حينما نقرأ ل "رولان بارت" تفكيره
النقدي، يجب أن نضع في اعتبارنا أننا لا نقرأ لناقد مدرسي يكتب عمله وفق خطة
منهجية مدروسة سلفا، موضوعة في ورقة جانبية يتبع خطواتها عنصرا بعد عنصر إلى أن ينتهي
إلى خاتمة تصفف فيها النتائج التي انتهى إليها في بحثه ذاك. وإنما نحن مع بارت
أمام رجل يفكر تباعا، أي أن النص النقدي يتطور بين يديه ساعة الكتابة لحظة وراء
أختها. وكأنه وهو يحاور الفكرة يتحول معها من صعيد إلى آخر تحولات مختلفة، قد تكون
ممهدة فيسهل الانتقال معها من حال إلى حال أو تكون فجائية فنشعر بالدوار ونحن نقذف
معها من طرف إلى آخر أبعد وأوسع. ذاك هو "بارت" المتفلسف في حقل النقد،
لا يمكن أن نجد معه يقينا في المصطلح ولا في اللغة، ولا في مدلول العبارات التي
يرسلها، بل علينا أن نتخيل.. أن نعيد بناء التصورات التي ينشئها لنفسه ويتحرك
خلالها وكأنه يحاور نفسه أولا وأخيرا.. فلا يعطي فرصة للقارئ أن يتابعه برفق
وتوأدة. ها هو الساعة يقول: (إن الكتاب عالم) وتلك حقيقة لا يمكن أن يحيط بها
القارئ إذا لم يتوقف قليلا للنظر في شأن الرواية مثلا، أو القصيدة لا يرى فيها كتابة
وحسب.. بل ليدرك أنها في حقيقة الأمر "عالم" تقدمه اللغة في مشقة كبيرة،
وهي تحاول أن ترفعه من خلال "التخييل" إلى عين القارئ، حين تتوارى
الكلمات فاسحة المجال أمام المشاهد، بما يعمرها من حركات وأفعال ومشاعر، وما
يكتنفها من أزمنة وأمكنة.. "عالم" يضج بالحياة والحركة. هذا العالم الذي
يشقى وراءه كما تشقى اللغة، ناقد: ( يكابد إزاءه من شروط الكلام ما يكابده الكاتب
إزاء العالم.) وهو إفصاح مكثف عن دائرة
إبداعية، تبدأ بتفكيك العالم المعطى على يد الكاتب لتحويله إلى لغة.. تلك العملية
التي تشبه إدخال جمل في سم الخياط، وتنتهي بتركيب يقوم به الناقد لعالم مواز ينشئه
من كلمات وجمل يعتصر منها منتهى ما تستطيعه من ظلال لتأثيث ذلك العالم الجديد الذي
ينشأ بين يديه.. ولا يكون بأية حال من الأحوال مطابقا لما كان في متصورا في ذهن
الكاتب.. سيكون مقاربا، مشابها.. وما شئنا من درجات القرب والبعد وذلك لاختلاف
أزمنة القراءة وجمهور القراء.. يسمي "بارت" هذه "المسافات" التي تنوع التلقي
"تشويها" فلا اللغة بقادرة على أن تحمل العالم كما هو في خلد الكاتب،
ولا هي قادرة على أن تقدمه كما هو في تصور القارئ.. غير أن هذا التباين لا يمكن أن
يكون في كل الأحوال تشويها.. بل هو طارئ من مقتضيات الأدب في مواجهته لجمهوره..
ساعتها يتساءل "بارت" عن المسؤول عن هذا التشويه، وهذا الزيغ في التلقي
قائلا هل هي: (الذاتية التي جعلوا منها للنقد الجديد قضية القضايا؟) إذ ليس للقارئ
إزاء نص روائي إلا ذاتيته يمتح منها ما يمكن أن يكون عونا له على بناء عالمه
الجديد. تلك الذاتية التي كونت من سياقها الثقافي والمعرفي ما يمكنها من إعادة تأثيث اللغة بدلالات
تناسبها في مشروعها القرائي. إنها عين الذاتية التي اجتهد النقد الحداثي في
محاربتها، ووسم نتاجها بالاعتباط والانطباع.. لا يجد "بارت" بدا هنا من
الدفاع عنها ورفع الحيف عنها قائلا: ( إننا نفهم عادة أن النقد "الذاتي"
خطاب متروك تماما إلى فطنة "الذات" ) وأن هذه الذات: (لا تعير الموضوع
أي اهتمام.) وأننا نفترض أنها : ( مقتصرة على التعبير الفوضوي، وعلى ثرثرة المشاعر
الفردية.) هذا ما هو مفهوم لدى الغالبية من الدارسين، يعيد "بارت" سرده
من جديد، للتذكير بالتهم الموجهة إلى الذات والذاتية. ثم يقوم بالمرافعة من أجل
إعادة الاعتبار إليها، فيقول: (ويمكننا أن نرد على هذا الزعم، بأن الذاتية المنظمة
ذاتية مثقفة "تنتمي إلى ثقافة" وتخضع لمقتضيات عظمى، وهذه المقتضيات هي
نفسها ناشئة من رموز العمل.) ولسنا ندري الآن أمام هذه المرافعة العجيبة، كيف تكون
الذاتية منظمة.. مثقفة؟ ونحن نعلم أن كل الذاتيات تنتمي حتما إلى ثقافة مهما كانت
قيمة تلك الثقافة. ولنا أن نتساءل عن المقتضيات العظمى، ما هي أولا؟ كيف تنشأ من رموز
العمل ثانيا؟ ربما تكون الذاتية المنظمة التي يدافع عنها "بارت" هي
ذاتيته الخاصة، التي يكتب بها تفكيره ونقده.. يريدها أن تكون ذاتية مثقفة، منظمة،
تستخلص معرفتها مما توحي به نصوص الأعمال الأدبية التي يشتغل عليها. كل ذلك ليعطي
شيئا من المصداقية لما يقوله ويكتبه الآن. وربما كان هذا سبب تحامله على
"الموضوعية" التي يطالب بها "علم الأدب" و"النقد
الحداثي" حين يقول: ( وربما كان لمثل هذه الذاتية حظ في مقاربة الموضوع
الأدبي أعظم من موضوعية جاهلة عمياء، ومنغلقة على نفسها، وتختبئ خلف الأدب
كاختفائها خلف طبيعة.) صحيح يمكن للقارئ الذي يعرف سياقات هذا الكلام أن يدرك أن
"بارت" يشير إلى موضوعية النقد الكلاسيكي ممثلا في "بيكار"
خصمه الشهير في السربون، وأن هذا التفضيل للذاتية على الموضوعية ضرب من السخرية
بالمقرر النقدي الذي لا يفسح مجالا للهذيان "البناء"
و"الذاتية" المثقفة.
(رولان بارت- نقد وحقيقة- موت المؤلف- ت. منذر عياشي- ص:
107-
مركز الإنماء الحضاري 1994.)
تعليقات
إرسال تعليق