يعترف "بارت" ابتداء بأن
الكتابة في النقد القديم لم تكن خطا على ورق وحسب، وإنما هي نشاط يتجاوز ذلك
الصنيع إلى الفعل. ومنه تأخذ الكتابة خطرها الحضاري الكبير فيقول: (نحن نعلم أننا
لا نستطيع أن نكتب بطريقة أخرى إلا إذا فكرنا بشكل آخر.) وكأن التفكير هو الذي
يفرض على الكتابة شكلها وطريقتها في الأداء، أو أنه منها أصالة، فإذا تغيرت
طبيعتها تغير تباعا لذلك، شكل التفكير فيها. وكأننا إذا أردنا أن نغير شكل الواقع
فما علينا إلا أن نغير شكل الكتابة لأنه فعل يؤثر فيه فهما وتحويلا. فيقول معللا
مذهبه: ( ذلك لأن الكتابة تعني تنظيم العالم، كما تعني التفكير.) فكل ما ينتج عن
الكتابة من تسجيل خطي إنما هو في الواقع تفكير، وأن غايته الأخيرة هي تنظيم العالم
من جديد.. هذه هي مهمة الكتابة في أبعد تجلياتها الحضارية، مهما كان محتواها فنيا
أو معرفيا.
بيد أنه حينما يأتي إلى الكتابة الحداثية، يقدم
بين يديه خلاصة ما يعتقده المثقفون المعترضون على تفكيره في زمانه، في هذا الشكل
الجديد الذي بدأ يكتسح الساحة الأدبية فيقول: (ولقد نعلم أنكم لا ترون في لغة
النقد الجديد سوى شواذ في الشكل غلفت بتفاهات في العمق.) إذ كيف نجيز لأنفسنا
استبدال لغة تطمح إلى إحداث تنظيم في العالم، بلغة تريد تهشيمه وهدمه، وتبدأ
بتهشيم اللغة ذاتها.. لأنه يدرك أن البدء يجب أن يكون من نزع الروابط بين الدال
والمدلول، وتسريح اللغة في فضاء لا قبل له ولا بعد.. فيقول: ( لا وجود لإعادة
الكتابة في الأدب، لأن الكاتب لا يملك لغة قبلية يستطيع بها أن يختار التعبير من
بين بعض الأنظمة المتجانسة، "وهذا لا يعني أنه لا يبحث عنها بجهده كله"
) وكأن كل كتابة في الأدب، لا بد أن تكون جديدة، لا تستند إلى تجارب سابقة، يمكنها
أن تستفيد منها.. إنه يعترف أن الكاتب يبحث عنها، ولكنه يجب أن يبدأ بدايته
الجديدة. وإذا سألناه لماذا هذا التنصل من المثال والنموذج؟ أجاب قائلا: (ثمة وضوح
في الكتابة، ولكن صلة هذا الوضوح مع" ليل المحبرة" الذي تكلم عنه
"مالارمي" أكبر من صلته مع أي محاكاة معاصر لفولتير أو لنيزار. ) ربما
تكون هذه الصورة التي قدمها "بارت" أشد إغراء للمبدعين وهم يواجهون
"ليل المحبرة" هاربين من سلطة النموذج، متنصلين من تكرار غيرهم في
كتاباتهم، أدعى إلى تبني هذا الاتجاه. ونعترف بدورنا أن فيه كثير من الصدق في مجال
الكتابة الأدبية.. غير أننا ندرك إلى أين يريد أن يذهب بارت أخيرا. لأنه يقول
بعدها: ( الوضوح ليس صفة من صفات الكتابة، إنه الكتابة نفسها، إنه سعادة
الكتابة..) فيخيل إليك أن الرجل قد أفاء إلى رشده، وأنه يعترف بهذا الأسلوب الساحر
للكتابة بشرطها التاريخي القديم، غير أننا نلمح أن الوضوح الذي جعله من
"سعادة الكتابة" هو ما يتوجب على الإبداع طمسه، وإطفاء نوره، وتفضيل ليل
المحبرة عليه. فالعلاقة التي يجب أن تقوم بين الكاتب والكتابة، علاقة معقدة، لأن:
(الكتابة تحديدا، ليست التزام علاقة سهلة، ولا هي وساطة ربط بكل القراء المحتملين.
إنها بالأحرى، التزام علاقة صعبة مع لغتنا نفسها.)
تقد وحقيقة- رولان بارت – ترجمة منذر عياشي- ص: 59-60- مركز الإنماء الحضاري
1994-
تعليقات
إرسال تعليق