعا قابلا
للملاحظة، والتصنيف، والإحصاء .. وقابلا لاستصدار أحكام توصف بالأحكام العلمية.. ولهذا السبب نجد "بارت" - منذ البدء على عادته- يستعمل أسلوب الجزم
ليوهم القارئ أنه يقف على حقيقة لا تقبل النقاش، وأنها اليوم في الدرس الأدبي، مسلمة من المسلمات العلمية.
إذ يقول: ( إننا نملك تاريخا للأدب، وليس علما للأدب. ) جملة يضعها أول الفصل ليتم عليها بناء ما تبقى
من أحكام، واستخلاص ما يلي من آراء. ولا يتركها من غير تعليل إذ يقول: (ولعل السبب
يكمن من غير ريب، في أننا لم نستطع حتى الآن أن نعرف طبيعة موضوع الأدب معرفة
كاملة، مع أنه موضوع مكتوب.) إن القارئ الذي يتريث في قراءة هذه العبارة ويعيدها على
نفسه مرارا، يدرك مدى المخاتلة فيها. ف"بارت" يدفع بين يديه عبارة
"بلا ريب" ليوهم القارئ أن الأمر "من غير شك" وأنه" واثق
من ذلك " وما عليك أيها القارئ إلا أن تواصل القراءة.. هذا اليقين الذي يتجلى
في كوننا منذ مئات السنين لم "نعرف طبيعة موضوع الأدب" هناك جزء ناقص، "معرفة غير كاملة"
على الرغم من أن موضوع الأدب موضوع "مكتوب". قد نتوهم أنه يقصد أن الأدب
وموضوعه موجودان في الكتب كتابة! لا ليس هذا قصده! لأن مفهومه للكتابة مختلف عن
مفهومنا، فقد غيره كما رأينا من قبل.. هذه الفجوة التي يفتحها بارت في موضوع الأدب
"غير المكتمل معرفة" هي التي ستمكنه من إضافة ما يريد.. لذلك يجب الإقرار أولا أن العمل الأدبي: (صنع
من كتابة) فحين الإقرار بهذا فإن: (علما للأدب يصبح ممكنا) ولنا أن نسأل بسذاجة
فجة: هل للأدب من وسيط آخر غير الكتابة؟ هذا إذا استثنينا الآداب الشفوية المعروفة
المتداولة بين الشعوب! فكيف يكون مجرد
الإقرار بكون الأدب كتابة، يفتح باب فيه باب العلمنة؟ وبخطاوات الساحر الذي يعرف
كيف يدلس على المشاهد الذي ابتلع الطعم، يواصل
"بارت "في شيء من التواضع الممجوج قائلا: ( إن موضوع هذا العلم
"إذا وجد في يوم من الأيام" لا يمكن أن يكون في فرض معنى من المعاني على
العمل، وذلك لكي نرفض باسمه المعاني الأخرى: إن هذا يعرض العلم نفسه إلى مخاطر.) إن الذي نستخلصه سريعا من هذا الحديث، أن العلم الذي
يقترحه "بارت" لا علاقة له بالمعنى، ولا شأن له به. بل لا يريده أن يكون
علما – كما هو شأن العلوم الوضعية الأخرى- أن ينتهي إلى حقيقة واحدة، يعبر عنها
القانون المستخلص منها. فهو لا يريد هذا النوع من العلم في الأدب. لأن المعنى الذي
سينتهي اليه العلم، إذا طُبق على النص الأدبي سيمحو المعاني الأخرى المحتملة،
ويبطل التأويل، لأنه في عقيدة العلم
الوضعي عدم قبول التعدد في حقيقة الموضوع الواحد الموضوع تحت طائلة
الملاحظة. إن مجرد قبول هذا النوع من العلم الذي يستبعده "بارت" يعرض
علمه الذي يريد إلى خطر.. فهو يريد علما فارغا من المعنى أو علما لا صلة له
بالمعاني، أو علما شكليا فقط. لذلك نراه يصرح بقوة قائلا: (لا يمكن لهذا العلم أن
يكون علما للمضامين "فتلك لا يستطيع أن يسيطر عليها سوى علم التاريخ الأكثر
دقة" ولكن يمكنه أن يكون علما لشروط المضمون، أي للأشكال.) لنترك إذا المعاني
والمضامين للتاريخ، ونولي وجوهنا شطر الأشكال، نصف أحوالها والتغيرات التي تطرأ
عليها، والتجديد الذي يصيبها.. فليس لنا شأن بما يقوله الشاعر، والروائي،
والقصاص.. هذه أمور لا يمكن السيطرة عليها، وإنما نتركها للتاريخ يحصيها، ويدونها
باعتبارها من مضامين عصر من العصور.. وزمن من الأزمنة. بيد أن الكلمة المضللة في
العبارة هي كلمة "شروط المضمون"! فما المقصود بالشروط؟ هل هي السياقات
البنيوية التي تتخلق فيها الأشكال؟ أم هي الشروط اللسانية التي تتحرك ضمن آليات
اللغة في الكتابة؟ فعلمه المقترح الذي سيكون علما لشروط المضمون يهتم: (بالمعاني
الممكنة التي تحدثها الأعمال.. وباختصار فإن هدف هذا العلم، لن يكون المعاني
الممتلئة، ولكن سيكون على العكس من ذلك، المعنى الفارغ الذي يحملها جميعا.) وسيكون
الأثر الأدبي الذي اجتهد صاحبه في ملئه بالأحداث، وشحنه بالعواطف، ووطّنه في
الزمان والمكان، ولوّنه بالمحلية، أو وشّاه بالعالمية، ودفعه ليكون مؤثرا متأثرا
بالسياقات المختلفة التي تكتنفه.. عملا فارغا.. خاويا.. ولا ينظر العلم الجديد إلا
في إمكانيات ملئه من جديد، بما تريده القراءة احتمالا وتعددا. هذا الفراغ الذي
يزعم "بارت" أنه سيحمل المعاني كلها..
يمكننا اليوم أن ندرك من خلال ما نقرأ ونشاهد، مدى
"الخراب" الذي أحدثه مثل هذا التنظير، والذي جرت وراءه أقلام كثير من
النقاد العرب شرقا وغربا، فلم يقدموا للأدب المحروم نصا نقديا واحدا،يحترم خصوصيته، وجماليته، ورسالته..
(رولان بارت- نقد وحقيقة- موت
المؤلف- ت. منذر عياشي- ص: 91- 92- مركز الإنماء الحضاري 1994.)
تعليقات
إرسال تعليق