( الكتابة هدم لكل صوت، ولكل أصل. فالكتابة هي هذا
الحياد، وهذا المركب، وهذا الانحراف الذي تهرب فيه ذواتنا. الكتابة هي السواد
والبياض، الذي تتيه فيه كل هوية، بدءا بهوية الجسد الذي يكتب. لقد كان ذلك كذلك
دائما من غير ريب.) حينما يقرأ العربي مثل هذا القول الذي وضعه صاحبه تحت عنوان
كتاب له (نقد وحقيقة) يقف في حيرة وريبة. فهو أمام علم من أعلام النقد الحديث،
وناطق باسم الحداثة يدرك جيدا ما يقول وما يكتب. وهو في المقابل أمام فعل الكتابة
الذي يعلم أنه لا يتأتى لأحد من الناس إلا عن طريق التراكم المعرفي الذي حصّل عليه
من خلال معاشرته للنصوص وحفظها وتدارسها.. فكيف تكون الكتابة هدما؟ هل عليه إذا
أراد أن يكون مبدعا أن يهدم ما أنجزه السابقون ليفسح لنفسه مجالا يصب فيه كتابته؟
وهل ينتظر من آت بعده أن يكنس الأرض من تحت قدميه لينشئ كتابته هو الآخر؟.وهل عليه
أن يُسكتَ كل الأصوات التي سبقته ويمحو أثرها من نفسه -على الأقل- ليسمع صوت نفسه
في خلوته؟ ثم لماذا هذه الكلمة القوية كلمة "الهدم"؟ هل ما أسسه غيره لا
يستحق من تقدير سوى هذا الصنيع العنيف الذي يدك ما شُيّد وما بُني من قبل حتى وإن
اعترف له الذوق في زمن معين بالجودة والإفادة؟. قد نتجاوز هذا الأمر قليلا ونَقبل
بأمر الإبداع أنه مزاحمة للكائن الموجود، ولكن كيف نقبل أن الهدم سيطال الأصول
كذلك؟ ونحن ندرك أن الفنون لن تقوم لها قائمة تجنيسية إلا من خلال هذه الأصول حتى
وإن ابتعدت عنها أو استدبرتها في أعمالها التجريبة؟ ف (كل) تعني الاستغراق
والشمول.. فليس في أذهان هؤلاء ما يتركونه قائما شاهدا، بل في أذهانهم ما يشبه
الخراب والأرض المحروقة.. ثم لا نعرف كيف سيكون هذا الفعل حياديا؟ وتجاه من سيكون
كذلك؟ وقد أُعلن الهدم في جميع الآتجاهات وفي جميع الأصول؟
(رولان بارت- نقد وحقيقة- موت المؤلف- ت. منذر عياشي- ص:
15-16- مركز الإنماء الحضاري 1994.)
يتبع..
تعليقات
إرسال تعليق